}
قراءات

"حارس سطح العالم".. بثينة العيسى في بلاد العجائب

قرأت للكاتبة الكويتية، بثينة العيسى، من زمن، وحاولت بقدر المستطاع متابعة أعمالها التي تميزت بصوت مختلف تماماً عن أصوات كاتبات الخليج، من ناحية جرأتها في اقتحام حالات نفسية، والاشتباك مع مستويات وجودية لا تتردد في إلقاء نفسها في غمار أسئلة فلسفية تضاعف كثافة الحدث الروائي الذي قد يكون عادياً للغاية. لا تكتفي العيسى بسرد ما حدث من على السطح، بل تنقب وتحفر إلى أعمق نقطة بشكل مخيف، حتى يكاد يبدو الأمر أحياناً وكأن المخيلة الروائية قد وصلت إلى حالة "سعار"، وهو عنوان روايتها التي صدرت عام 2005.
يصل السعار إلى حالة كاملة من الجنون في روايتها الأخيرة "حارس سطح العالم" (التكوين وتنمية 2019). والجنون الذي أشير إليه يحمل في طياته الأساس المتين للمخيلة الروائية التي تخلق عالماً كاملاً يقنع القارئ أنه عالم بديل، أو أنه المذكرة التفسيرية للواقع المعيش خارج العمل، كما سأل ساعي البريد - في الفيلم الذي يحمل نفس الاسم - الشاعر بابلو نيرودا "ما إذا كان العالم نفسه هو استعارة". في نهاية "حارس سطح العالم" نرتبك كثيراً تماماً مثل الرقيب الجديد الذي أصبح مفتشاً، ونتساءل عن الواقع والخيال، وما الذي عشناه تحديداً: هل هذا ما

خبرناه، أم ما قرأناه؟
لكن جنون المخيلة لا يتعلق فقط بهذا الارتباك، وعدم القدرة على فهم الحدود الفاصلة بين الواقع (الذي هو تخييل)، وبين الخيال (ما يحدث فعلياً للشخصيات)، بل بالرؤية - أو اللعبة، أو الجنون، أو التجربة، أو الفضول، أو اليأس من العالم، أو العجز عن الإتيان بأي فعل سوى الكتابة -  التي انطلقت منها الكاتبة. فقد أعادت بناء شخصية وينستون – بطل، أو بالأحرى البطل الضد في رواية 1984 لجورج أورويل، وجعلته "الرقيب الجديد" الذي يعمل في مبنى الرقابة على الكتب (بدلاً من وزارة الحقيقة) في مدينة هي نقيض اليوتوبيا. لكنها يوتوبيا من وجهة نظر المستقبل الذي قام على أنقاض يأس وفشل الماضي الروائي، أي الحاضر المعيش. فالماضي الروائي كان يستخدم الإنترنت، ويحلم بالديمقراطية، أي أنه كان يُفعل ملكة التفكير والخيال. كان أهل تلك الحضارة البائدة لهم "ذيول"، وهو مصطلح استعارته الكاتبة من واقعنا اليومي، لتشير إلى غرابة  تلك الحضارة البائدة (أي نحن). انتهي كل ذلك، ويعمل النظام الآن على تتبع أي شخص تظهر عليه أعراض الخيال. والخيال هو الرغبة في خلق عالم مختلف، والاختلاف هنا هو المعصية والخطيئة التي تستدعي العقاب. الخيال يأتي من الحكايات والروايات والأشعار التي تورط القارئ في مساحة مختلفة، وتدفعه إلى التفكير في الشخصيات والتحاور معها، تماماً كما فعل الرقيب مع زوربا. لكن زوربا رواية ممنوعة، فقد ارتكب كل المحرمات، ولا يمكن تأويل أي فعل، أو سلوك، لديه، لأن التأويل ممنوع. لابد من البقاء عند السطح، عند المستوى الظاهر للمعنى، حيث يكون عمل الرقيب هو حراسة سطح اللغة. واللغة هي الفكر، والفكر هو العقل، والعقل هو العاطفة، والعاطفة هي العالم. إنه عالم ما بعد كل شيء: ما بعد الخيال، وما بعد العقل.
يغرق الرقيب في المحرمات، ويحب الحكايات والروايات... إنه فخ الرغبة. وكما تسير أليس

وراء الأرنب الأبيض لتصل إلى بلاد العجائب، يقود الأرنب ذاته المفتش إلى خلايا المعارضة، التي تنتمي إلى النظام البائد، الخلايا السرطانية (يسميها نظام الما بعد إرهابية)، التي تحاول إنقاذ الكتب من الحرق في عيد التطهير (من التأويل والمعنى). لكنه يتورط أكثر، فيحب الحكاية إلى حد أنه يرغب في الدخول في متنها ليشارك في صنعها. في غمرة رغبته المتأججة في الدخول إلى النص، يخون الرقيب الحكاية كلها، ليتحول هو إلى حكاية، فيفقد القدرة على تحديد الخط الفاصل بين الواقع والخيال (مرة أخرى). ما فعله الرقيب في النهاية فعل أبله بسيط: اعترف بكل ما يعرفه، ليقدم رشوة للنظام الذي أخذ ابنته رهينة بذريعة ظهور أعراض الخيال عليها. فعل خيانة تافه من ناحية، لكنه إنساني من ناحية أخرى، إذا أخذنا محاولة إنقاذه لابنته في الاعتبار. ولأن الخيانة هي فعل خاسر بالتعريف، فقد وجد المفتش ابنته وقد ماتت قهراً وكمداً في المصحة. تجيء النهاية لتؤشر ليس فقط على أبوكاليبس المفتش، بل أبوكاليبس القارئ، في عالم ما بعد الخيال والديمقراطية والتفسير والتأويل، عالم سطح اللغة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.