}
عروض

التحليل النفسي ببلدان المغرب العربي.. أهم المراحل والشخوص

محمود عبد الغني

4 نوفمبر 2020

دور المستعمر الفرنسي
كان للمستعمر الفرنسي دور كبير في إدخال التحليل النفسي إلى بلدان المغرب العربي الثلاثة: المغرب والجزائر وتونس، بواسطة محللين نفسانيين فرنسيين. وهي بلدان إسلامية لم تعرف هذا النوع من الطب. لهذا السبب ألف الطبيب والمحلل النفسي المغربي جليل بناني كتابه "التحليل النفسي في البلدان الإسلامية، مقدمة للتحليل النفسي في بلاد المغرب الكبير"، الصادر هذه السنة عن دار توبقال، بترجمة الشاعر المغربي أحمد العمراوي، الذي سبق أن أجرى حوارًا مطولًا صدر في كتاب بعنوان "الجسد المشتبه به، محلل نفساني في المدينة" (حصل على جائزة الأطلس الكبير سنة 2013).
تأتي أهمية الكتاب من أهمية مؤلفه المتخصص في التحليل النفسي، إضافة إلى انشغاله بتداخل الهويات، والتعدد اللغوي، والمنفى، والإقصاء، والخصوصيات في زمن العولمة. وكذلك إيمانه العميق بضرورة، وإمكان، تغيير الناس في العالم العربي نحو حال أفضل، لذلك نجده يصدر كتابه بجملة عميقة لمارغريت يورسنار: "يجب أن نشبه الناس إلى حد ما حتى نتمكن من القدرة على تغييرهم".



الطب النفسي في المغرب: حكاية
لوصول الطب النفسي إلى المغرب حكاية مشوقة، يمكن سردها في سرد طويل، لكنه متقطع رغم امتداده وتتابع وقائعه. حاول المحلل النفسي ج. بناني تقديم أهم مراحله وشخوصه وأزمنته. في سنة 1910، أي قبل إقامة نظام الحماية بالمغرب بسنتين، وصل طبيبان للأمراض العقلية هما "لووف" و"سيريو" إلى المغرب بتكليف من السلطة الفرنسية، وتحديدًا من طرف وزيري فرنسا في الداخلية وفي التعليم العمومي. حين وصلا الطبيبان سجلا غياب أي علاج وخدمة للمرضى العقليين بالمغرب. وهذا الأمر لا يعود للإسلام بل لحالة الانحطاط العميق التي كان عليها المغرب، "لذلك كان يتم اللجوء إلى الوسائل السحرية والدينية لعلاج المرضى أو التخفيف عنهم".
خلال شهري آذار/ مارس وحزيران/ يونيو 1910 قام "لووف" و"سيريو" ببحث في مارستانات وسجون أهم المدن المغربي: طنجة، أصيلة، العرائش، القصر الكبير، فاس، الرباط، سلا، الدار البيضاء، ووجدوا أنها مليئة بثلاث فئات من المرضى: 1) المهادنون: يعيشون أحرارًا في الهواء الطلق، 2) المزعجون: وهم المحروسون في المنازل، 3) الخطيرون: وهم المعتقلون في المارستانات أو في السجون. ويسجل الطبيبان في بحثهما أن انتشار الفئة الأولى، "المهادنون" الذين تمتهن أغلبيتهم التسول، كان وراء نشأة الخرافة الشائعة في أوروبا التي كانت تعتبر دائمًا أن الأحمق المسلم هو بمثابة ولي.

كان الطبيبان أول الأوروبيين الذين زاروا المارستانات رفقة طبيب كان اسمه ويسجرير، وهو مكتشف مشهور جدًا. وأول ما أثار انتباههم هو حمل المرضى لطوق حديدي يكبلهم ليلا ونهارًا، مما اضطر "لووف" و"سيريو" إلى تقديم علاجات للتخفيف من معاناة الحمقى. كما أقامت الحكومة الفرنسية مستوصفات ومستشفيات في أهم المدن المغربية تحت إشراف أطباء فرنسيين. عندها أدرك الحمقى وأهاليهم أنه بالإمكان التوجه إلى تلك المستشفيات المجهزة تجهيزًا لائقًا لمعالجة مرضاهم. كان الطبيبان يتبنيان وجهة نظر الطوارئ الطبية، كما كانت نظرتهما إلى الطب العقلي تتم من الزاوية الطبية. لكن ورغم كل ذلك، استمرت مقاومة المرضى المغاربة للطب النفسي والعلاج العربي. هدا ما سجله الطبيب العسكري " إيجير" في كتاب ألفه ونشره سنة 1955. كان الأطباء لا وجود لهم بالمغرب في بداية القرن العشرين، كما اختفى كل تعليم طبي. وكان المرضى يُسَلمون للأولياء والأضرحة. وكانت الجراحة تُجرى على يد معالجين أو بيد حلاقين يمارسون الختان والحجامة، ويجبرون الكسور... هذا بعدما كان الملوك العرب سباقين لإنشاء مؤسسات خاصة للحمقى (مصر، المغرب، الأندلس). وقد كتب "لووف" و"سيريو" يقولان: "بل ومن المحتمل أن انتشار فكرة رعاية الحمقى لاحقًا في بقية العالم المسيحي إنما تَمَ بواسطة الملاجئ التي أنشأها المسلمون في الأندلس".




