}
عروض

"برفقة الريح".. شِعريّة كيارستمي مزيج من العمق الفلسفي والبساطة

عماد الدين موسى

27 فبراير 2020
بصدور الترجمة العربيّة لمجموعته البكر "برفقة الريح"، تكون المكتبة العربيّة قد احتوت على المجموعات الشِعرية الثلاث للإيراني عبّاس كيارستمي، إذ صدرت الترجمة العربيّة لمجموعته الثانية "ذئب متربّص" في دمشق- عام 2006، فيما صدرت ترجمة مجموعته الثالثة والأخيرة "ريح وأوراق" في بداية العام الحالي عن منشورات "المتوسط" في ميلانو.

في مجموعتهِ الشِعريّة "برفقة الريح"، الصادرة في طبعتها العربيّة عن دار أثر (ترجمة: ماهر جمّو)، يقدّم الشاعر والمصوّر الفوتوغرافي والمخرج السينمائي العالمي عبّاس كيارستمي "كتابةً مُختلفة، من حيثُ الشكل والمضمون عن الكتابة الشِعريّة السائدة في إيران اليوم، فكتابته هي مثل أفلامه، مزيجٌ من العُمق الفلسفيّ والبساطة، وهي تجعل من هموم الكائنات همّاً شخصيّاً صادقاً، كما أنها تقدّم أسئلةً كبيرةً من خلال كلماتٍ قليلةٍ موجزة منتقاة بعناية ورؤيةٍ مصقولةٍ، ومن خلال البساطة اللغوية تارةً، واللعب بالمصطلحات اللغوية والمفارقات تارةً أخرى".
كيارستمي (المولود في طهران، 22 يونيو/حزيران 1940)، نشط في أكثر من مجالٍ إبداعيّ، بدءاً من الإخراج السينمائي، مروراً بالتصوير الفوتوغرافي، وصولاً إلى كتابة الشِعر؛ حيثُ كانت الخصوصيّة جليّةً، وكان الإبداع هو القاسم المشترك بين كل هذه المجالات. فيما المبدع كالطائر الغنّاء في تنقّلهِ من غُصنٍ لآخر، ومن شجرةٍ أو غابةٍ لأُخرى. طالما أنّ من يُبدع في مجال ما قد يتجاوزه إلى مجالات أُخرى عديدة، وإن كان الأول احترافياً، فيما الآخر لا يعدو كونه أشبه باستراحة "المحارب بين معركتين" أو أكثر قليلاً.

 

قصيدة الفوتوغراف
تنهل قصيدة عباس كيارستمي شِعريتها من الطبيعة الريفيّة، ما يمنحها المزيد من السلاسة وسهولة التلقي، حيثُ تأخذ شكل المشاهد المؤطّرة في الصور الفوتوغرافيّة، تلك القادمة من أماكن حميميةٍ وقصيّةٍ في الآن معاً. "الفزاعة" و"الحصان" و"الحقل" و"القرية" و"نباح الكلب" والثلج" و"النحل" و"الطائر" و"أزهار الكرز".. مفردات نجدها بكثرةٍ لدى كيارستمي؛ حيثُ يقول في أحد المقاطع: "دويُّ الرّعد/ يقطعُ/ نُباحَ الكلب/ فوق القرية"، وفي مقطع آخر نقرأ: "الحصانُ المُحمّلُ/ يتريَّثُ/ لدى عبوره/ بحقل البرسيم".
البساطة في التعبير، جنباً إلى جنب العمق في الرؤية، هي الاستراتيجية الوحيدة لشِعريّة كيارستمي. مفرداته شفيفةٌ أكثر مما ينبغي، تبدو وكأنها لا مرئيّة، فيما جملته قصيرة وشديدة التكثيف.

