}
عروض

"غناء البطريق" بوصفها رواية "كاتبي المفضّل"

حسين بن حمزة

25 أغسطس 2019
حين تقرأ لحسن داوود، لا يهمّ إن كانت رواية "غناء البطريق" التي سنتحدث عنها اليوم، أو أية رواية أخرى له، ما أن تبدأ بالقراءة حتى تنتبه إلى أنك لا تستطيع أن تُسرع، وأن عليك أن تتخلّى حتى عن إيقاعك الشخصي في القراءة، وأن تتعلم أن تقرأ بالإيقاع التي كُتبت بها الرواية تقريباً، وهذا الإيقاع  لمن لا يعرف كتابة هذا الروائي اللبناني، هو إيقاع بطيء أو جُعل بطيئاً لغايات أسلوبية وسردية اعتادها قرّاؤه، ويجد قارئه الجديد أنه مطالبٌ بالتكيّف والاعتياد أيضاً.
جرَّب مثلاً، كقارئ، أن تُسرع قليلاً في القراءة. أن تقفز فوق سطرين أو ثلاثة، أو أن تقرأ "على الطاير" كما يُقال، ستشعر وقتها أن شيئاً فاتك، وأنك ضعت أو أضعت الخيط الذي كتب به أو خاط به داوود فصول وصفحات الرواية.
كتابة حسن داوود غير أنها ذات جملة متباطئة، هي كتابة تفاصيل أيضاً. بل إن معظم عالمه الروائي قائم على التقاط التفاصيل، خصوصاً التفاصيل التي لا يُنتبه لها أو لا تبدو مهمة بالنسبة للكتّاب الآخرين أو لا تشغل أولوية أو مكاناً مهماً في كتاباتهم وأساليبهم. هي تفاصيل غالباً ما يخلقها صاحب "بناية ماتيلد" بنفسه، فهي في النهاية، تفاصيل تخصّ نظرته إلى شخصياته وإلى أمكنة وأزمنة وتحولات رواياته التي، غالباً أيضاً، ما تُظهر تحولات واقعية واجتماعية وتاريخية، ولكنها، أيضاً، مرئية ومكتوبة بطريقته وإيقاعه. عنايته بالتفاصيل تشبه عناية
الشعراء بالصور والاستعارات. وهو ليس بعيداً عن الشعر أصلا، ليس كنوع أو جنس كتابي، بل لأن كتابته فيها شيء من الشعرية التي تنشأ من السرد والحكي. هناك قصة وهناك حكاية وهناك سردٌ بطبيعة الحال كما في أي عمل روائي، ولكن المادة السردية هنا تشبه إنجاز "قطعة أدبية"، قطعة مشغولة ومتعوبٌ عليها.
ببساطة، حين تقرأ لداوود تحس أنه، ككاتب، جالسٌ بقربك، يشاركك القراءة، وكلما، سهواً أو قصداً، عجّلت في قراءتك، يلكزكَ في مرفقك ليُعيدك إلى الإيقاع المتمهّل الذي كتب هو به الرواية.
الكتابة بطريقة حسن داوود عملية شاقة، وهو ما قاله في حوار سابق بيننا: "أحياناً أقول إنني قسوت على نفسي، أو كنت على الدوام ناقداً لها، ولم أسمح بأن يجري الكلام مرسلاً مسترسلاً مما يستسيغه القرّاء ويحبونه. لم أستطع أن أكتب سطراً لا يدل على نفسه، إضافة إلى دلالته في مجرى الرواية. كأنني إزاء مرايا أحب أن أرى ما فيها تاماً كاملاً. إنّها كتابة شاقة وتحتاج إلى صبر وجلد. أعرف أن رواياتي قست أيضاً على قرائها. إذ هي إما تدفعهم إلى تركها، وإما تجبرهم على قراءتها في طريقة جلوس هي غير الاستلقاء والاسترخاء. إنها قراءة أشبه بإنزال القصاص بالذات".
في كتابة حسن داوود، وفي أغلب أعماله، ليست هناك أحداث كثيرة أو دراماتيكية. هناك طبعاً خط سير لما يُسمّى أحداث الرواية أو حكايتها، ولكن كل تلك الأحداث، وهي عموماً قليلة ومواربة، مصنوعة من الكتابة نفسها. إنها أيضاً كتابة. بالكتابة تتطور الرواية وتتقدم، هذا إذا تقدّمت أصلاً أو كان هذا التقدّم ملحوظاً بوضوح. ويمكن هنا الاشارة إلى فارق حاسم بين ما هو كتابة وما هو تأليف. هناك روايات مؤلَّفة وهناك روايات مكتوبة. البطء في هذه الكتابة يُظهر التقدّم أو التطور فيها وكأنه يُراوح في مكانه أحياناً أو يدور حول نفسه. هذا يُشبه أن تُشاهد فيلماً مثلاً، وتكون لديك القدرة والرغبة على تبطيء سرعة الفيلم، لكي يكون بإمكانك أن ترى تفاصيل وجزئيات تغيّبها السرعة العادية للفيلم. حسن داوود يفعل هذا بالحياة التي تجري في رواياته. إنه يُبطئ السرد لكي يسرد شيئاً أعمق داخل هذا السرد، لكي يملأ هذا السرد بتفاصيل أكثر، تفاصيل قد لا يكترث بها روائيون آخرون. هذا التبطيء يُصيب القارئ أيضاً، فيُبطئ إيقاع قراءته لكي يُجاري المؤلف فيما يفعله. بعض القراء، بل ربما أكثرهم، لا تناسبهم هذه المجاراة، خصوصاً القراء الذين اعتادوا إيقاعاً أسرع أو أساليب سردية أخرى فيها تأليف أكثر من الكتابة، وفيها إغراءات جاهزة ومضمونة أيضاً. ولعلّ هذا يطرح مسألة الترجمة إلى لغات أخرى، حيث تلعب هذه الإغراءات دوراً مهماً في تسويق روايات معينة وإهمال روايات أخرى. روايات داوود لا تكترث بهذه المعطيات، فهي روايات تخدم نفسها فقط، وتشتغل عند نفسها.


