}
عروض

تراجيديا "مُؤنس الملك" الوجودية في رواية المغربي ماحي بينبين

عمر شبانة

27 يونيو 2019
يفتتح الروائي المغربي- الفرنكفوني ماحي بينبين روايته "مؤنس الملك" (الصادرة حديثاً عن نوفل- هاشيت أنطوان- بيروت) بعبارة من فكتور هوغو يخاطب بها طائر الشحرور: "مسكين أنت.. كم تُخفي سعادةُ المهرّج آلاماً دائمة لا شِفاء منها/ كم هي حزينة مهنة الإضحاك". وهذا ما تعكسه سيرة "بطل" هذه الرواية، الفقيه محمّد بينبين، وهو والد مؤلف الرواية أيضاً، كما تعكس شقاءً ومأسويةً يعيشهما في ظل مهنته التي تتلخّص في إضحاك الملك وتسليته بأي وسيلة، من القصص والحكايات والشعر والنكات التي يحفظها. ليطرح الروائي سؤالاً من أسئلة الوجود، سؤال الجَبر والاختيار في حياة الكائن؟ فمتى نختار، ومتى نطيع مُجبرين لا حَولَ لنا؟
الراوي يصف نفسَه على صعيد إمكانياته التي جعلت منه المؤنس للملك "نعم، أدين بكلّ شيء إلى ذاكرتي، التي عرفتُ بغريزتي كيف أستفيد منها منذ نعومة أظافري. دراسة القرآن والحديث كانت بالنسبة إليّ أمراً في غاية السهولة، كما أن حفظ ألف بيت من الشعر لأتمكّن من قواعد اللغة كان بالنسبة لي بسهولة شرب ماء... أما في الشعر، فلا يوجد شاعر لم أحفظ ديوانه كاملاً. هذه حقيقة الأمر، ولا طاقة لي به. عبثاً حاولتُ إفراغ فكري من الأمور التافهة التي تزدحم فيه".
وفي مساره قبل أن يصبح مُسَلّياً ومُسامراً لـلملك، نلتقي بالفقيه المؤنس وقد درس في جامعة ابن يوسف، واستـوعب العلوم الدينية، وارتـوى من الآداب، وأسعفته ذاكرته على الحفظ، وأسـعفه الحظ بالتعـرّف إلى الشاعر الشهيـر مـحمد بن إبـراهيم بن السراج المراكشي (1897 – 1955)، وعاشره في سهراته المجونية، وكان يحفظ الأشعار التي يـرتجلها المراكشي في الحانة ويـنساها بـتـأثير من نشوة الخمر، فـيفاجئه الفقيه محمّد بـحفظها في ذاكـرته، ويبيعا له بأثمان متفاوتة بحسب "قيمة القصيدة".
كانت هذه مؤهِلات لدخول القصر بوظيفة المؤنس، وعن العلاقة بالقصر ودخوله يقول "نـدخـل إلى القصر الملكي مثلما نعـتنق مِلّة، لأن الانخراط في سِـلْكِـه يكون كاملاً، كـلياً، باتجاهٍ واحـد. عندما نـنخرط في القصر الملكي، لا يعود هناك تـراجع مـمكن". لكن إخلاصه للملك، وإعلانه البراءة من ابنه الضابـط "الانقلابيّ"، لم يشفعا له، فغضب عليه وأقصاه، ما دفعه ليغادر القصر، ويعود إلى بيـته وزوجته وولديْـه الآخريْن، لكنّ سُخط الأسرة كان يـنـتـظرهُ جـرّاء
إنـكاره أبـوّتـه للابن المـعتقل. و"كان جرحاً عميقاً جعل الفقيه المؤنس يعيش معزولاً، شـقـياً. لكنه استأنف عمله في القصر، في مرحلة دخل الملك إلى المرض الخطير الذي سـيودي، وأودى بحياته".
وما بين تسميته بلقب "مؤنس الملك" و"مهرّج الملك" و"مجنون الملك"، عاش الفقيه بينبين في عهد الملك المغربي الحسن الثاني (1961- 1998)، كواحد من أقرب المقرّبين إليه في قصره، ليقوم بدور "إضحاك" الملك ومؤانسته في أوقات يكون الملك مستوحِشاً، أو كما يقول السارد، وهو بطل الرواية أيضاً "حين تُنشب الوحوش القابعة في بطنه (بطن الملك) مخالبها.  كنا نسير جنباً إلى جنب كصديقين قديمين، بدون أن نتحادث، أو يقتصر حديثُنا على كلماتٍ قليلة جداً".
وبخصوص مهنة مؤنس الملك، فهي تقليد ذو طقوس ملَكية عتيقة في الأسرة الحاكمة التي يحــظى فيها المـهرجون والمـؤنسون وحاشية صاحب الجلالة، بـالاعـتـبار. وفي عـهد الحسن الثاني (1961- 1998)، لـوحظ اهتمامه بالحاشية المقربة التي تجالسه وتسلّـيه، وكان يتـمّ اختيارها من خلال مقايـيـس محددة، حيث يجب أن يتوفـّر أعضاؤها على مواهب الـفكاهة والـظـُّـرْف، ومـعـرفة بالأدب والـثقافة الشـعبية.
تكرر الرواية، منذ بدايتها، عبارة "كان كلّ شيء يبدو طبيعيّا، لكنّ الحقيقة غير ذلك تماماً"، تكراراً يجعلنا نتوقع حدوث شيء طارئ. وبالفعل، فالرواية المكتوبة بلسان البطل، وقريباً من أسلوب السيرة الذاتية، تبدأ بمشهد الراوي/ المؤنس يتمشى ليلاً في حديقة القصر، مع الملك الذي يعاني بشدّة من آلام في بطنه، حتى إنه "يعجز عن السير مستقيماً"، لكن الملك يلحظ ضوءاً غير طبيعيّ في قاعة الهدايا، فيُصرّ على معرفة ما يجري، وإذا بأحد الخدم يحمل كميّة من الهدايا، فيظهر الملك في موقف غريب، إذ يسمح للخادم أن يهرب بما سرق.. "هيّا، قال للسارق، أسرع بالهروب. إذا باغتك حُرّاسي فالشنق سيكون مصيرك". فهل هو شعور الملك بــدُنـوّ الأجل، جعله يـغـيّـر من طبيعته القاسية؟! لأن الملمح الثاني المعروف للملك، أنه قد يعاقب "لأتفه الأسباب".
ورغم أن مكان الرواية الأساس هو القصر، فهي لا تتوغّل في شخصية الملك، لكن ثمة
إشارات إلى "طبـيعته التي تحتـقر المواطن وتـعـتـبـر مجموع الشعب "رعـيّة" في خدمة الملك وتـقديســه ومـباركة قـراراته". لكنّ الحضور الأساس هو للمؤنس، لا للملك. فالسيرة هي سيرته، وكونها كذلك فقد جاءت في لغة بسيطة، لكنها عميقة وتنطوي على الكثير من الحكمة والفلسفة. فالسارد/ المؤنس، صاحب الذاكرة الخرافية، يصف مشاعره في ما يخص قُربَه من الملك، بقدر من الوضوح والصدق والبساطة تقترب من لغة السِيَر الشعبية أيضاً، يقول "كان قُربي من صاحب الجلالة يمنحني غروراً لا يُمكنني إخفاؤه، ونوعاً من السلطة كنت أرى قوّتها في نظرة خصومي الملتمعة. الواقع أنني كنت أملك السلاح الأكثر إثارة للخوف في نظام الملكيّة المُطلقة: أُذُن الملك". وبالنسبة إليه فإن "مَن يَملك أُذن المَلك يساوي المَلك قوّة".

