}
قراءات

"جامايكا".. عندما تلتقط الرواية التحولات بليبيا في التاريخ الحديث

إدريس الخضراوي

12 ديسمبر 2020
قد لا يكون في الأمر أي تزيّد إذا قلنا إن الكاتب محمد الأصفر يُمثلُ حالة مميزة في المشهد الروائي الليبي المعاصر لما يتمتع به من حضور مؤثر وإسهام نوعي في منجز الرواية الليبية، إذ ما فتئ يقدّم نصوصا تنطوي على بنية سردية يتفاعل فيها الواقعي بالتخييلي، والحسّي بالمجرّد، بشكل تبدو معه الكتابة بما لها من مقومات فنية وتخييلية اختراقا للحدود الفنية والجغرافية والتاريخية، وهو ما يتطلّب من القارئ بذل جهد ملموس لفهم الكيفية التي تجري بها العملية السردية، وسبر أغوار العوالم الممكنة "الموحية بأكثر من الحكاية، وبأبعد من مكانها ومرجعها، أو بأبعد من الحادثة وشخوصها الفاعلين" (يمنى العيد، فنّ الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، دار الآداب، بيروت 1998، ص57).
نعتقد أنّ ما يعطي الأصفر، وهو ينتمي إلى جيل جديد، هذا الموقع المختلف ليس هو فقط غزارة وقوة النصوص التي أنتجها منذ أن اختار الكتابة أواخر التسعينيات وحتى روايته "جامايكا" الصادرة حديثا عن دار الجيدة بالأردن (2020)، وحضوره ككاتب في مجموعة من اللغات، وإنما هو، أيضا، استيعابه العميق لوظيفة الرّواية ومقتضياتها التخييلية والسّردية، وقدرته على استثمار ممكناتها لبناء عوالم متخيلة تتصلُ بشكل وثيق بالفرد وشغفه اللانهائي بالحرية كما تعبّر عن عمق الأشياء وأفضل ما فيها، كلّ ذلك ضمن أفق روائي تجريبي مغاير، في انتهاكه للنهج السردي المحكم المريح وتنويعه لزوايا الرؤية، للاعتيادي والسّائد، مما يعزّز النّظرة النقدية التي ترى أن الشّكل الأدبي مرتبط أشدّ ما يكون الارتباط بالمضمون، وكلّما ازداد وضع العالم الاجتماعي غرابة وتعقيدا وتنافرا، تطلّب شكلا فنيا مختلفا أقدر على الحفر في واقع الذات والتاريخ والحياة.

 

معرفة تفصيلية وواسعة بالمكان
إذا انطلقنا من فكرة مفادها أن روايات الأصفر لا تنفصل عن التحولات السياسية والاجتماعية العميقة التي عرفتها ليبيا في التاريخ الحديث، سوف نجد أن روايته "جامايكا" تنطوي على عناصر عديدة تعزّز هذه الفكرة وتؤكدها، وليس هذا فقط لأنها رواية تَرتكزُ على الحكاية بأحداثها وفضاءاتها وأزمنتها ولغاتها المختلفة، وإنما أيضا لما يَسكنُ شخصياتها القليلة من تمرّد وطاقات متدفقة مستمدّة من معرفة تفصيلية وواسعة بالمكان، وحسّ غنائي ينصهر فيه الواقع وما وراء الواقع. ولعلّ ما يتبدّى من ملفوظات هذه الشخصيات وأحلامها والتنشئة الاجتماعية التي خصّها بها الروائي، هو أنها متجذّرة في القاع الليبي، ومولّدة لإيحاءات غنية ولا حدّ لها.

