}
قراءات

"الذات بين الوجود والإيجاد"..عندما يتخذ الكاتب نفسه مادة لكتابته

إدريس الخضراوي

16 فبراير 2020
ثمة مداخل متعددة لقراءة كتاب مختلف من طراز "الذات بين الوجود والإيجاد" (1) للمفكر والروائي المغربي بنسالم حميش. بدايةً يتبيّنُ أن هذا العمل الأدبي يَتميزُ بالأسلوب السّلس وطريقة البناء المبتكرة التي يَمزجُ فيها المُؤلفُ بين السّرد والمقالة. يتولّد السّرد الذاتي من المقالة بشكل متوتر ومدهش، يذكرنا بمفهوم رولان بارت لـ "الشكل الثالث" الذي استلهمه من قراءته للروائي مارسيل بروست الذي يُعدّ من أكبر روائيي القرن العشرين والذي عبَر بالرواية صوب المقال أو الرّواية المقالة. وعليه، نحن بصدد عمل أدبي يسلك فيه الكاتب دربا مختلفا للكتابة عن ذاته. وليس المقصود بالاختلاف أن الكتاب يَصدرُ عن مقترحات جمالية غير مألوفة. إذ لا يُمكنُ للعمل الأدبي أن يُحقّقَ المقروئية إن لم يتمثل كاتبه التقاليد الجمالية المتحققة. فتقاليد الكتابة ليست فقط بمثابة الأوامر الملزمة كما تقولُ بذلك نظرية الأجناس الأدبية، وإنما هي أيضا الأساس الذي تَقومُ عليه القراءة ويتأسّسُ الفهم والتأويل. ومهما كانت درجة تطابق النّص مع هذه التقاليد، فالإمكانيات أمام الكاتب المبدع لا نهائية ولا محدودة لإغناء وتوسيع مفهوم الكتابة ضمن جنس أدبي محدّد. فالكاتب، بحسب رينيه ويليك وأوستن وارين في كتابهما نظرية الأدب (2)، يستطيع أن ينخرط في جنس أدبي ما، لأنّ الجنس الأدبي مؤسّسة، ويُمكنُ أن يَعملَ من داخل هذه المؤسّسة على تطويره وتوسيعه.

لا يُفصِحُ كتاب "الذات بين الوجود والإيجاد" عن طابعه الأجناسي، لكن من خلال القراءة يتبدّى لنا أن بنسالم حميش يَجعلُ من نفسه مادة للسّرد والاستبطان والتقصّي، وهو الرّهان الأساس الذي تسعى السيرة الذاتية والتخييل الذاتي إلى تحقيقه. وبما أنّ مفهوم الميثاق السيرذاتي قد وُضعَ في هذا النّص موضع تساؤل، بل حتى الذات نفسها تخضع لتصور مختلف يستمدُّ مقوماته من المرجعيات الفكرية والفلسفية والقيمية التي اغترف الكاتب من معينها، وشكلت مصدرا أساسيا من مصادر تكوين رؤيته للإنسان وللعالم، فإننا، مع هذه الأسئلة النقدية التي يطرحها المؤلف حول السّيرة الذاتية، لا نغالي إذا قلنا إن الكاتب يَطمحُ في هذا العمل إلى تجاوز المضايق التي وقعت فيها كتابة السيرة الذاتية، خاصّة الأعمال التي دَرجَ أصحابها على تتبع المراحل العمرية والالتصاق بحيواتهم الخاصّة بشكل أوقعهم في أحابيل نسق الأنا النرجسيّة (3). من هنا ليس كتاب "الذات بين الوجود والإيجاد" سيرة ذاتية بالشكل الذي ألفه القارئ، بل هو سيرة فكرية موضوعاتية ينهضُ فيها الراوي، وهو الكاتب الواقعي بنسالم حميش، بالقيام بمراجعة انتقائية. ويَستندُ المُؤلفُ في هذه المراجعة إلى الأهمية التي يكتسيها الماضي في تشكيل الشخصية الإنسانية تشكيلا حاسما أو نهائيا. إن صفة الانتقائية التي تخصّص المراجعة التي يَضطلعُ بها المترجم لذاته، تعني أساسا أن الماضي لا يُمكنُ للأنا أن تستعيده كليا، بما أن الذاكرة بطبيعتها انتقائية. وعليه، فصورة الماضي لا تَتشكلُ كما يعلّمنا فالتر بنيامين إلا لحظة الإدراك في الحاضر من خلال تفاعل ما كان قائما في السابق وما هو قائم في الوقت الرّاهن (4). هذه الحوارية هي ما يَفسحُ المَجالَ للتركيب وإعادة البناء والتشكيل أي التخييل. ويعدّ هذا المسعى الفنّي من أقوى العلامات دلالة على الانزياح الذي يَسمُ الكتابة السّيرذاتية المعاصرة التي يَنصهرُ فيها هاجس قول الحقيقة بالرغبة العارمة في توليد السّرد المؤثر القادر على إرضاء القارئ واستثارة فضوله.