في الجزائر وتونس
تصدق حكاية الطب النفسي في المغرب على نظيره المغاربي: الجزائر المجاورة، فقط مع تغير في الشخوص والأزمنة وبعض التفاصيل الظرفية. لقد استعمر الفرنسيون الجزائر سنة 1830. وبدأ التفكير الطبنفسي حول العرب وحول الشرق بعد ذلك بقليل، بفضل رحالة يدعى "مورو دو تور". وبعده أقام مجموعة من الأطباء النفسيين في الجزائر. وفي 1912 أُقيم بتونس، أيامًا بعد إقامة نظام الحماية بالمغرب، مؤتمر هام للطب النفسي الاستعماري، ومؤتمر لأطباء الأمراض العقلية والعصبية للغة الفرنسية. وتأسست مدرسة الجزائر من طرف أ. بورو سنة 1918. وينتهي هذا المسار الطبي العظيم بالمغرب الكبير مع محلل نفساني اسمه "روني لافورج"، الذي سيختار المغرب سنة 1949 للإقامة الدائمة.

كان للمستعمر الفرنسي دور كبير في إدخال التحليل النفسي إلى بلدان المغرب العربي الثلاثة: المغرب والجزائر وتونس، بواسطة محللين نفسانيين فرنسيين.
وهي بلدان إسلامية لم تعرف هذا النوع من الطب.




لم تكن تونس في معزل عن هذه "الغزوات" الطبنفسية الفرنسية. ففي سنة 1890 أُنشئ مستشفى بسعة 190 سريرًا، خصص خمسون منها للحمقى من مختلف الجنسيات والأديان. وقد وصف الكاتب الفرنسي "غي دي موباسان" هذه الأمكنة العفنة في كتابه "الحياة الهائمة". وابتداء من سنة 1889 تم نقل الحمقى الأوروبيين إلى ملاجئ في فرنسا. وفي سنة 1905 أصبح الدكتور "برونسويك لو بيتان" مديرًا لمستشفى تونس، فاستنكر الشروط التي كان يعيش فيها الحمقى. وبعد أن طالب بإخراجهم من المؤسسة، انتهى به الأمر إلى إطلاقهم في شوارع تونس العاصمة. وفي سنة 1908ىتم فتح تكية (مكان لإيواء الفقراء) جديدة، خُصصت للنساء.




الرعاية الطبية والتهدئة
قال الجنرال ليوطي في هذا الشأن كلمة في منتهى الدقة والذكاء: "إذا فهم الطبيب دوره، فهو الأول والأكثر فعالية من بين كل عملائنا في تحقيق الاختراق والتهدئة". كان الجنرال ليوطي أحد أكبر الحكماء الفرنسيين، ورغم الوجه الاستعماري، كان يتمتع بحس اجتماعي رفيع، إذ كان حريصًا على إقامة رعاية صحية للأهالي. لقد أقامت معاهدة فاس نظام الحماية في المغرب بتاريخ 30 آذار/ مارس 1912، والخطوة الأولى في التشريع حول قضايا الرعاية الطبية عبر خلق "مصلحة الرعاية الطبية للأهالي" رأت النور في 21 تشرين الأول/ أكتوبر من السنة ذاتها. مما يعني أن الغزو السياسي للمغرب وثيق الصلة بالرعاية الطبية. وقد طور الجنرال ليوطي، منذ بداية الحماية، "عمل التهدئة" بإنشاء مجموعة صحية مصاحبة، أو سابقة، للفيالق العسكرية. وكان يصر على دور الطبيب في تهدئة مقاومة المغاربة للحماية الفرنسية.
وما كتبه في هذا الخصوص يثير الانتباه فعلًا: "إن الكثير من سوء الفهم يتبدد بمجرد أن نتعارف"، "لا أن المغاربة كانوا يصطدمون مع هذه الإنجازات الطبية. إذ كانت مجمل ردود أفعالهم تصطدم بالتحديث الذي جاءت به فرنسا. فالتحديث كان العدو المباشر للعادات الموروثة، فكان المغاربة يظهرون حفيظتهم تجاه السلطة الطبية".
أدخلت فرنسا مفهوم الخدمة العمومية، المتلازم مع مفهوم التقدم الاجتماعي والدولة الحديثة. وكتب "لوسيوني" في هذا الصدد:" ولهذا الغرض حظيت الصحة والوقاية بعناية الحكومة". وقد دخل في هذا المشروع إنشاء رعاية طبية عقلية، فبدأت أدوار المارستانات تخفت، وبدأ ارتيادها يخف تدريجيا. فتعددت البنايات الطبية والمستشفيات في مجمل المدن المغربية. وتلك حجة دامغة على أن من مهام الاستعمار تطوير الرعاية الطبية عمومًا، والرعاية الطبية العقلية على الخصوص. ففي سنة 1931 كتب الدكتور "كولومباني" جملًا شديدة الوضوح: "مثلما يضطر جيش إلى أن يترك جانبًا ما يعترضه من عراقيل خلال بعض اللحظات الصعبة، ليقصد هدفه رأسا وبسرعة، كذلك شأن هذه الرعاية الصحية...".

تأتي أهمية الكتاب من أهمية مؤلفه المتخصص في التحليل النفسي، إضافة إلى انشغاله بتداخل الهويات، والتعدد اللغوي، والمنفى، والإقصاء، والخصوصيات في زمن العولمة. وكذلك إيمانه العميق بضرورة، وإمكان، تغيير الناس في العالم العربي نحو حال أفضل

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.