"جامايكا" تنتمي إلى المدونة الروائية العربية التي جعلت من الذاكرة القومية نقطة
الارتكاز في بناء العوالم التخييلية التي تتجسّد فيها رحلة
الفرد (الإنسان) بحثا عن الحرية والكرامة



فإذا كانت الرواية تتعين للقارئ بوصفها غنية بالتفاصيل عن بنغازي وأهلها وعوالمها والطقوس الاجتماعية السائدة فيها، فإنها غنية أيضا بالإحالات التاريخية والوقائع الاجتماعية، وبالرؤى الفنية والموسيقي التي انتشرت في العالم العربي مع سنوات الخمسينيات والستينيات إبّان المدّ الناصري، خاصة الموسيقى الممجدة للتحرّر الإنساني من قيود الظلم والقهر والتبعية. بهذا المعنى نعتقد أن جامايكا تنتمي إلى المدونة الروائية العربية التي جعلت من الذاكرة القومية نقطة الارتكاز في بناء العوالم التخييلية التي تتجسّد فيها رحلة الفرد (الإنسان) بحثا عن الحرية والكرامة. وفي هذا الإطار، يمثل تمثال عبد الناصر الذي يتوسّط بنغازي والذي أقامه نحّات مصري قرب محطّة القطار القديمة التي أزيلت وبنوا مكانها مركز دراسات الكتاب الأخضر وأبحاثه (الرواية، ص41)، فضاء مركزيا ومحورا أساسا تدور حوله الأحداث، فهو بنية مكانية تنضحُ برموز ودلالات وأبعاد مختلفة يظهر معها مدى تجذر شخصية عبد الناصر في قلب الإنسان الليبي لدرجة أن الروائي يستعين بالعجيب الخلاب لرسم هذا التعلّق ونقله من المجرّد إلى الملموس. هكذا يأخذ التمثال بوصفه المكان المفضل الذي يأوي إليه السارد للاحتماء بظله الوارف، دلالات أوسع في المتخيل البنغازي كما يدلّ على ذلك تفاعل السارد بمشهده، وحرصه اليومي على زيارته، إذ يرى إليه بوصفه المرآة التي تكشف له المزاج العام للحياة. ونعتقد أن تحليل التمثال باعتباره فضاء سرديا يتفاعل مع باقي مكونات الرواية كالشخصيات والأحداث والأزمنة، لا يتيح لنا فقط تلمّس مدى نهوض الرواية عند الأصفر بالردّ على أشكال المحو التي تطاول الذاكرة مع الانقلابات والاضطرابات السياسية خاصة إبّان حكم العقيد معمر القذافي، وإنما كذلك قدرتها على تشخيص التأثير الواسع لمرحلة القومية في الوعي العربي، والقضايا المحورية التي لا تَزالُ في صميم اهتمامات الفكر العربي المعاصر كالحرية والعدالة والمساواة الاجتماعية. وإذ يمزج السرد بين الأفعال الدالة على الزمنين الماضي والحاضر، فإنه يفتح إمكانية مهمة لإحضار مرحلتين متقابلتين: زمن الملكية والمرحلة الناصرية حيث يبرز الحنين والإحساس العميق بالحرية، والزمن الحاضر الذي من سماته التسلط والديكتاتورية والنفور. إن هذا الحفر الذي تنهض به الرواية في المكان والزمن والذاكرة هو ما يؤكد قدرتها على إعادة كتابة التجربة التاريخية بشكل مختلف عن الخطابات الأخرى، وهذا ما يمثّل القوة الرهيبة للمعرفة التي يكتنزها هذا الجنس الأدبي.

