}
عروض

"إنها تدور".. همّ إنساني في أفلام سياسية

ندى الأزهري

25 نوفمبر 2020
يستهلُّ بسورية وينتهي عندها

في ترتيب زمنيّ تنازليّ لا يدوم طويلا، يستعيد الكاتب والناقد الفلسطيني راشد عيسى في كتابه "إنها تدور" (منشورات موزاييك للدراسات والنشر، 2020)، حوالي خمسين مقالا عن خمسين فيلمًا بين روائي ووثائقي طويل وقصير هي حصيلة تجربة سنوات في الكتابة لصحافة ثقافية في عدة صحف ومواقع.
يُتوقع في تجميع مقالات منشورة في كتاب، أن يتمّ الترتيب وفقًا لمنطق معين، موضوعها مثلا، سنة نشرها أو انتماؤها، أي الأفلام، لبلد بعينه. لكن المقالات أدرجت دون ترتيب زمني لتاريخ نشرها، إلا في البداية إذ بدأت في عدّ تنازلي من ماض قريب (2019) لتختلط فيما بعد أحيانا كافة السنوات وصولا إلى 2013 التي توقف الكاتب عندها.   المقالات أيضًا لم تُرتب حسب البلد الآتية منه سورية أو فلسطين، أو بلدان أخرى (مغاربية، فرنسية... وهذه محدودة العدد). كذلك لم يُشكّل موضوع الأفلام أساسا لتجميعها في فصل واحد، الكتاب على أية حال غير مقسّم لفصول.
قد يكون تتابع المقالات جاء حسب أهميتها بالنسبة للكاتب أو أهمية الفيلم ذاته أو لسبب لم يكن بديهيا للقارئ. لكن الكتاب لوحة لسينما معاصرة تهتم بالسياسي، وفي اللوحة تشتبك الألوان وتفترق وما يهمّ هو النتيجة. هل اللوحة جميلة، مؤثرة، تلفت النظر، تدعو للتأمل، تثير حساسية ما؟ "إنها تدور" ليس بحثا بل عودة لمسيرة أفلام ممتعة في قراءتها، موجعة في كشفها، مشوّقة في أسلوبها. مسيرةٌ مشحونة بألم وأمل في البدايات ومفعمة بالألم (وحده؟) فيما بعد.  عودة لها أهمية توثيقية، على الأخصّ، للأفلام التي بدأت مع الثورة السورية وتتابعت إلى اليوم، فيها شيء من توثيق لأحداث وليس فقط لأفلام، وحال كاتبها ونظرته، مثل حال أفلام بعض المخرجين السوريين الذين كتب عن أفلامهم، تتبدلان بين سنوات 2012 و2019.

المقالات من نوع تُفَضّلُ قراءته خاصة بعد مشاهدة الفيلم، أو حين لا تتيح الظروف رؤيته، كما يحصل في بلدان عربية عديدة ومنها سورية وفلسطين مثلا. هي تعتمد على نقد موضوع الفيلم، تستخدم تفاصيل كثيرة وتكشف نهايات. لهذا تكتسب أهمية كلما طال الزمن وابتعد عن زمن إنتاج الفيلم. لها قيمة مرجعية في تعبيرها عن شغل سينمائي وتحول سياسي في فترات محددة في التاريخ السوري على وجه الخصوص.  هي ليست مقالات "تمامًا" عن السينما بقدر ما هي عن الجدران، فالموضوع هو محطّ اهتمام المؤلف وعلى أساسه اختار الكتابة عن هذه الأفلام كما يكتب "فالكاميرا التي تدور في كل بقاع الأرض هي في بلادنا ستصطدم بألف جدار"، المحتوى السياسي الذي يشمل بالطبع الإنساني والاجتماعي، هو شاغله ولو أنه ليس شاغله الوحيد.

راشد عيسى في "إنها تدور" يوجه عينًا خاصة محبّة ومعجبة ورائية- "عين النار"- لهؤلاء الشباب المتحمس الشجاع الذي يصنع أفلاما رغمًا عن الظروف،
ويقدم لهم صورة بهية في تحية لمواهبهم



سورية حاضرة بإلحاح في معظم المقالات، لا سيما أفلامها الوثائقية، وهي هنا خلف كل مقالة، وحين يشير الكاتب إلى الفيلم الألماني "وداعًا لينين" (2003) مثلًا، فهذا ليتخيل فيلما مشابها عن سورية قبل الحرب وبعدها، وعندما يكتب عن فيلم فلسطيني كفيلم "عمر" (2013) لهاني أبو أسعد فهذا ليتناوله كـ"قراءة سورية لفيلم فلسطيني".  يقارب راشد عيسى بين المأساتين هو الفلسطيني الذي نشأ في سورية، وبعين حادة مترقبة يترصد أي فيلم سوري أو فلسطيني مشغول بالهمّ السياسي. هكذا يحضر أيضا مرات عدة، ما يجمع بين الهمّين في  اختياراته أي مخيم اليرموك الشامي.  يصفه بأنه مكان عاش في شعبه وعاشوا فيه إلى حدّ "أن الناس باتت تحلم حين تعود إلى فلسطين أنها ستحمل المخيم معها"، كما يعبر في كتابته عن "لحظة الميغ" (2013)، لحظة يكتشف فيها المخرج الشاب ثائر السهلي مشاعره والمخيم يُقصف بطائرات الميغ.  المؤلف لا يحتمل بالمقابل أفلاما عن اليرموك "تضيف مرارة إلى مرارة الفلسطينيين وترسم عالما لا يمت بصلة إلى واقع فلسطينيّ المخيم"، كما فعل الفيلم القصير "يرموك" (2014)" للممثل والمخرج الفلسطيني محمد بكري، في حكاية مخترعة كما وصفها عيسى وكأنها صممت من أجل مزيد من إذلال الفلسطينيين داخل وخارج المخيم.  كما لا يسلم فيلم رشيد مشهراوي "رسائل من اليرموك" من عنوان موحٍ في الكتاب، "السينما بدم بارد" حيث المخرج "لا يكتفي بمصادرة جهد فريق فني ومخرج عملوا في أقسى الظروف في مخيم اليرموك فيما هو خارجه" في مكان آمن، بل "ستجده يتجول هنا وهناك في قلب الفيلم حاضرا على الدوام في منتصف الموضوع وهو خارجه من الأساس". هذا ما لام به المخرج السوري أسامة محمد عن فيلم "ماء الفضة" (2014) متسائلا "أين الفيلم؟" مركزا انتقاده على محمد بسبب "طغيان الأنا" على فيلم صوّرتْه وئام بدرخان المحاصرة في حمص بكل أحاسيسها الرهيفة وجزعها على وطن ينهار.



