}
عروض

"الحكائيّ والشعريّ في القصيدة العربية الحديثة".. الشعر والحريّة

ليندا نصار

21 أكتوبر 2020

صدر مؤخرًا للشاعر والباحث محمد العناز كتاب بعنوان "الحكائيّ والشعريّ في القصيدة العربية الحديثة" عن دار الفاصلة، طنجة (تموز/يوليو 2020)؛ وهو كتاب يدرس العلاقة بين الشعر والحكي ويرصد أشكال انفتاح أحدهما على الآخر.
وقد بيّن الباحث منذ البداية كيف أن للشعر قدرة ذاتية، مثلما تسمح له بالانفتاح على الأجناس الأدبية المجاورة، تسمح له كذلك بالتفاعل مع فنون أخرى كالتشكيل والموسيقى والنحت الفوتوغرافيا وغيرها.
تمحور اشتغال العناز حول رؤية مفادها أن الحداثة الشعرية تلغي الحدود بين الأجناس، وتجعل عناصرَها متماهية بعضها مع بعض في كثير من التجارب الشعرية العربية. وبما أن لكل انفتاح معايير وأعرافا نظرية تضبطه وتؤسسه، فقد لجأ الباحث في هذا الصدد إلى مجموعة من الكتب النقدية المرجعية واستثمرها في بناء "أطروحته". وهكذا ناقش مرجعيات نقدية عربية وغربية وأفاد منها في إبراز العلاقات التي تنسجها القصيدة بخطابات أخرى مغايرة تاريخية أو تشكيلية أو سردية، وهو ما تمكن معه من تدقيق أدواته النقدية للإحاطة بموضوع وتعميق مقاربته. كما قام بالموازاة مع ذلك بطرح مجموعة من التصورات النقدية كاشفًا عن حدودها ومتوقفًا عند خلفياتها التقليدية المفتقرة إلى شروط التحديث ومتطلباته المعرفية والجمالية.
وتأسيسًا على هذا أولى العناز عناية خاصة للعوامل التي شكّلت البدايات المحدِّدة لمطلب الانفتاح في القصيدة العربية الحديثة، ومنها تغيّر اللغة وتطورها واقترابها من ملابسات الحياة اليومية. وهو ما أدى إلى تغير موضوعات القصيدة حيث تعمقت العلاقة بين الشفهي والكتابي، وصار الشاعر يستمدّ أسئلته واستلهاماته في القصيدة الحديثة ممّا يقرأه من الموروث الكتابي عبر تجربة الانفتاح بوصفها تجربة تشمل اللغة والتاريخ والرمز في صلتهما بالعالم وبطرائق إبداعه وتخييله. ولعل هذا الأمر ما كان ليحصل ويبرز لولا عنصر الهدم وإعادة البناء التي عاشتهما القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة بهدف تحقيق مزيد من الحرية الإبداعيّة وتوسيع مكاسبها الجمالية في النص الشعري.
واعتمد الباحث في مقاربته لإشكالية "الشعري والحكائي في القصيدة العربية الحديثة" قراءةً فاحصةً وغنية عبر بحثه في أبرز المصادر السردية؛ ما جعله يقف على أنّ أهم الشعراء العرب نهجوا أسلوب الانفتاح من خلال استثمار الموروث السردي، ومحاورة الأساطير، وتوظيف أنواع مختلفة من الفنون. ولا شك أن هذا المعطى البنيوي وضع الباحث أمام ظاهرة إبداعية تتجلى في انعدام إمكان وجود شعر حداثي صافٍ بحكم أن حضور مكوّن الحكي يظل واردًا وأساسيّا؛ وهو ما ساقه إلى دراسة هذا الحضور ومدى تأثيره في بنية القصيدة العربية الحديثة وتجلياتها الإبداعية.

يمكن القول إن هذه الدراسة هي إثراء رصين للمكتبة النقدية العربية بالنظر إلى ما تناولته من قضايا وإشكالات تخص العلاقةَ بين الحكائي
والشعري في القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة


 

إشكال العلاقة بين الشعر والحكي
إنّ البحث في إشكال العلاقة بين الشعر والحكي جعل الدارس يتوقف عند وجوه الائتلاف والاختلاف بين القصائد التي تناولها بالتحليل عبر الغوص في مستويات الانفتاح على الأجناس الأدبية المغايرة، والتوصل إلى أنّ جمالية الشعر الحديث نابعة من انفتاحه على مختلف الأجناس.
لم يستثنِ الباحث في كتابه تحوّلات القصيدة الحديثة، فتحدث عن تغيراتها وعالج قيمها الجماليّة التي تؤثر في قراءة عناصرها، ليتوصل إلى أنّ الحكي مكوّن مهمّ استلهمته تجارب عديدة في القصيدة العربية الحديثة وتواتر اعتماده في تجارب معاصرة حتى صار جزءًا لا يتجّزّأ من القصيدة ومن جمالياتها التي تمتح من مرجعيات فنية ومعرفية متنوعة.