بالإضافة إلى شخصية عبد الناصر، تلفت الانتباه أيضا شخصية المغني العالمي بوب مارلي، فهو صوت مهيمن يأخذ بعدا أسطوريا في مخيلة السارد وهو يروي، في حوار داخلي، لقرينه أحداثا مشاهد من تاريخ الدولة الليبية الحديثة منذ الإطاحة بالملكية وحتى وصول القذافي إلى الحكم. لا شكّ أن الحضور الذي يتميز به بوب مارلي في هذه الرواية يوضّح الأهمية التي تكتسيها الموسيقى في كتابات الأصفر بصورة عامة، وفي هذه الرواية على نحو خاص، وهو ما يشير إليه العنوان الذي يحيل على البلد الذي أنجب هذا المغنّي العالمي المفتون بالسلام ومعاداة الحرب. ويبدو لنا من خلال الرواية أن مكون الشّخصية لا يقلّ أهمية عن الفضاء المكاني في التلميح إلى العلاقة التي يقيمها الروائي بالواقع الليبي، فالدلالات والمعاني التي تكتسيها أغنية الحرب لبوب مارلي في رواية جامايكا تموضع القارئ إزاء شخصية ذات أبعاد مرجعية قوية، قد يكون بالإمكان معها اعتبار رواية جامايكا تعبيرا صادقا عن الحاجة الملحّة إلى السلام والحرية التي يتوق إليها الإنسان الليبي. وعليه، يمكن القول إن الرواية في استثمارها للشخصية تلتقي بالعديد من التجارب الروائية العربية القوية التي لا يمكن الإمساك بالأبعاد والدلالات الواسعة التي ينطوي عليها مكون الشخصية إذا لم يتم النظر إلى الرواية على أساس أنها تحيل على عالم آخر مؤسس قبلًا، عالم الكاتب من جهة، وعالم القارئ من جهة ثانية، بما أنّ القارئ هو الذي يبني النّص ويهبه الحياة.

ما يلفت الانتباه في هذه الرواية ليس فقط الأحداث والمشاعر التي تثيرها
حول حقبة من التاريخ العربي المعاصر، وإنما أيضا البنية الفنية
المستثمرة في إعادة كتابة الذات باستعمال الضّمير المخاطب



تنساب أحداث ومشاهد الرّواية في سياق علاقة تفاعل بين السّارد ونفسه من جهة، وبينه بين والده من جهة أخرى، علاقة تمتدّ من زمن الطفولة خلال سنوات الستينيات إلى زمن النّضج والإحساس بالمسؤولية تجاه ما يجري في الوطن من تحولات رهيبة، وهي علاقة يسمها كثير من التيقظ والانتباه بشكل يموقع المتلقي الفعلي في صميم عمليات تكونّ العالم الرّوائي ومصائر شخصياته. وتبدأ أحداث الرواية بانقلاب الضباط الأحرار على النظام الملكي الذي لم يكن في منظور السارد سوى انقلاب على مجموعة من القيم الأساسية التي كان يمثلها كالحرية والعدالة الاجتماعية. هذا الحدث الشاهد على مجتمع يتداعى، والذي عصف بكلّ ما يلتصق بهوية السارد وكينونته، يلقي بظلال من التأثير السلبي على نفسية الطفل وعلاقته بأسرته ومحيطه ما يضطرّ والديه إلى اختبار مجموعة من الخيارات لمساعدة ابنهما على تخطّي الوضعية الصعبة التي صار عليها بعد أن كان نشيطا مفعما بالحياة. في هذا السياق تظهر لعبة القرد الصينية التي أهداها السي حيطة لابن صديقه، وهي لعبة يعزف فيها قرد لحنا واحدا هو أغنية السلام للفنان الجمايكي بوب مارلي، لتفسح مساحة لانفراج أزمة الطفل بإعادة وصله بالألحان والموسيقى التي ألفها قبل الانقلاب وشكّلت مكونا أساسيا من مكونات هويته. ومن منفذ هذه اللعبة المتخيّلة تلقي الرواية بضوء كثيف على حيوات متعددة، وعلى ليبيا الستينيات والعلاقات التجارية مع الصين، كما تتقصّى الغيمة السوداء الكثيفة التي عبرت سماء المنطقة العربية خلال هذه الفترة، حيث الحرب والانقلابات وفشل الوحدة واستفحال التسلط والتبعية الاقتصادية والسياسية للقوى الأجنبية.