ثمّة لغة سينمائيّة جليّة نتلمّسها في قصائد عبّاس كيارستمي 

















تقنية المقطع
يعتمد كيارستمي في تشييد قصيدته على تقنية المقطع والقريبة إلى حدّ ما من النموذج العالمي للهايكو الياباني، حيثُ الشِعريّة الوامضة في التقاط المشاهد الجذّابة و"الأفكار البسيطة" ومن ثمّ تدويرها شِعراً؛ "عندما هببتُ من النّوم/ كانَ الوقتُ بداية الربيع تماماً/ لا أقلّ/ ولا أكثر"، "يئنُّ القطارُ/ ويتوقّف،/ فراشةٌ نائمةٌ على سكّة الحديد"، "ضائعٌ أنا/ منذُ سنواتٍ/ كقَشَّةٍ/ بين الفصول".
ثمّة لغة سينمائيّة جليّة نتلمّسها في قصائد عبّاس كيارستمي؛ بدءاً من حركة العدسة (الزوم) ببعديها القريب والبعيد، مروراً بالجانب التأمّلي والذي يضفي جماليّةً على النص المدوّن ويحيله من كونه "نصا مكتوبا" إلى "نص بصري" أشبه باللوحة التشكيليّة.
ولعله بإمكاننا أن نعتبر كل نص أو مقطع من المجموعة بأنه فيلم سينمائي قصير أحياناً أو صورة فوتوغرافيّة أحياناً أخرى. إذْ ثمّة تداخل حميم ما بين العوالم الثلاثة "الشِعر" و"السينما" و"الفوتوغراف"، حيثُ في الحالة الأولى ثمّة حركة ديناميكيّة مذهلة، فيما في الثانية لا شيء سوى الصمت؛ "الحركة" و"الصمت" هنا بوصفهما طرحا إشكاليّا لأسئلة وجوديّة ذكيّة، تحاكي الواقع الذي نعيشه.
من أبرز المقاطع التي تأتي في هذا الاتجاه، نقرأ: "مائةُ شجرةٍ قويّة/ انكسرت في الرّيح/ ومن شجيرةٍ صغيرة/ أخذت الرّيحُ/ ورقتين فقط"، "داخل المزار/ بألف شيءٍ فكّرتُ،/ وعندما خرجتُ/ كان الثلجُ/ قد غطى الأنحاء"، "دفتران من المائة صفحة/ قلمُ رصاصٍ مبريٌّ/ جُعبةٌ من الوصايا/ طفلٌ على الطريق"، "ظلّي/ يرافقني/ في ليلةٍ مُقمرة".

 

ثنائيّة الحياة والموت
تزخر قصيدة كيارستمي بالانزياحات اللغويّة المحبّبة، ومن ثمّ بالمفارقات اللفظيّة؛ وهو ما يضفي المزيد من الإدهاش على شِعريته البسيطة والسلسة. الصور بدورها تنساب كشريط لا نهائي من المشاهد الجماليّة الخلابة؛ "مهرٌ أبيض/ يخرج من الضَّباب/ ويختفي/ في الضباب"، "الرّيحُ الرّبيعيّة/ تقلّبُ أوراق دفتر مدرسيٍّ،/ طفلٌ غافٍ/ على يديه الصّغيرتين".
مجموعة "برفقة الريح (1999)"، والتي جاءت في 124 صفحة من القطع المتوسط، هي الإصدار الشِعريّ الأول في رصيد عبّاس كيارستمي، الذي توفي العام الماضي في باريس عن 76 عاماً، إلى جانب مجموعتين شِعريتين لاحقتين لها، هما: "ذئب متربّص (2004)"، و"ريحٌ وأوراق (2010)".

  يعتمد كيارستمي في تشييد قصيدته على تقنية المقطع والقريبة إلى حدّ ما من النموذج العالمي للهايكو الياباني


















قصائد هذه المجموعة، وبحسب المترجم، "هي احتفاءٌ بالحياة وتمجيدٌ لتفاصيلها الدقيقة الساحرة، تمجيدٌ لفرحها وحزنها، لهنائها وشقائها على حدّ سواء، فكما أنّ الحياة حاضرة بقوّةٍ في هذه القصائد، كذلك هو الموتُ، القرين الأبديّ لهذه الحياة، هو دائم الحضور، بل يتعدّى الأمر أحياناً إلى اجتماع هذين النقيضين الكبيرين جنباً إلى جنب في نصٍّ صغير واحد".
"عندما أُمعنُ في التفكير/ لا أفهمُ/ سببَ كلّ هذا الخوف من الموت"، يقول كيارستمي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.