الجيل الجديد
تميل المقالات المختارة حول السينما السورية أكثر نحو إنتاجات جيل جديد من الشباب، السينما الوثائقية والروائية القصيرة تلك "التي تدين للثورة السورية بالحرية وتحطيم لافتات "ممنوع الاقتراب والتصوير""، ويخصص المؤلف حيزا واسعا لهذه السينما التي ازدهرت في مواجهة النظام داخل سورية وخارجها في أفلام مثل "بعدنا طيبين"(2013) لعروة مقداد، "شق في الذاكرة" (2013) لخالد عبد الواحد، "الرقيب الخالد"(2014) و"طعم الإسمنت" (2017) لزياد كلثوم وعديد غيرها. لكنه وإن تحمس للوثائقي السوري فقد انتقد انتقادا حادا بعض أفلام روائية أنتجت في سورية أثناء الحرب برعاية مؤسسة السينما فيها. وحظي المخرج السوري جود سعيد بمقالتين لاذعتين عن فيلمه "مطر حمص" (2017)، واحدة قبل تصوير الفيلم يتنبأ فيها عيسى بما سيحتويه، تنبؤ نابع من وجع استخدام آلام شعب، ثم بعد مشاهدته واصفا مخرجه بسينمائي على ظهر دبابة ومعتبرا أنه يقدم تفسيره الطائفي لمجريات الحدث السوري عبر "حكاية ملفقة وحوار رديء وممثلين عديمي الموهبة". وعلى نفس المبدأ تنتقد مقالة " تعفيش الألم السوري" فيلم المخرج اللبناني أحمد غصين "جدار الصوت" (2019) في استعادة حرب تموز في مدينة القصير السورية التي "دمرتها معارك النظام وحزب الله مع المعارضة" معتبرا أنه لا يقيم وزنا للضحايا الحقيقيين ويستعير ألمهم ليروي حكاية "ضحايا" آخرين.


سورية حاضرة بإلحاح في معظم المقالات، لا سيما أفلامها الوثائقية، وهي هنا خلف
كل مقالة، وحين يشير الكاتب إلى الفيلم الألماني "وداعًا لينين" (2003)
مثلًا، فهذا ليتخيل فيلما مشابها عن سورية قبل الحرب وبعدها



بعض أفلام مذكورة في "إنها تدور" لم نرها إنما نكتشفها ونحبها من خلال عرض الكاتب لها، كما حصل مع فيلم "شمس صغيرة" (2007) للسوري الفوز طنجور، و"شارعنا احتفال الحرية" (2012) لباسل شحادة في وصفه لحشود المدنيين في بداية الثورة السورية، وهو فيلم غير مكتمل يُسجّل فيه استشهاد شحادة في 2012 ليصبح هو بطل فيلمه.  كذلك "السلحفاة التي فقدت درعها" (2012) لباري القلقيلي الذي كتب عنه بحب وحنان متخف كحنان الألمانية باري تجاه والدها الفلسطيني.
أيضا مع أفلام سبق أن رأيناها قد نختلف مع المؤلف في إعجابه أو نفوره، فنحبُّ ما انتقد كفيلم محمد ملص "سلّم إلى دمشق" (2014)، أو نحاول من جديد مع أفلام أحبَّها مثل" كفر ناحوم" (2018) للبنانية نادين لبكي فنفشل أو يفشل. ونتحمس معه لأفلام وقد نسرّ أحيانًا لوجود مكونات إضافية في نقده لفيلم أحببناه معا كما حصل مع "المطلوبون ال 18 " (2014) للفلسطيني عامر الشوملي، وهو عن ثماني عشرة بقرة تدوخ الاحتلال الإسرائيلي. أو نشاركه نظرته النقدية كما في "يا طير الطاير" (2015) للفلسطيني هاني أبو أسعد عن قصة صعود المغني محمد عساف الذي رأى فيه "أضعف أفلامه".
راشد عيسى في "إنها تدور" يوجه عينًا خاصة محبّة ومعجبة ورائية- "عين النار"- لهؤلاء الشباب المتحمس الشجاع الذي يصنع أفلاما رغمًا عن الظروف، ويقدم لهم صورة بهية في تحية لمواهبهم (عازف البيانو أيهم أحمد في مخيم محاصر، لسينمائي واعد في فيلم لم يكتمل بسبب الاعتقال والموت، ونيراز سعيد من المخيم). ويصوّب عينا واضحة في غضبها وثورتها لمن يراه يتلاعب "بالحق"، وعينا كلها ألم وحرقة وإعجاب لشباب رحلوا سريعا لبحثهم عن الحقيقة وعن الواقع من خلال كاميرا دارت ودارت حتى توقفت عن الدوران بيد واحد من الممسكين بها بكل إصرار.. باسل شحادة على سبيل المثال.   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.