الكاتب يَطمحُ في هذا العمل إلى تجاوز المضايق التي وقعت فيها كتابة السيرة الذاتية

















لكون هذا النص سيرة فكرية، فإن الهوية الأجناسية اقتضت أن يَختلفَ عن السير الذاتية التي استحكم بمؤلفيها هَاجسُ التأريخ لحيواتهم الخاصة، ورسم صورة الأنا المنتشية بتتبع هذه الحياة منذ الولادة إلى المرحلة التي استقرّ عليها قرار الكاتب، وهذه السير يسميها حميش "سير اللهج بالأنا الصرف" (ص15). من الواضح أن الكاتب يُشدّدُ منذ البداية على هذا النهج الجمالي المختلف. وعليه، إذا وجد القارئ بعض الإشارات إلى الحياة الخاصة، فإن أهميتها ترتدّ ليس إلى دلالتها على الأنا المتلذذة بصورتها أو على ما عاشه الكاتب الواقعي فحسب، وإنما كذلك إلى كونها علامات تَضطلعُ بإضاءة وفهم بَعضِ المواقف أو المسارات التي اتخذتها شخصية الكاتب في محطات لاحقة من تجربته إبّان تقلده مسؤوليات، سواء في الجامعة المغربية كالتدريس والتأطير، أو في الدولة من خلال تحمّله مسؤولية وزارة الثقافة، أو في الحياة العامة من خلال النضال السياسي والفكري داخل حزب الاتحاد الاشتراكي، أو في المجتمع المدني كمثقف مهموم بالقضايا والأسئلة الكبرى المطروحة وطنيا وإقليميا ودوليا. إن فهم هذا الانزياح عن السيرة الذاتية الكلاسيكية، خاصة فيما هو حميمي وذاتي، يَتطلبُ وَصْلَ كتاب حميش بنصّ Les Essais للكاتب الفرنسي ميشيل دو مونتين الذي عاش في القرن السادس عشر، وفيه أبدع صورة مركبة لأناه، أكثر غنى وثراء من الرسم الشخصي. لنقل إن الدرب الذي سلكه في رسم حياته الخاصّة هو الذي أوحى لبنسالم حميش أن يجترح أفقا مختلفا للحكي عن ذاته في عمل إبداعي يتداخلُ فيه الأدب والفلسفة والتاريخ والثقافة والسياسة. وهذا ما يتيح للقارئ إمكانيات أوسع كي يتلمّس كيف تطور وعي المترجم لذاته من خلال هذه الموضوعات التي انضوى فيها إما ذاتيا، وإما أدبيا وفكريا وإما لغويا وثقافيا.


