}
عروض

"سعادة العُشب".. نصوص عابرة للأشكال

صدام الزيدي

18 مارس 2020
يقدم الشاعر التونسي، عبد الفتاح بن حمّودة (إيكاروس)، في مجموعته الشعرية الجديدة "سعادة العُشب"، الصادرة حديثاً عن دار ميّارة للنشر بتونس، نصوصاً عابرة للأشكال، وإن بدت منذ الوهلة الأولى تشبه الهايكو، إذ تحمل بعض عناصره، في مغامرة جريئة لشاعر هو من أهم كتاب قصيدة النثر العربية.
تقع المجموعة في 110 صفحات من القطع المتوسط، وكتبت نصوصها بين مارس/ آذار 2016 ونوفمبر/ تشرين الثاني 2019. تبدأ المجموعة بإهداء إلى روح الشاعر والمترجم المصري الراحل، محمد عيد ابراهيم، وعدد من الأصدقاء من الشعراء والكتّاب التونسيين والعرب: سعيف علي، وفتحي قمري، وميلاد فايزة، وأشرف القرقني، ومنصف الخلادي، وفتحي خليفي، والسيد التوي، وعبدالواحد السويح، ومحرز راشدي، وعياد بومزراق، وبلال المسعودي، وتوفيق الثامري (تونس)، وحاتم الصكر، وحمدان طاهر المالكي (العراق)، وسعيد الباز، وحسن بولهويشات، وصلاح بوسريف، وعبداللطيف الوراري، ونجيب مبارك، ورشيد وحتي، ومحمد الشَّركي، ومحمد العرابي، وعبدالرحيم الخصَّار (المغرب)، الذين قرأوا الكتاب قبل دفعه إلى دار النشر.
بعد الإهداء، تصدير هو عبارة عن اقتباس لأغنية قصيرة "من أغاني غجر منغوليا":
 "بجعات.. بجعات.. بجعات/ تجمّعت في البحيْرة الزرقاء/ فقَّست البيوضُ/ الآن حان وقت الرحيل/ حان الوقت للطّيران بعيداً". ثم مقدمة قصيرة للشاعر بن حمّودة هذا نصها: "وجدت الهايكو معتمداً في تشكيله البصريّ على ثلاثة أسطر، ولكنّه في الأصل نصوص مؤلفة من سطرين، حسب الاستيفاء التركيبي للنصوص. وقد تكون نصوصي هذه، في نظر البعض، شبيهة بالهايكو، لأنّها تحمل بعض عناصره، ولكنها ليست كذلك مطلقاً. رغم أنه ليس من حقي توجيه القراءة، فأترك الحكم للقرّاء بعد الاطلاع على النصوص.
عموماً، قد أكون نجحت، وقد أكون فشلت، المهمّ أنّني حاولت كتابة قصيدة نثر من ثلاثة أسطر بأداء قائم على الجملة الاسميّة. إنّها في النهاية محاولة لإيجاد بدائل لقصيدة النثر العربية القائمة على التكثيف والإيجاز".



حارس الرمال والإسفلت والعشب
تأتي نصوص المجموعة على شكل نصوص قصيرة مرقّمة، ضمن المدار الأوّل "حارس

الرمال" نجد 54 نصاً قصيراً، وفي مدار "حارس الإسفلت" يستمر بن حمّودة في متابعة الترقيم للنصوص وصولاً إلى المقطع 100، ثم يأتي المدار/ العنوان الثالث "حارس العشب" ليصل عدد المقاطع في النصوص الثلاثة إلى 134 نصاً قصيراً. بعده يبدأ القسم الثاني من الكتاب تحت عنوان "عشبة لكل فم"، متضمناً نصوصاً قصيرة جاءت عناوينها كالتالي: هي كلمة.. هي كلمة، مباهج الصيف، الربيع، سأبحث عن بيت جديد، العشبة والبذرة، إهانة.
وبعد "الفهرس"، ينشر بن حمودة في القسم الأخير شهادات لشعراء وكتاب عرب تحت عنوان "قالوا عن الكتاب"، وهي عبارة عن آراء وانطباعات الذين اطلعوا على المجموعة، وقرأوا نصوصها، قبل دفعها إلى دار النشر، في نحو تسع صفحات أخيرة من الكتاب لكل من: فتحي قمري، وسعيد الباز، وحمدان طاهر المالكي، وحاتم الصكر، وميلاد فايزة، وحسن بولهويشات.