مأساة المؤنس
اللحظات التراجيدية الأقسى في حياة بينبين، هي التي جرى فيها اكتشاف محاولة انقلابية على الملك، ويظهر فيها ابن المؤنس واحداً من المخطّطين للانقلاب الفاشل (الصـخيـرات" عام

1971، وأمضى 18 سنة في سِـجـن تازمامرت الشهير)، ويكون عليه أن يجد نفسه بين ابنه الذي تمّ إيداعه السجن وبين الملك، لكنه لا يتردّد كثيراً في الوقوف مع مولاه الملك، متبرئاً من ابنه. هنا تظهر مأسويّة هذه الشخصيّة و"قسوته" حيال الابن والعائلة، بقراره التخلّي عن ابن كان يمكن أن تكون عقوبته الإعدام. في المقابل، تقدّم الرواية مشهد خروج الابن من السجن، ولقائه بأخيه، والطلب إليه زيارة والده. هنا سنشهد اللقاء الحميم بين الأب وابنه، بناء على طلب الابن الخارج للتوّ من الاعتقال، فعندما التقيا دخلا في نوبة من البكاء كما لو كانا طفلين.
الفصل الأخير من الرواية يحكي عـن آخـر لقاء بيـن الملك والمؤنس، بـعد أن استـفحــل مرض الملك وأشــرف على الأفــول. عـن ذلك اللقـاء يـقول الــسارد "لا هـو ولا أنا، كـنا نـريد أن نــغـشّ. ســيدي كان يـنـتظـر مني أن أنـظـر إليه كما نـنـظـر إلى صديق يُـحـتضَـر، لا يحتاج إلى الكذب. كان قلبي يـخـفـق بـشـدّة وأنا أقـدِمُ على حـركــة غير معقـولة، كنت أستـحق عليها مـائة جـلدة. حـركة ما كان لأحــدٍ أن يسـمح بها: أمـسـكتُ يــد مـولايَ بيـن يدي وضغـطتُ عليها بـقوة (...) رفع الملك عينيه نحو أزهار الجوكاندا وقال: لن أراها قَطْ، أليس كذلك؟"، فأجبته "لا، لن تـراها بعد اليوم، يا مولاي".
على الغلاف الأخير للرواية يكتب المؤلف كلمة مؤلمة تختصر مضمون روايته، منها "ولدتُ في عائلة شكسبيرية، بين والد عاش طوال أربعين عاماً في خدمة الملك، وشقيق معتقل في سجن من سجونه. تخيّلوا قصراً مرعباً وساحراً، يعاقب أوفى أوفيائه، وتتحكّم نزعاتُ الغيرة بليله!".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.