}
عروض

"الماتريوشكا".. قصص تتجاوز "البدايات الأولى"

إلياس فركوح

1 فبراير 2020
غالباً ما تتسم الكتابات الأدبية السردية من قصص قصيرة وروايات على وجه الخصوص – وشعر كذلك- في بداياتها الأولى، بملامح آخرين أصحاب تجارب مؤثرة، وقد تركوا "أصواتهم" ترنّ بين سطورها، بمعنى: أساليبهم، ولغاتهم، ومنظورهم للعالم، والمناخات/ الموضوعات المطروقة، والاقتراب الخطير من شخصيات نصوصهم، إلخ! وهذا، بحسبي، لهو أمرٌ مفهوم لأنه من طبيعة حالات التأثير والتأثر والتفاعل من زاوية الإعجاب المبالغ به، أو حتّى "الانبهار" - كحالة اقتداء متطرفة، ومحاذاة لـ "النماذج" التي باتت بمثابة المقياس والمعيار والدرس النهائي!

غير أنّ تلك البدايات ليست سواء في مسألة "عدم الاستقلالية" هذه؛ فثمّة تفاوتات نسبية بين نصوص ونصوص وفقاً للتفاوت المنطقي بين أصحابها وصاحباتها. تفاوتات في المرجعيات الثقافية، والإسنادات الأدبية على صعيد الاختيارات، وخصوصيات أنماط العيش، وطبيعة المجتمعات التي لها كلّ التأثير بحسب ما يتوفر لديها من تجارب كتابية سابقة وقد تراكمت، لتتحوّل إلى "ميراث" يُبْنى عليه. وإنها تفاوتات يمكن ملاحظتها عبر قراءات ذات دربة نقدية، واطلاع واسع على الجنس الكتابي وتحولاته عبر تاريخه الأدبي. وبالتالي، لستُ هنا بصدد إصدار أحكامٍ قطعيّة على/ وشاملة لجميع ما أشرتُ إليها بـ"الكتابات في بداياتها الأولى"؛ إذ في أحيانٍ - ليست كثيرة، يحسن طالعُكَ بقراءة كتابة في بدايتها، ومنذ نصّها الأوّل تتريّث لتعاود قراءته بانتباهٍ أشدّ لأنَّ "تماسكاً ما" باغتكَ في كتابٍ أوّل، لاسمٍ تجهله، وتخرج بعد تلك القراءة الثانية بالنتيجة ذاتها: هذه كتابة ناضجة! كتابة لم تستخرجها حالات الانبهار المؤدية إلى التقليد، فالنسخ، فمسخ الشخصية الكاتبة! كتابة امتلكَت "شخصيتها" باستقلالٍ بائن! كتابة أظهرَت احترامها لتاريخ الكتابة (لغةً، وصوغاً، وبياناً)، كما احترامها للجنس الكتابي الذي استهدفَته، والأهمّ: احترامها لكلِّ قارئٍ لها ما يؤدي، بالضرورة، لاحترام مَن يقف/ تقف وراءها.