نصوص عابرة للأشكال
من بين أهم الانطباعات والآراء النقدية، إشارة للناقد والأكاديمي العراقي المقيم في أميركا، حاتم الصكر، الذي يرى أن مشروع عبد الفتاح بن حمّودة، الهايكوي، مهمّ، ويعيد صياغة الهايكو بخطاب جديد لا يقلّد منشأه، ولا يذهب به في طرق غريبة، كما هو حاصل في كثير مما قرأنا من الهايكوات المنشورة مؤخراً. مبيّناً أن اعتماد الشاعر الجمل الاسميّة لبناء الهايكو

مناسب جداً، لأنه يثير إيقاعاً هادئاً وتأملاً ليس فيه عنف اللغة في الجمل الفعلية. ويضيف الصكر عن نصوص الكتاب القول إنها "نصوص عابرة للأشكال. هذا ما يمكن قوله بكثافة وإيجاز، تحاول موازاة، أو مباراة، التكثيف، أو الاقتصاد في نصوص (سعادة العشب). ثلاث جمل إسمية، أو لنقل ثلاث جمل شعرية إسمية. تلك الهويّة التركيبية والخطّية للنص تتطلب بالضرورة قراءة مُقْتَصَدة، تلتقط الهدف، أو الدلالة، التي قد لا تكون ملموسة، بل محسوسة تشيع في إيقاع النصوص المتشكل من ذلك الاختزال، واستثمار بيت القصيد للخروج والتوقف. كذلك نحس موضوعاتها الواقعة في حدود النص وخارجه أيضاً؛ لأنها تتمدّد بعد القراءة. تلك مهمّة القراءة ووظيفتها في هذا المقام. ولا بأس في البحث عن آباء لهذه النصوص، أو رحم عائليّ تتفرع منه وتحمل مزاياها في ما نسمّيه جينيالوجيا النص، رغم أن الشاعر نفى عنها في التقديم صلتها بالهايكو، وأرادها وليداً منقطعاً عن الشّبه بأي شكل سوى ما صرّح به: ثلاث جمل إسمية. لكن وراء ذلك ما هو أعمق؛ تناصّ شكلي مع الشّذرات التي عرفها الشعر الأوروبي والنثر العربي في بعض أنواعه، ونظام الهايكو ومقاصده، مع تكييف عربي وذاتي، إلا أننا سنستذكر الهايكو باعتباره واحداً من مؤثرات التّجربة، ومجال الإبداع والتوليد فيها. ودليلنا على ذلك قربها من قاموس الطبيعة والاحتكام إلى انتظامها ووجودها وإيقاعها في أغلب نصوص الكتاب".
ويختم الصكر عن نصوص الكتاب بالقول: "هي تجربة حرّة إذاً، رغم انضباطها البنائيّ، ولما تحتويه من مضامين حكاية أخرى ستكتشف أبعادَها القراءاتُ الفاحصة".
أما الشاعر التونسي، فتحي قمري، فذهب في إشارة مقتَضَبة إلى القول إنه: "صحيح أن قصيدة النثر تقوم على مبدأ الانتهاك للمألوف، ولكن ليس إلى الحدّ الذي يفقد فيه النصّ ماهيّته وتعريفه كوحدة لجمل مترابطة تؤدي إلى معنى قد يكون قابلاً للتفسير، أو التأويل، أو غير ذلك من القراءات التي تلمس شيئاً  ما، أو تتذوق جمالاً ما في النص. والسؤال: ما هو هذا الرابط في النص الواحد من هذه النصوص؟".
ويفتتح الشاعر والمترجم المغربي، سعيد الباز، انطباعه بحديث موجّه إلى صاحب الكتاب، الشاعر عبد الفتاح بن حمّودة: "دعني أقول لك إنك تثير مسألة مهمّة تتعلّق باستنبات الهايكو في تربة شمال أفريقيا تحديداً، وهذه شجاعة تُحسب لك بدلاً من استيراده من اليابان، أو الصين. اندهشت كثيراً كلما اقتربت من طبيعة بلداننا المشتركة بدت لي عناصرها وهي تتبادل المواقع