 

نزعة التجديد
وتبيّن الطريقة التي اختارها الأصفر لتقديم العالم الروائي في صيغة حوار بين السارد ووالده يغطّي الفضاء النصيّ كلّه، إفادته من كبار كتاب الرواية العالمية، وقدرته على الإعلان عن برنامج روائي متكامل ينزع إلى التجديد في اللغة وتقنيات السرد لمدّ الرّواية بكثير من الأفكار والمعلومات عن تاريخ ليبيا الحديث في عهد الملكية ودور هايتي في استقلالها. وبينما يمدّ الأصفر جذور روايته في أرض بنغازي، خاصة حي المحيشي حيث تدور الأحداث الأساسية، فإن الإحالات المرجعية للرواية تبدو أوسع ومتأبية عن أي اختزال. لنقل إن جامايكا رواية عالمية   roman monde ليس فقط لأن الشخصيات تتحرّك في عالم واسع من بني غازي إلى الصين وجمايكا وسنغافورة، ولكن أيضا لأنها تعيدنا إلى جغرافية واسعة تسخر من الحدود والفواصل الوهمية، وهي أيضا أقرب إلى رواية التخييل الذاتي ليس من حيث الغوص عميقا في الجذور البنغازية للكاتب وحسب، وإنما أيضا من حيث شخصية الطفل الذي صار أستاذا للموسيقى وميوله اليسارية وثقافته الفنية والأدبية الواسعة، وولعه بالسفر والموسيقى وكرة القدم، وهذه كلّها سمات قد تنطبق على المؤلف الواعي محمد الأصفر. غير أن هذه السمات الخاصة لا تلغي أننا بإزاء نصّ تخييلي يرصد التحول الدراماتيكي والصّعب الذي شهدته ليبيا في تاريخها الحديث وذلك من منظور السارد سواء في مرحلة الطفولة، أو عند النضج بعد أن صار أستاذا للموسيقى وزوجته الأستاذة الجامعية وهما معا يناضلان من أجل تغيير واقع بنغازي إلى ما هو أفضل غير أنهما سيقضيان في حادثة تحطم طائرة ركاب في رحلة داخلية تبيّن الرواية أن نظام القذافي متورّط فيها، لتنهض ابنتهما وزوجها بإتمام الرّحلة المعبّرة عن آمال الشعب الليبي في تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

تبدأ أحداث الرواية بانقلاب الضباط الأحرار على النظام الملكي الذي لم يكن
في منظور السارد سوى انقلاب على مجموعة من القيم الأساسية التي
كان يمثلها كالحرية والعدالة الاجتماعية.



إن رواية جامايكا التي تستدعي في بنائها النصي سجلات تاريخية وفنية متعددة اعتمادا على رؤية جمالية أساسها أن لا وجود لعمل فني خالص أو دون متكأ، تتعين كذلك بوصفها رواية تكون Roman d’apprentissage فهي ترصد تشكل وعي الطفل وتطور منظوره عن الحياة والحب والموسيقى والثورة والحرية في مدينة بنغازي ذات الهوى الاشتراكي القومي منذ زمن عبد الناصر، وهي المدينة التي شكلت أيضا نقطة تفاعل ثقافي واسع يشمل أوروبا وأميركا والصين، كما تدل على ذلك لعبة القرد الصينية التي تمثل إحدى القوى الفاعلة الأساسية في بناء الأحداث وسيرورتها. لكن ما يلفت الانتباه في هذه الرواية ليس هو فقط الأحداث والمشاعر التي تثيرها حول حقبة من التاريخ العربي المعاصر، وإنما أيضا البنية الفنية المستثمرة في إعادة كتابة الذات باستعمال الضّمير المخاطب، ما يمثل انزياحا عن الرؤية السائدة التي تبدو فيها الذات موضوعا ثابتا، فهي هنا بؤرة مفتوحة على التأويل وإعادة الخلق.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.