كان هذا ما جالَ في خاطري بينما أنتقل من قصة قصيرة لأخرى، في المجموعة الموسومة بـ"الماتريوشكا"، لسوار الصبيحي (*)، الاسم الذي عرفته لأوّل مرّة عند رؤيتي له على غلاف الكتاب. وإني، عند انتهائي من قراءته كاملاً، مانحاً له ولنفسي الوقتَ الكافي من غير تعَجّل، انتبهتُ إلى أنّ اختيار كاتبته الأردنية للعنوان، والذي هو عنوان إحدى قصصها، لم يكن اختياراً اعتباطياً أبداً. كما لم يكن بدافع إثارة الانتباه لاسمٍ غريب (أجنبي) يثير التساؤلات؛ بل هو اختيارٌ واعٍ لفنّ القصة المتوالدة من أُخرى تشكّلُ نقيضاً لها أحياناً، أو مكملة، أو مشاكسة، أو مجادلة، أو شاهدة عليها.. ولها! هكذا كانت القصص التسع عشرة الموزعة داخل الكتاب. تتوالد من بعضها كاشفةً عن عوالم وشخصيات تتعارض في طموحاتها، وتختلف في رؤاها، وتتباين في تركيب شخصياتها – إناثاً وذكوراً، بعضها يقبع أسيراً للماضي يتغذّى عليه، بالمقابل من بعضٍ يتوق للمستقبل من غير وَجَل كأنه يريد أن يولد من جديد. بعضٌ يخلقُ لنفسه "حياةً" مما يحلم به، وبعضٌ يتحايل على "حياته" بتزييفها من خلال التلاعب بـ"صورته"!
فـ"الماتريوشكا"، لمن لا يعرف، دمية روسيّة مجوفة تحتوي في داخلها دُمىً أصغر فأصغر تشبهها، أو تختلف عنها في تفصيل هنا أو هناك! ولأنها كذلك؛ فإنها قادرة على تحفيزنا لأن نذهب بعيداً في "تأويلاتنا"، ليس للقصص فقطـ، بل أيضاً لذواتنا نحن الأفراد – كما جاءت بها تلك القصة: ذاتٌ متعددة، متشكلة من ذوات أخرى مختلفة تماماً. وأنها واحدة من الالتقاطات الذكية الدالّة على "عُمْق" الكاتبة؛ إذ رأت أننا نتضمن في أعماقنا مجموعة تناقضات تتجلّى صارخةً، أو حاثّةً، أو خائنةً، بحسب المواقف التي نتعرض لها! كأنها تشير إلى أنّ أكثر ما نفتقده في حياتنا اليومية هو التوازن!
لسنا متوازنين غالباً. حمقى على نحوٍ ما. نتوهم الحكمة ونعرضها على سوانا بوصفها "الحقيقة"، لنجدَ سوانا يملكُ "حقيقته" المقابلة الداحضة. نعيش أيامنا على نحوٍ تناسخي، ثم نلتقي بمن يوقظنا على أننا إنما نبهتُ مع الوقت. باختصار: للحياة ظواهرها، ولذواتنا بواطنها المخاتلة! 

إنّ الوعي الفني السابق للكتابة جديرٌ بأن يشكّلَ الهادي لسيرورة الكتابة القادمة وصيرورتها في الوقت نفسه، وهذا ما يُقْرأ صريحاً معلَناً في كلمة الغلاف التي أرادت سوار الصبيحي تثبيتها، لتشهد على قصصها.. وعليها:
" يُطلَب من القارئ عادةً عدم الاكتفاء بقراءة السطور، والتعمق في استنباط ما بينها. إلّا أني أطلبُ شيئاً مختلفاً.. هل تستطيع قراءة ما بعد السطر الأخير؟ (التشديد هنا من عندي). 
إنْ أجبتَ بـ"نعم" فإنَّ هذا الكتاب قد كُتب خصيصاً لك. وإنْ أجبتَ بالنفي، فلا بُدّ أن تعطي مخيلتكَ فرصةَ نقلك – عبر قراءته – من موقع المتلقي إلى المشاركة في الحدث.
تضم المجموعة قصصاً توصف بالقصيرة، إلّا أنَّ لها بدايات بعيدة، وأحداثاً متراكمة أقف فيها عند نقطة ما، تاركةً مهمة التأويل لك".
.. هل يكفي هذا تحفيزاً لقراءة قصص هذه الكتابة المتجاوزة لـ"البدايات الأولى"؟
من جهتي، فرحتُ بهذه الكتابة وبكاتبتها؛ إذ أضافت للقصة في الأردن صوتاً جديداً لا تشوبه "نواقص" البدايات، صوتاً رائقاً صافياً.. وواثقاً.

 

 (*) الماتريوشكا، قصص، سوار الصبيحي، عصور للنشر والتوزيع، عمّان، بالاشتراك مع دار أزمنة، 2020.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.