يروي الدكتور محمد منصور، الذي صرف سبعاً وثلاثين سنة في تأليف كتابه الموسوم بعنوان "التوراة الحجازية: تاريخ الجزيرة المكنوز" (بيروت: دار الانتشار العربي، 2020)، أنه سأل الدكتور كمال الصليبي في صيف 2011: إذا كانت التوراة جاءت من جزيرة العرب، فهذا يعني أنها كُتبت باللغة العربية.
وكان هذا السؤال المفتاح الذي ولج به محمد منصور عالم الدراسات التاريخية التوراتية، وتوصل في أثناء ذلك إلى أن فلسطين ليست هي الأرض المقدسة التي كتبها الله لإبراهيم، وأن معظم اليهود اليوم لا ينتمون إلى نسل إبراهيم، وأن نصوص التوراة، وعلى رأسها ألواح موسى، دُوّنت بلغة عربية قديمة هي لغة قبيلة كنانة التي سكنت في تهامة الحجاز (أنظر مقدمة الكتاب بقلم محمود شريح، ص 11).
تذكر التوراة أن إبراهيم وُلد في أور الكلدان، وسار عبر بلدة حرّان نحو فلسطين. ويشرح الدكتور محمد منصور أن أبحاثه الجغرافية واللغوية تؤكد أن ابراهيم وُلد في حاير الخالديين لا في أور الكلدان. ووادي الحاير يقع عند أطراف الرياض، فيما قرية الحاير (حرّان) تقع شمال حوطة سدير، أي أن خط سير إبراهيم كان، لا من أور الكلدان إلى حران الآرامية ثم إلى الأردن ومصر ففلسطين، بل من اليمامة إلى خيران في وادي الدواسر (ص98). وعلى هذا القياس والمقاس توصل محمد منصور إلى أن حيرام ملك صور ليس ملكاً فينيقياً، بل هو حَرَم ملك صور السعدي في عُمان الذي بنى قصراً من الأرز لقبيلة اللبنيين في مكة (لا اللبنانيين)، ونال مكافأة عليه عشرين مدينة في وادي جلال (لا الجليل).
واستنتج، في نهاية المطاف، أن النبي إبراهيم عاش في مكة، وأن لغة التوراة هي لغة عربية قديمة، وأن معظم وقائع التوراة جرت في مكة وحولها مثل تهامة الحجاز، وأن الهيكل الأول بناه الملك سليمان في مكة (أم القرى) لا في القدس. أما الهيكل الثاني، بحسب المؤلف، فقد بناه الهاشميون المكيون في القدس (لا الحشمونيون المكابيون) كما يزعم النص الشائع للتوراة، ومن هذا الحدث بالتحديد يبدأ التاريخ اليهودي. ويختم الكاتب بالقول إن التوراة كتاب تسجيلي لتاريخ جزيرة العرب في الفترة ما بين النبي نوح في بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد حتى زمن معد من قبيلة عدنان في أوائل القرن السادس قبل الميلاد. ومنذ ذلك التاريخ راح بنو إسرائيل ينقرضون بالتدريج، فمنهم من غادر جزيرة العرب، ومنهم من بقي في دياره حتى أسلم مع ظهور الدعوة المحمدية.
الدكتور محمد منصور صرف سبعاً وثلاثين سنة في تأليف كتابه الموسوم بعنوان "التوراة الحجازية: تاريخ الجزيرة المكنوز" |
السؤال الحاسم في هذا الميدان العلمي هو التالي: كيف يمكن تفريق ما هو أسطوري في قصص التوراة عما هو تاريخي في حال كان هناك ما هو تاريخي حقاً، خصوصاً في قصة النبي إبراهيم وسلالته التي احتكرت النبوة طوال 26 قرناً، منذ اسحق ويعقوب ويوسف حتى داود وسليمان وعيسى بن مريم (المسيح) والنبي محمد؟ إن كلمة "ابراهيم" أو "أبرام" تعني "الأب الأعلى"، ولا تشير إلى شخصية محددة البتة، وتشبه صوتياً اسم براهما الفارسي.
وأبعد من ذلك كيف يمكن تفسير أحلام النبي يوسف قبل ظهور النبي موسى بنحو 400 سنة؟ هل نفسرها مجازاً، أي بطريقة رمزية، أم نعتبرها وقائع جرت بالفعل، وهو أمر مخالف للعلم؟ ومهما يكن أمر استنتاجات الكاتب الدكتور محمد منصور، فقد كنتُ أتطلع إلى الكشف عن موقع عصيون جابر المحيّر في جانب أيلة على شاطئ بحر سوف في أرض أدوم في سياق الكلام على بناء "الهيكل" المزعوم في عهد سليمان. إن عصيون جابر، بحسب التوراة، هي التي بنى حيرام فيها سفناً لسليمان وساقها مع العبيد إلى أوفيرا حيث سطوا على ذهبها وحمّلوه في السفن. ولم يعثر الآثاريون، حتى الآن، على عصيون جابر أو أوفيرا، لا عند خليج إيلات، ولا على البحر الأحمر، ولا في جبيل أو صور، كما لم يُعثر على "بيت وعر لبنان". فهل نعثر عليها كلها في مكة؟