مزاج روائي
ربما لا تكون رواية "غناء البطريق" الأكثر تمثيلاً لتجربة حسن داوود الروائية. وربما يُفضّل آخرون "سنة الأوتوماتيك" أو "أيام زائدة" أو ربما يظل البعض يتذكر باكورته المتفرّدة "بناية ماتيلد"، ولكن "غناء البطريق"، بطريقة ما، تُظهر جوانب كثيرة من فنّه في الكتابة، حيث المكان بلا اسم، والشخصيات بلا أسماء، ولا توجد كذلك أي استجداءات للقارئ كي يضمن مسبقاً تشويقاً معيناً أو جاذبية مصنوعة سلفاً. هذه رواية مكتوبة من أجل مزاج روائي لا يتنازل صاحبه عنه. روايات حسن داوود، على أي حال، ليست مرهونة بهذه المقارنات التفضيلية، فهي تبدو مثل عمل واحد لجهة الخيارات السردية والإيقاع والبناء وغيرها من التقنيات الكتابية. ومن جهة أخرى، كانت هذه الرواية هي الخيار الوحيد المتاح لهذه الأمسية البرلينية، كونها مترجمة إلى اللغة الألمانية (هارتموت فاندريش/ دار لينوس سويسرا). ولنقل إنها رواية لأحد الكتّاب المفضّلين لدي، ولنفترض أن عنوان هذه الأمسية هو "كاتبي المفضّل" وليس "كتابي المفضّل".
لا توجد في "غناء البطريق" أحداث كبيرة، ولا توجد مثل هذه الأحداث في روايات داوود عموماً، ولكن أسلوبيته وكتابته ونوعية جملته الروائية تجعل الأحداث، وحتى الشخصيات، جزءاً من نسيج الكتابة، وبالتالي تجعله خاضعاً للبطء والتأمل والخفوت والمواربة، وهي صفات أساسية في كتابته وعالمه الروائي.
الرواية مسرودة على لسان بطلها الذي يعاني من إشكالية جسدية خَلقية تجعل حركته أشبه

بالبطريق. شاب في نهاية مراهقته وبداية شبابه يسرد مصير عائلته المكونة منه ومن أب وأم. الخلفية هي بيروت بعد انتهاء الحرب الأهلية. الأب فقد دكانه في قلب المدينة المدمر الذي تشير الرواية إلى إعادة بنائه. الأم ليس لها حضور واضح سوى في تدبيرها للقاء جنسي بين ابنها وجارتها لكي تتأكد هي والأب من رجولته. الحكاية كلها موجودة في كيفية رؤية الابن/ الراوي لكل ذلك. من أية زاوية ينظر إلى ما يحدث، وكيف يُعيد رواية ذلك أو تخيّله. هو مهووس بابنة الجارة التي تسكن في الطابق الذي تحتهم. في فصول وصفحات عديدة يترقّب حركتها في الأسفل. يحزر أين تقف. ماذا تفعل. تبحث عن شيء ما. تضجر. تنام. تفتح النافذة. تتعرى أمام مرآة. المراقبة الهوسية هذه هي بالنسبة للراوي أشبه بلقاءات واقعية مع الفتاة. بالنسبة لها هو على علاقة ما. علاقة يفصل بينهما فيها طابقٌ في المبنى!. الأب يموت دون أن يرى قلب المدينة الجديد، رافضاً في الوقت نفسه أن يبدأ العمل من مكان آخر في المدينة. الأم تواصل مشاويرها مع الجارة. البنت في الأسفل تجد لنفسها مساراً آخر. الابن/ الراوي يبقى وحيداً في النهاية وفارغاً وقد روى كل ما حدث.!



*كُتبت هذه المادة كمدخل للحديث عن رواية "غناء البطريق" وعالم حسن داوود الروائي ضمن أمسيات "كتابي المفضّل" التي تُقام باللغتين العربية والألمانية في "بيت الأدب" في برلين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.