رؤية للسيرة الذاتية
وزّع الكاتب مشهد نصّه على خمسة فصول هي: قطع حياتية/ أوجد في فضائي أدبيا/ أوجد في فضائي فكريا/ أوجد في فضائي لغويا/ أوجد في فضائي ثقافيا. هذه الفصول مثل الأوعية المتواصلة (vases communicants)، ففيها يُبرهنُ الكاتب ليس فقط على أن الوجود والإيجاد هما شيء واحد، وإنّما كذلك على أن الوعي بالذات وبتاريخها يتم كذلك من خلال الوعي بما فتحته من شرفات للرؤية والفهم والإدراك. وقد استهل الكاتب الحكي عن ذاته بمقدمة ضَمّنها رؤيته للسيرة الذاتية، ووعيه العميق بالتحولات التي عرفتها عبر تاريخها الحديث منذ أن كتب روسو كتابه الاعترافات. كما ألمع لمجموعة من الأدباء والكتاب الذين شكلت نصوصهم معالم طريق لهذه المنهجية التي سلكها في الكتابة عن تجربته الحياتية والفكرية. ومن هؤلاء الكتاب الغزالي وابن حزم والتوحيدي وابن منقذ وابن بطوطة وابن خلدون وطه حسين وإدوارد سعيد، بالإضافة إلى كتاب ينتمون إلى الثقافة الغربية مثل أوغسطين ونيتشه وريلكه وبورخيس وسارتر ومالرو وكامي وغيرهم. وما نلاحظه في هذا المستهلّ، هو أن حميش يبدو كاتبا يَصدرُ عن وعي نظري عميق بالأدب وبجدواه وعلائقه بالذات والعالم.

 انشغال حميش بالوجود كان دائما انشغال المتسائل والمرتاب والباحث عن معنى العالم والإنسان فيه 


















في قطع حياتية يستعيد الكاتب من مخزون ذاكرته مجموعة من الصور التي تَظهرُ من خلالها بعض معالم الطفولة التي عاشها بمدينة مكناس. ومنها لحظة الكتّاب بأدواته وبرنامجه وهي محطة نال خلالها نصيبا لا يُستهانُ به من المصحف، وكذلك لحظة التعليم الابتدائي بمدرسة درب السلاوي بمكناس في وقت كان فيه المغرب حديث العهد بالاستقلال (1956)، وفي هذا السياق يتذكر الكاتب علاقة المدرسين الفرنسيين بالتلاميذ المغاربة التي كانت تتسم بالقسوة والتعالي، ولم يكن يخفف من وقعها السلبي سوى حصة أستاذ اللغة العربية عبد العزيز بن عبد الجليل.

