}
قراءات

جديد شربل داغر.. "كتابة التصادي"

إلياس فركوح

4 مايو 2020
كتاب شربل داغر الأخير "محمود درويش يتذكّر في أوراقي: أكتب لأنني سأعيش" (صدر عن مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، دبي، الإمارات العربية المتحدة، 2019) يتمرّد على أيّ تصنيف مألوف، تمامًا مثل صاحبه الموزع في انشغالاته، والمتعدد في طبيعة إصداراته، والمتعمّق العارف الباحث في كلّ ما كتب، بحيث يحار الواحد في جعله "داخل" صِفة/ علامة تشير إليه وتؤشِّر في أي اتجاه تتحرك بوصلة منجزه القادم. وإني، عندما بدأتُ واصفًا الكتاب بـ "الأخير"، قصدت حديث الصدور؛ إذ في الفترة الزمنية الواحدة أصدرَ كتابًا آخر في الفنّ التشكيلي.

في هذا الكتاب نعاينُ محمود درويش "مقروءًا" بعين شربل داغر الشاعر، الدارس والمُدرِّس للشعر في الوقت نفسه، وصاحب اشتقاق "القصيدة بالنثر" بدلًا من "قصيدة النثر" منفتحًا على شرح مسبباته! يقرأ داغر تحولات قصيدة درويش بالترافق والتزامن، وربما بالتقاطع، مع ارتحالات الأخير في الأمكنة، منذ أوّلها (الخروج من فلسطين)، فموسكو، فالقاهرة، فبيروت، فباريس، فتونس، فرام الله، فعمّان، إلخ. غير أن "الرحلة" الأهمّ، إذا حاولنا قراءة خاصّة لِما تضمنه الكتاب من حوارات مع درويش أجراها شربل داغر؛ فإنها تلك التي عاد منها سالمًا من الموت! (غيبوبته خلال عملية القلب المفتوح عام 1998). إنّ رحلة الموت هذه أعادته إلى عادة إعادة النظر والتعمّق والتأمل في معنى وجوده على قيد الحياة ككائن يمتلك ما يقوله ويفصح عنه، في "ماهيته" كشاعر، وأيّ شاعر هو يملك "مشروعًا" يستحق هذا التوصيف حقًا. لا أحد تعرضَ للموت، وقابله وجهًا لوجه كما حدث مع درويش فعلًا، إلّا وكانت "الحياة والوجود" سؤالًا قيد الفحص والمراجعة من أجل القبض على "المعنى"، معنى ما كان قبلًا، ومعنى ما سيكون من بعد. فكما كانت "المحطّة" التي "رأى" فيها الشاعرُ نفسه يسبح في بياضٍ فضائي ليس مثل أي بياض، وضياء باهر غير أرضيّ، وعاش للحظات حالةً لا تخضع لأي وصف قبل أن "تُفيقَه" صدمة الأطباء الكهربائية فيعود قلبه للنبض من جديد، هي محطّة نجاة؛ فأنَّها شكّلَت "محطّة" أخرى قِوامها الشِّعر هذه المرّة، حيث باتَ أمرُ "التحوّل" في تدَبُّر القصيدة القادمة لا مندوحة منه.
ما أزعمه لا يعدو أن يكون مجرد قراءتي الخاصّة واجتهادي الشخصي، ولا أُرجعه، تمامًا وحرفيًا، إلى درويش أو داغر. فأنا، عند قراءتي للكتب بالكتابة عنها، أراني غير مستعرضٍ لها ولمحتواها، وإنما أُفَعِّلُ تفاعلي مع نقاط "متوهجة" فيها، وأكتبُ نصّي من باب الامتنان لها ولأصحابها. أو لعلّها "كتابة التصادي" على وَقْع المقروء المتصف بالتحفيز والاستفزاز الإيجابي!
قارئ القسم الأخير من الكتاب المعنوَن بـ "عندما ينهض من بين الكلمات"، المتضمن الحوارات الأربعة التي أجراها داغر مع درويش في باريس، الموزعة على السنوات 1979: "اشتقت إلى نفسي"، و1982: "أصبحتُ قادرًا على القتل"، و1986: "أكتبُ لأنني سأموت" و"كتابي المؤجَّل" – سيقع على طبيعة "البُعْد التفكّري والتأملي" لدى شاعرٍ امتلكَ "رؤيـة" لنفسه، وللعالم، ولفلسطين، وقضيتها وشعبها وعدوها/ أعدائها، قارَبَت كثيرًا، وبمعنىً ما، رؤية مفكِّر بصدد "التنظير" لأمرٍ لا علاقة له بالشِّعر، غير أنه طلع من وعي شاعر جبلته الحياة وأجبرته على متوالية التفكير وإعادته ثم مراجعته، بينما قبضة الوحش الصهيوني تحاصر المدينة/ بيروت وتقذفها بالنيران بحرًا وأرضًا وسماءً! كما لو أنّه يستخلص حكمة وأحكامًا ووصايا بعد رحلة عمره المركبة: رحلته في العالم خارجه، ورحلة تحديقه في عالم داخله. نراه "ينأى" عن فلسطين كما يشاء له آخرون أن تكون علاقته بها، ليكون في داخل داخلها الأكثر عُمقًا كما شاء هو. فكما هي فلسطين لجميع الفلسطينيين، إلّا أنّ لكلّ فلسطينيّ (وعربي حُرّ) فلسطينه أيضًا.
اهتداءً بما سبق، كان من البديهي أن يشكّل درويش "حالةً" خاصّة، شخصًا وقصيدة؛ إذ تميّز بانفراده في "فهم" التحولات التي أجراها على قصيدته (بكامل الوعي ورهافة الحساسية)، وكان قادرًا على "شرح" ذلك بأبسط العبارات وأضبطها وأعمقها. ولقد تبدّى هذا عبر قراءتنا لكلٍّ من كتبه الشعريّة الأخيرة، ونصوصه، ومقالاته، كما في الحوارات الأربعة في كتاب شربل داغر. ففيها ارتسمَ درويش، في عين قارئه، مثقفًا رائيًا ملتقطًا ما يغني قصيدته ويشرعها على فضاءات رحبة بوسع العالم. وهو بذلك إنما يضعُ فلسطين في "مكانها ومكانتها" على نحوٍ يليق بنبُل قضيتها، في الوقت الذي يكون فيه قد أرسى صوتها/ صوته مترددًا داخل "ضمير" هذا العالم.