وقبل أن ينطلق في بلورة مفاهيمه النظرية وأدواته المفسرة لحيثيات هذه الظاهرة الإبداعية التي يتداخل فيها الشعري بالحكائي في القصيدة العربية الحديثة، عاد إلى مجموعة من الدراسات السابقة المتمثلة في كتب «السردي في الشعر العربي الحديث: في شعرية القصيدة السردية» لفتحي النصري، و«مرايا نرسيس: الأنماط النوعية والتشكيلات البنائية القصيدة السرد الحديثة» لحاتم الصكر، و«سردية القصيدة الحكائية: محمود درویش نموذجا» للباحث ليوسف الحطيني؛ إذ عمد إلى بحث مكامن قوتها ومواطن قصورها، وهي الخطوة التي ساهمت في تحقيق الرؤية إلى الموضوع من وجهات نظر أخرى مغايرة، تتقاطع معه في إشكال رئيس هو المرتبط بحضور الحكائي في القصيدة العربية. 
ووعيًا منه بضرورة الاعتماد على جهاز مفاهيمي قادر على سبر هذه الظاهرة وتوفير ما يسعف نقديًّا على قراءة حضورها داخل تراكمات القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة، استند العناز إلى مجموعة من المفاهيم النظرية والإجرائية التي تُعنى بتفسير تجليات حضور الحكائي داخل القصيدة العربية الحديثة. ومن بين هذه المفاهيم نجد عنده «قصيدة الحبكة، وقصيدة الحدث، وقصيدة الشخصية والحكي والصياغة الفنية» (ص123). فالعناصر الثلاثة الأولى، كما يؤكد، تسمح بتحديد أنماط القصائد التي تستخدم السرد مکونًا لها؛ بينما يسمح العنصر الرابع بضبط علاقة هذه الأنماط الثلاثة بالتشكيل الفني الذي يمكّن القصيدة من الانفتاح على الأشكال والصيغ السردية.

بيّن الباحث منذ البداية كيف أن للشعر قدرة ذاتية، مثلما تسمح له بالانفتاح على الأجناس الأدبية المجاورة، تسمح له كذلك بالتفاعل مع فنون أخرى
كالتشكيل والموسيقى والنحت الفوتوغرافيا وغيرها



من جهة أخرى صنّف الباحث في دراسته قصائد الشعراء الذين اختار نصوصهم تبعًا لشروط ومسوّغات يفترض أنها أساسيّة؛ وهي الأخذ بعين المراعاة زمان القصيدة ومكانها إذ لا نستطيع مقارنة قصيدة قديمة بقصيدة حديثة على سبيل المثال، وذلك انطلاقًا من مبدأ أن للعصر تأثيرًا كبيرًا في ملابسات فعل الكتابة كما للأمكنة تأثيراتها أيضا. وهذا ما جعله يتطرّق لاحقًا إلى سؤال الذاكرة وكيف يحضر في القصائد التي تعتمد الحكائي في بناء أنساقها الفنية والشعرية. وقد أفضى به ذلك إلى بحث الخصائص المشتركة بين النصوص التي اختارها والتي تضمّ مكوّنات الحكي، ثمّ انطلق من خصوصيّة كلّ نصّ على حدة معالجًا سماته الجماليّة ومدى حضور عناصر السرد والصور الشعرية والمكونات البلاغية في تناغم وانسجام داخل مبنى القصيدة العربية الحديثة.
ولئن كانت لهذه الدراسة من أطروحةٍ تثبت أهمّيّتها، فهي المتمثلة في أنّ الشعر لا يمكنه أن يكون محدودًا مقيدًا في اختياراته الجمالية والفنية المتصلة ببناء القصيدة. ذلك أن الشعر من حيث هو أفق جمالي وفكري يميل بطبيعته إلى الحريّة والانفتاح في انتقاء مكوناته وعناصره، والدليل على ذلك أن انفتاحه المتواصل على الأجناس والخطابات الأخرى هو من أجل جعل القصيدة تبدع نفسها في صور متناسلة لا تَطابق فيها ولا تكرار.  ولذلك اتجه الباحث إلى تنويع اختياراته الشعرية بما جعله يقارب حساسيات شعرية متنوعة ويتحرك في جغرافيات إبداعية مختلفة. فعند تطرقه إلى خاصية الانفتاح بين الحكائي والشعري في القصيدة العربية الحديثة من خلال دراسة العلاقة بين السرد والشعر تناول أعمال كبار الشعراء والأدباء مثل صلاح عبد الصبور، وسعدي يوسف، ومحمود درويش، وسركون بولص، وأمجد ناصر، وعباس بيضون، وسيف الرحبي، وقاسم حداد، ووديع سعادة، وشوقي بزيع، ومحمد علي شمس الدين، وعبده وازن، ووفاء العمراني، وحسن نجمي، ومحمد الأشعري، والمهدي أخريف، وعبد المنعم رمضان، وعبد الإله الصالحي، ومنير بولعيش، وياسين عدنان، وخلود المعلا، وإيمان الخطابي، ومحمود حمد، وباسم فرات...
إجمالًا يمكن القول إن هذه الدراسة هي إثراء رصين للمكتبة النقدية العربية بالنظر إلى ما تناولته من قضايا وإشكالات تخص العلاقةَ بين الحكائي والشعري في القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة، وبالنظر أيضًا إلى ما اعتمده العناز من مصادر موثوقة وتجارب شعرية متنوعة ومرجعيات معرفية متعددة، ما يجعل هذا الكتاب مصدرًا مهمًا في تتبّع تحوّلات الشعرية العربية ورصد أنساقها.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.