ومن بين الخطوط التي يلتقطها المترجم لذاته من مرحلة الطفولة، صورة معلمة فرنسية أغرم بها وعاش ذلك في صمت، والمرأة المجدوبة التي كانت سببا في تغيير اسمه من محمد إلى بنسالم. كما يذكر الكاتب علاقته بوالده الذي حرص على تنشئته وطنيا، وكان يحكي له عن بعض المعارك التي خاضها المغاربة ضدّ المستعمر الفرنسي كمعركة بوفكران. ويكشف الكاتب عن مشاعر العطف تجاه والده وشجاعته في مواجهة الحياة، وقد كان من بين أصدقائه المرحوم المؤرخ الفقيه المنوني الذي ذكر والده في موسوعته معلمة المغرب. كما يتناول علاقة والده بزوجته التي طبعها الاحترام والتفاهم. وقد اتسمت علاقته بالأخ الأكبر بالتوتر والنفور بخلاف ما كان عليه الأمر في العلاقة بأخواته. في هذا الفصل أيضا يحكي الكاتب عن مرحلة المراهقة وكيف عاشها، ويتلمّس بعض التحولات الفسيولوجية والنفسية التي طرأت عليه. وإلى حدود مرحلة الشباب لم يكن يخطر ببال الكاتب أن يصبح كاتبا ذات يوم. لكنه يتذكر أستاذه حسن المنيعي الذي حبّب الأدب الغربي للتلاميذ مشخصا مثلا في: تنيسي وليامس وجون شتاينبك وكارلوس فوينطيس وجان بول سارتر وألبير كامي، وفي سنة البكالوريا سيكتشف ميوله الفلسفية. ويذكر المترجم لذاته من بين المناسبات التي شعر فيها أن شيئا ما يربطه بالكتابة عندما حرّر خطبة دينية من ست صفحات، وكتب قصة بعنوان: لا بحر في مكناس حاكى فيها قصة لا بحر في بيروت للكاتبة غادة السمان. في هذه المرحلة يظهر الشاب اهتماما بالقراءة ومطالعة الكتب، وبالرياضة خاصة كرة القدم. ويمكن اعتبار الشغف بالقراءة في مرحلة الشباب بمثابة المغامرة التمهيدية التي ستعمق لدى حمّيش التمسّك بالجذور والارتباط بالأرض، كما سترسخ قناعته بأهمية الخروج من الأنساق المغلقة والمفاهيم الضيقة للهوية والتطلّع إلى أفق آخر.
تمثل سنوات التعليم الجامعي خلال منتصف الستينيات المرحلة التي سيتأكد فيها نزوع المترجم لذاته إلى الكتابة الأدبية. ومن بين الشخصيات الفكرية والثقافية التي أثرت بقوة في تكوينه الفكري والفلسفي يذكر الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي الذي كان عميدا لكلية الآداب بالرباط، والأستاذ جوزيف شوني وإبراهيم بوعلو وعبد الجبار السحيمي وعبد الكبير الخطيبي والأستاذ عبد الله العروي. ومن بين الفلاسفة الذين تأثر بهم خلال مرحلة الشباب كارل ماركس وسارتر. وعندما صار أستاذا جامعيا كرّس دروسا للماركسية والوجودية. وقد ألهمه تعلقه بالماركسية أن كتب سنة 1983 الكتاب الأول بعنوان: في نقد الحاجة إلى ماركس، كما شغف بمذهب سارتر الوجودي، وبنظريته عن الالتزام ودفاعه عن المثقفين، وبفضله توطدت علاقته بالأدب. بعد هذه الفترة التفت الكاتب إلى التراث الاسلامي وأقبل على قراءة كتب التصوف، ومن ثمار هذا الاهتمام كتابه: التشكلات الأيديولوجية في الاسلام: الاجتهاد والتاريخ، وهو في الأصل أطروحته التي أعدها تحت إشراف المستشرق مكسيم رودنسون. وقد وصف رودنسون هذا العمل بأنه (أطروحة مفيدة وذكية حول ظاهرة الاجتهادات في الإسلام). هذا المستشرق الذي تميز بمنهجه التنقيبي الذي يختلف عن مناهج كثير من المستشرقين، كان له أثر كبير على حميش، فقد تعلّم منه هذا المنهج واستثمره في دراساته الفكرية، ومنها: الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ (1998)، والعرب والإسلام في مرايا الاستشراق (2011)، وفي الإسلام الثقافي (2016).


معالم الوعي الأدبي وأثر الرافد الفلسفي
في الفصل الثاني أوجد في فضائي أدبيا يقرّبنا حميش، مقتديا بروائيين غربيين من طراز فلوبير ويورسونار وأمبرتو إيكو، من عالمه الروائي وقصة تكونه والمخاض العسير الذي يعيشه الكاتب من أجل تقديم أعمال جيدة تنطوي على رؤية متعددة ومتشعّبة للعالم، كما يقول إيتالو كالفينو. يشدّد حمّيش على أن مفهومه للكتابة يستند أساسا إلى الشعور واللاشعور، وموضوعها هو الواقع الذي تسعى إلى سبر غوره وكشف حسابه في مرآة قيم أخلاقية وجمالية متأصلة ومتطورة. وكي تنهض الكتابة بتأدية هذه المهمة الصعبة لا بدّ لها من التفاعل مع مناطق الأصول وما يفرزه التاريخ من أشكال وأساليب كتابية بعيدا عن المحاكاة الاستنساخية.