"الصاحب الثالث"
كنتُ أشرتُ إلى أنّ الموتَ مثَّلَ "نقلةً" في داخل درويش، إذ حين خرجَ منه كان أن دخل في علاقة يومية معه: هاجسًا به، مرتقبًا له، محاورًا ومستجوبًا ومتجاوبًا عبر لغة اتسمت بشفافية أقرب إلى التصوُّف. ففي كتابه/ النصّ "في حضرة الغياب" يحتلّ الموت الصفحات الأولى وما يتلوها، مقتبسًا مأثورَ مالك بن الريب: "يقولون: لا تبعد، وهم يدفنونني، وأين مكان البُعد إلّا مكانيا؟" كما في عديد الصفحات التي يتطرقُ فيها عن خشيته من أن يموتَ وحيدًا، ولا ينتبه لغيابه أحد، ولهذا درج على عادة نزع مفتاح البيت من القِفْل بعد إغلاقه، ليتسنّى لمدبرة المنزل فتحه عند قدومها منتصف النهار! أو، كما تحدّث بعض من أصدقائه، عن أنه ترك لهم نسخًا من المفتاح ليلجوا البيت في حال غيابه لأكثر من يوم، من دون أن يجيب على مكالماتهم! وأظنني لا أفشي سِرًا إذا ما نقلتُ ما رواه لي الصديق فيصل درّاج، عن أنّ درويش دعاه ذات يوم للغداء، ولمّا سأله إنْ كانت الدعوة له وحده، أجابه درويش بأنْ لا؛ فثمّة ثالث سيكون معهما. وعندما أبدى درّاج ترددًا بسبب هذا الثالث، طمأنه بأنه صاحبٌ لن يراه! وأنه وحده مَن يراه جالسًا إلى جواره! ثم، بعد الاستغراب جرّاء هذا الغموض، أفصح عن "هويته": إنه الموت!
أجدني في كلّ ما كتبته، لم أكتب عن الكتاب وكاتبه/ مُعِدّه شربل داغر، بقدر ما ذهبتُ إلى تأمل بعض مما تضمنه من "إشارات"، رأيتها كذلك وتفاعلتُ معها على هذا النحو. ولا أعرف لماذا استوقفتني مسألة الموت دون سواها، رغم أنّ كثيرة هي الآراء ووجهات النظر التي كانت على "مخطط" ما نويتُ التطرق إليها.



الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.