داخل الصورة الشعرية تتلاحم لتخلق وحدة الأثر، كما يقول إدغار آلان بو... ربما تدعونا محاولتك الشجاعة إلى مساءلة أعمق. لا بأس من تركها ووضع مسافة من موجة مقلّدي الهايكو من دون معرفة بطبيعته وسياقه. هذه النماذج التي اخترتها أكبر معبِّر عمّا أقوله عن تبْيئة الهايكو، أو على الأصحّ فكرة الهايكو، وليس شكله الجمالي الذي يفرض علينا بالضرورة أن نلبس الكيمونو، ونشرب الشاي الياباني، ونستظل بمظلات القصب، وإلا كان على الياباني أن يكتب شعر المعلقات، ويقف على الأطلال". يضيف الباز: "هو تراسل جمالي مقصود في نهاية الأمر، الهايكو، أو الكتابة السريالية، سيّان". ويشير سعيد الباز بقوله إنه اطلع على ذلك، وكان قد دوَّن في دفتره الجملة التالية: "وإذا ابتليتم بالهايكو فاستتروا". وهنا يختم الباز بإشارته أنه: "قصدت أولئك الذين يقتربون من الهايكو من دون إلمام كافٍ، أو عن استنساخ فجٍّ، وأحجمت عن نشره في الفيسبوك حتى لا تثور ثائرة بعضهم. من جهتي، أرى أن تجربتك مهمّة لعدة أسباب، سأذكرها لاحقاً. لقد استمتعت حقاً بالقراءة وهي تحفِّز على الكتابة في موضوع شديد التّعقيد مثل الهايكو".
من ناحيته، قال الشاعر العراقي، حمدان طاهر المالكي، إن "سعادة العشب"، بدءاً من العنونة، أو عتبة الكتاب، جميلة وموحية ودالة على ما في داخل الكتاب. أما تصدير الكتاب، أو ما يطلق عليه بالتوطئة، فهو مناسبة لفلسفة النصوص ومفهومها العام (بجعات، بجعات...) 134 قصيدة نثر قصيرة، أو هايكو (كما يرى المالكي). وعن المقدمة القصيرة التي كتبها بن حمّودة، يجد المالكي أنها "كانت ضرورية لرفع الشبهات، ودفع الالتباس مما سيقال عن الكتاب. ورغم ذلك فإن القارئ سيؤوِّل الكتاب ككتاب هايكو"، منوّهاً بأن كتاب "سعادة العشب" تجربة مدهشة حقاً تستحق عناء السهر وحرق السّجائر، على حد قوله.
وختم بالقول: "تجولت في غابة الأرامل وهي تكبر بفعل الألم والانتظار، ورأيت السّمكة في فم البطريق، والبطريق في فم كلب البحر، فأحسست بدفء وحرائق الكلمات، وهي تصعد ساخنة كرغيف خبز، من يد أم تونسية حنون".

الشاعر والمترجم التونسي، ميلاد فايزة، يقول عن "سعادة العشب": "هذه نصوص جديرة بالقراءة والتأمل، ويمكن القول إنها تمثل تجربة مهمّة ستثير شهيّة النقّاد لمساءلتها وسبر أغوار جمالياتها. إنها نصوص ذات قابليّات متعدّدة للتأويل، فهي تغريك بقراءة أخرى، كلما ظننت أنك قد فككت شيفرة صورها، وأحطت بظلال كلماتها. نصوص تحتاج إلى أن تضعها جانباً بعد كل قراءة، لتعود إليها لاحقاً فتجدها قد تخمّرت مثل بيرة لذيذة".
ويتابع ميلاد منوّهاً بأنه رغم أن الجملة الاسمية قد هيمنت على كثير من نصوص الكتاب، فإن ذلك لم يمنعها من خلق عوالم شعرية تجريبية تلاقحت فيها معاني الكلمات، وتداخلت ظلالها لتولِّد أطيافاً وهالاتٍ جديدةً لا يتسع لها القاموس. ويختم فايزة بأنه في "سعادة العشب" نصوص كثيرة فيها خواتم مفاجئة ومُبهِرة، نصوص استطاعت أن تفتح لنهر التأويل مجرى نحو أرض أكثر خصوبةً وأشجاراً.
ويكتب الشاعر المغربي، حسن بولهويشات، رسالة إلى عبدالفتاح بن حمّودة، بعد قراءته لنصوص "سعادة العشب"، منوّهاً بما قال عنه "تفاصيل صغيرة استوقفته في الكتاب، والتي يندر أن تلتقطها عينٌ إلاّ إذا كان صاحبها شاعراً حقيقياً"، وختم بولهويشات رسالته بقوله: "في النهاية، أسألك كيف اعتمرت قبّعة (باشو)، واشتريت تذكرة سفر فوصلت آسيا عبر البحر، أو تحليقاً (لا أدري)، وتركتنا هنا نطيل اللّسان، نقول كلاماً كثيراً، من دون أن نفصح، ومن دون أن نُشفى؟".

***

عبد الفتاح بن حمّودة (إيكاروس): شاعر تونسي، من مواليد المهدية 1971، من مؤسّسي "حركة نص" الشعرية التونسية منذ 2011، تُنشر كتاباته في صحف ومجلات تونسية وعربية ودولية منذ عام 1994. وهو نائب رئيس تحرير مجلة "نصوص من خارج اللغة". له ثلاثة عشر إصداراً. وفي انتظار النشر: كتاب حركة النص، مزدوج 3و4 (عمل جماعيّ بالاشتراك مع شعراء حركة نص)، والجزء الأول من الأعمال الشعريّة، بعنوان: "أطلس"، وكتاب "الشّذرات". 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.