يتيح هذا الفصل للقارئ أن يتعرّف على معالم الوعي الأدبي لدى صاحب العلاّمة من خلال تبئير الحكي على علاقته ككاتب بالرواية التي لم يأت إليها صدفة، بل ولج عالمها مستنداً إلى مصاحبة واطلاع واسعين على الإبداع الإنساني في ثقافات مختلفة. هذه النظرة الموسوعية الملمة بتاريخ الرواية جعلته يفهم الفورة التي حققها هذا الجنس الأدبي على أنها ثمرة الصيرورة والاغتناء بكل حلقاته، فالرواية عنده ثقافة بقدر ما هي ممارسة إبداعية بامتياز. تَشهدُ على هذا المفهوم عن الرواية، والوعي الجمالي والإبداعي الذي حفره الكاتب، أعمال مثل: مجنون الحكم، والعلامة، وهذا الأندلسي وزهرة الجاهلية، ونصان روائيان قيد الكتابة أحدهما عن شخصية المولى إسماعيل (ت 1139ه-1727م)، والثاني عن ابن المعتز.
تَناولَ الفصل الثالث أوجد في فضائي فكريا أثر الرافد الفلسفي في التكوين الفكري والأدبي لشخصية حميش. أما الفلسفة التي يوثرها فهي التي تمارس النقد والنقد الذاتي، وتنشغل بإبداع المفاهيم والتصورات، وتتحرّر من الفكر الواحدي الدوغمائي. ومن بين الفلاسفة الذين اغترف من معينهم واقتدى بنهجهم إيمانويل كانط ونيتشه وسارتر وكيركغارد، بالإضافة إلى اهتمامه بفلسفة التاريخ، وهذا ما أوجد له مسالك إلى أعماله الروائية. وهو هنا يستفيد كذلك من تجربة نجيب محفوظ الذي شكلت الفلسفة المصدر الثر الذي أوحى إليه بكثير من الأعمال الروائية. إن الفلسفة التي يعتبرها حميش ذات تأثير كبير في تصوره للرواية وفي كتابته الإبداعية ليست هي الفلسفة النسقية التي تنشد التمامية والاكتمال، وإنما الفلسفة اللانسقية، وقد برز هذا في كتابه: كتاب الجرح والحكمة الذي تأثر فيه بالفلسفة الوجودية من حيث الإيمان بالفرد، وكذلك في أعماله الروائية اللاحقة التي هي ثمرة العلاقة الحوارية بين الرواية والفلسفة اللانسقية الوجودية والحيوية. وفي رواياته المؤسسة على أرضية تاريخية، يتجلى رافدان هامان: الرافد التراثي والرافد التاريخي، ويصنّف حميش هذه الروايات ضمن التخييل التاريخي. لا شك أن الصورة التي يرسمها حميش لنفسه في هذا الفضاء الأدبي، هي صورة القارئ الجيد للإبداع العالمي، والكاتب المطلع على تاريخ الرواية، والملم بتقنياتها الفنية والجمالية.

 

مسألة الهوية
في الفصل الرابع بعنوان أوجد في فضائي لغويا يَتناولُ الكاتب مسألة الهوية ومفهومه لها. ويتوقف الكاتب عند ما تتعرّض له الهوية المغربية والعربية من ضروب الإنهاك والتفكك بسبب العنف الاستعماري الذي لا يزال تأثيره قائما، وإن تم إنهاء الاستعمار، وكذلك بسبب عودة الهيمنية السّافرة أو المقنعة. ولتفكيك هذه الهيمنية يوثر الكاتب الأخذ بالمنهج الإدواردي (نسبة لإدوارد سعيد) أي القراءة الطباقية، وهو منهج يقرأ في النص في الوقت نفسه الهيمنية وأشكال المقاومة الموجهة ضدّها. في هذا السياق يعيد المؤلف تأسيس مجموعة من المفاهيم كمفهوم العالمية مشددا على أن الدرب الذي يقود الثقافة إلى العالمية يَجبُ أن يتأسس على أسسها المميزة، وإلا فإن الثقافة المهيمنة ستكون عمليا هي ثقافة القوى المستعظمة. ويبرز الكاتب أن إضعاف الهوية يبدو أساسا في تبخيس لغتها، وهو ما يحدث للغة العربية. ولا شك أن الصورة الشخصية التي يرسمها الكاتب لنفسه في هذا الفضاء هي صورة المثقف العمومي المعني باللغة العربية التي تندرج ضمن أساسيات هويتنا التاريخية. فهي ليست فقط لغة بلاد ميلادها (اللغة المضرية العدنانية)، وإنما هي اليوم إرث حضاري تملّكه العالم العربي كله واستثمر فيه أدبيا وفكريا وعلميا منذ قرون. وللاستدلال على هذا الاستثمار يذكّر الكاتب بإسهام المثقفين والكتاب المسيحيين في القرن التاسع عشر كبطرس البستاني وأحمد فارس الشدياق والأب أنسطاس الكرملي ولويس معلوف. هذا الوعي لدى الكاتب لم يلغ لديه ذلك الولع باللغات، وبذله الجهد في تعلمها كاللغة الأمازيغية والإنكليزية والفرنسية واليونانية والإسبانية، فضلا عن اهتمامه بالعامية المغربية، ويعترف بأن هذا التعدد ينعكس إثراء وإغناء لعالمه الروائي.
تَكرّسَ الفصل الخامس لفضاء الثقافة، وفيه ذكر الكاتب مفهومه للثقافة، وبيّن علاقة الثقافة بالتعليم والتنمية الشاملة، ثم انتقل للحديث عن علاقته بالثقافة سواء ككاتب ومثقف أو كمسؤول سياسي حينما تحمل مسؤولية وزارة الثقافة، كما ذكر الكاتب ببعض السجالات التي خاضها مع مجموعة من المثقفين مثل أدونيس ويوسف زيدان. وينتهي السّرد الذاتي في هذا الكتاب إلى التشديد على القناعة التي وجدت لدى الكاتب منذ مرحلة الشباب وترسخت فيما تلا هذه المرحلة، وهي وجوب تحرير الذات من الهيجمونيا. ويؤكد أنه مدين في وعيه النقدي لسعيد وفرانس فانون وسارتر، وغيرهم من المثقفين الذين فككوا ظاهرة التبعية السالبة متعددة الأوجه والصيغ.

