}
قراءات

"حياة مثقوبة".. عن انتظار الموت وانفراط الحياة

لا يبدو من السهل تصنيف العمل الجديد للكاتب أحمد ولد إسلم "حياة مثقوبة"، الصادر مؤخراً عن دار الشروق، فأحمد الذي يكتب القصص القصيرة منذ أكثر من عشر سنوات، وصدرت له مجموعة قصصية من قبل يدخل إلى عالم الرواية هذه المرة، ولكن بنَفَسِ القاص الذي لا يريد مشاركة الكثير عن أبطاله، ولا فتح عالم الرواية إلى حدودها القصوى، لذا لو لم تكن كلمة "رواية" موجودة على الغلاف لربما تم تصنيف العمل إلى مذكرات، أو يوميات شخصية، أو قصة طويلة. ولكن أليست الرواية مفتوحة لكل ذلك؟
يبني أحمد إسلم أحداث روايته في مكان مغلق، أو ما يُسمّيه أمبرتو إيكو بالعالم المسجون، عندما وصف روايته "اسم الوردة". تدور الأحداث كلها في مستشفى فاخر لا نعرف عنه إلا تلك الشقة التي يقيم فيها الرواي بصفته مريضاً فيها. وتبدأ الرواية على أنها ملف تم إرساله إلى شخص مجهول يحكي يوميات ذلك المريض الذي كان يودّ لم يتم إرسال الملف إلى حبيبته. ولن نعلم طيلة أحداث الرواية التي لا تبلغ مائة وخمسين صفحة، اسم الراوي، ولا حتى اسم الحبيبة، التي من المفترض أن تتلقى الملف. يُعاني الراوي من مرض نادر يجعله يفقد ذاكرته تدريجياً، ويبدأ جسده في خيانته، ولكننا من الصفحات الأولى ندرك أن الخوف ليس في قاموس هذا المريض، الذي يتمنى الموت وينتظره بكل أريحية. ويدور بنا الراوي في صفحات هذه الرواية ما بين عالم الغرفة – المستشفى، في قاموس ممتلئ بكلمات مثل الموت والذاكرة

والمرض والحب، ولا تكاد تخلو أي من صفحات هذا العمل من أحد هذا الرباعي.
هذا الخوف المفقود من الموت، ومن المرض وتداعياته، لا يظهر إلا عندما يتعلق الأمر بحبيبته، فهي سر كتابته، وسر إصراره على تخليد كلمته لتقرأها بعد وفاته، فهو كان يخاف أن يفقد منها شيئاً. وفي نهاية الرواية، نرى الخوف يرجع مرة أخرى، ربما هو خوف ألا تصل إليها الرسالة، أن يسيطر عليه المرض، وألا يكتب ما كان يود كتابته. لذا يبدو القارئ مرغماً على أن يسير مع الراوي في يومياته من دون أن يعرف أي شيء عن ماضيه، أو عن العالم المحيط به، الذي لا نعرف منه إلا النسوة اللاتي كان يقابلهن في رحلة المرض. هنالك ومضات قليلة عن الماضي المشترك بين الراوي والحبيبة، لكنه ليس كافياً لتكوين صورة كاملة عن هذا الماضي. لا يعيش القارئ إلا الحاضر بيومياته التفصيلية حول المرض ونسوة

المستشفى، تلك التفاصيل الدائرة داخل غرفة واحدة تقريباً. ربما كانت تلك الكتابة طريقة الراوي في الهروب من الماضي الذي ينفلت أصلاً من ذاكرته، ولكنها كانت بالتأكيد تجنباً للمستقبل الذي لم يرد خلقه، ففي النهاية هو لا ينتظر شيئاً منه، ولا يتوقع رداً على ما يكتب. بكل بساطة، لم يعد يأبه له، ولا لردات فعل الآخرين عنه. لقد فقد الخوف، وفقد معه كل تلك المشاعر البشرية المرتبطة به. إننا "حين نفقد الإحساس بالخوف، ولو بنسبة ضئيلة منه، فإننا نفقد جزءاً كبيراً من بشريتنا".
تبدأ الرواية في وصف الراوي لشاعر بجنون الارتياب، وأنه "بلغ درجة يخيل إليه أن الكون يدور حول حبيبته"، وتنتهي باتهام الطبيبة النفسية للراوي بأنه ليس سوى "محدث نعمة فارغ (...)، مجرد ثري زير نساء متكبر ومغرور يتمارض ليحصل على مراده". يُصور لنا أحمد إسلم بشكل متقن تحوّل الراوي إلى شخص عنيد لا يهتم كثيراً بآراء الآخرين، ويلجأ إلى عيش يومه فقط ليروي حكايته لحبيبته، ويرفض فكرة أن الحب قد لا يكون بعيداً، كما يعتقد، بل قد يكون متواجداً معه في نفس المستشفى، ولكن "هل الحب فعل واع"، يتساءل الراوي عندما يبدأ الشك في أنه قد يكون وقع في حب طبيبته النفسية.  رغم ذلك سيصرّ على أن يتجاهل تلك المشاعر، فهو موجود الآن فقط من أجل رسالة واحدة، والبحث عن حب آخر ليس ضمن اهتماماته التي يأتي الموت على رأسها.
إن كان هنالك موضوع آخر يشغل بال الراوي، غير المرض والموت، الذي يأمل أن يكون

بقيمة الحياة التي عاشها، فهو النوستالجيا الواضحة في صفحات الرواية (ولكن أليست النوستالجيا هي نتاج من تفاعلات الذاكرة مع الحنين المُمْرض إلى لقاء الوطن قبل الموت؟). فالقارئ سيلاحظ تلميحا دائماً لهذا الوطن، ولموسيقاه وصحرائه. إن موريتانيا بقيت ساكنة في خيال الراوي، تلك الصحراء القاسية التي عاش فيها الراوي نصف عمره، كما يقول، والتي جعلته متعوداً على القسوة في كل شيء. وهنا نلاحظ إحدى مثالب هذا الاقتضاب في هذه الرسالة، فلن نعرف كيف تحوّل هذا الجلف في نصف عمره الأول إلى إنسان متمدّن عاشق للموسيقى الكلاسيكية، وقادر على تكاليف مستشفى يشبه الفنادق الفخمة، تتبادل على غرفه الممرضات كل ساعة. إنه الأمر نفسه الذي لم يجعلنا ندرك الماضي الكامل للراوي.
في النهاية، قد يكون أحمد إسلم تقصد هذا الاقتضاب، حتى نظل أسيرين للراوي وعالمه، الذي بناه، والوهم الذي أراده حول مستقبل رسالته التي لا يتوقع أن يقرأها غير حبيبته. وربما أيضاً أراد المؤلف أن  يبقى وفياً للفن القصصي الذي يقتضي التكثيف والبعد عن السرد الوصفي والأحداث الطويلة والعقد المتداخلة والحبكات الروائية الطويلة، ولكنها تبقى رواية قد رفعت سقف التحدي عالياً للمؤلف الذي أثبت قدرته على الدخول في هذا المجال، من دون أن يتخلى تماماً عن روح القاص. إن العمل قد لا يكون قصة قصيرة، ولا رواية طويلة، ولكنه بالتأكيد يمتلك تكثيف وتركيز القاص، وطرح سؤال الأنا، والغوص فيه، مما يتميز به الروائي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.