ليس بوسعي في هذه القراءة أن أحيط بكل الجوانب الفنية والفكرية التي يطرحها هذا النّص السيرذاتي متعدد الفضاءات والمرجعيات، والذي تَتَقاطعُ فيه مجموعة من الخطابات التي شكلت شاغلا أساسيا بالنسبة لحمّيش، وانغمرَ فيها كذات قلقة متسائلة فكريا ومعرفيا. يكفي أن أشير إلى أن الشكل الفني الذي اجترحه الكاتب للحكي عن ذاته ورؤيته للإنسان والعالم، تعزّزه قراءات واسعة لعدد من الكتاب العالميين، وقدرة كبيرة على الاستفادة منها وهو ما تعزّزه كذلك هذه العلاقة المتواشجة بين الوجود والإيجاد في مسيرة حميش كإنسان ومثقف. فانشغاله بالوجود كان دائما انشغال المتسائل والمرتاب والباحث عن معنى العالم والإنسان فيه، وهذا ما أفرز لديه ذلك التميز والاختلاف الذي طبع حضور الذات في الفضاءات التي اهتم بها سواء تعلق الأمر بالفلسفة والأدب والثقافة بالمعنى الواسع، أو بالسياسة. ولعلّ السؤال الذي يظل مطروحا أمام قارئ السيرة الذاتية بشكل عام، وهذا العمل السيرذاتي بشكل خاص، هو ما الذي يحدث عندما لا تكون السيرة الذاتية قصّة حياة بالمعنى المألوف في الكتابة عن الذات، بل تتعيّن بوصفها قصة تكوّن هذه الذات فكريا وإبداعيا وثقافيا بالمعنى العام الواسع؟ ألسنا ها هنا في حضرة التخييل الذاتي بوصفه إمكانا للاقتراب من الذات ومما عاشته وخبرته. ذلك في تقديري ما يُشكلُ وجها من وجوه الفرادة والتميزّ في هذه السيرة الفكرية.

 

هوامش:

1- بنسالم حميش: الذات بين الوجود والإيجاد، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء 2019

2- انظر الفصل الخاص بعنوان: الأجناس الأدبية، في نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1978

3- سلوى السعداوي: الأنا النّرجسية في أدب الذات، مركز النشر الجامعي، تونس 2015، ص99

4 - غريم غيلوتش: فالتر بنيامين تراكيب نقدية، ترجمة مريم عيسى، سلسلة ترجمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2019، ص66

*كاتب من المغرب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.