أمين زاوي عضو لجنة تحكيم جائزة البوكر التي مقرها أبو ظبي التي منحت للجزائري عبد الوهاب عيساوي عن روايته الديوان الإسبرطي ؛ الرواية تصور الوجود العثماني في الجزائر كاحتلال لا فرق بينه و بين الإحتلال الفرنسي ظاهريا . https://t.co/0Mu0PSkHQK — ريم أندلسي (@RimAndalossi) April 28, 2020 " style="color:#fff;" class="twitter-post-link" target="_blank">Twitter Post
">
|
الاحتفاء بالهامش وعوالمه
يعمل عبد الوهاب عيساوي في روايته الجديدة على الاحتفاء بالهامش وعوالمه، ففي الرواية تسقُط مقولة المؤرخ المغربي عبد الله العروي في كون التاريخ لا تكتبه إلاّ النخبة، لأننا نجد أنفسنا داخل عالم فسيفسائي يتقاطع فيه الرسمي بالهامشي، لكنهما يلتقيان حول موضوع واحد، وهو صورة الجزائر وملابساتها لحظة الاحتلال الفرنسي بمدينة المحروسة، والوقوف عند تكتلات المقاومة وأشكالها والأسباب التي تُساهم في تشكلها وردعها للمستعمر بمدينة المحروسة، كل ذلك من خلال خمس شخصيات، هي من يسبر أغوار تاريخ الجزائر وحيثياته والقوى والطبقات، التي كانت وراء هذا الاحتلال من خلال رسائل سياسية متبطنة في متن الرواية، تتشابك مع قضايا الهوية الجزائرية وراهنها سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، فهي تنظر إلى التاريخ ليس من وجهة الإقامة فيه، بقدرما تستكنه خباياه وعوالمه لفهم طبيعة المرحلة والتغيّرات، التي طرأت على الوعي الجزائري وعلى الأمكنة والناس والجدران، صُور يستعيدها عبد الوهاب عيساوي، ليبدّد بعضها ويعمل على تأجيج بعضها الآخر.
Facebook Post |
يقول عبد الوهاب عيساوي على لسان إحدى شخصياته "حمّة يا حمّة، شئت أم أبيت، المحروسة التي كنت تدافع عنها بالأمس لم تصبح محروسة اليوم، تناهت إلى أصواتهم من المقابر أسفل القصبة، ركضت فارًا منها لكنها اقتفت أثري، حتى وأنا أعبر باب المدينة الغربي، وأتجاوز الشارع الممتدّ إلى الميناء، غابت أصوات الموتى لكن الحقيقة لم تغب، تقرؤها عند كل منعطف للمحروسة، شارع شارل الخامس، شارع دوكين، شارع دوربا، شارع كليبر، باب فرنسا، لم تعد الأسماء نفسها، وبعض الحواري اختفت أشكالها القديمة، ونبتت أخرى وبأسماءٍ مختلفة".
وبالرغم من طغيان الأعلام التاريخية على الرواية وحوارات تدور في رحاب ودواليب السُلطة، يظل الهامش حاضرًا في الرواية، وهذا الأخير هو ما تنطبع به رؤية العالم ويُشكل فضاء النصّ سياسيًا وثقافيًا ويرصد معه صُورة المجتمع الجزائري، قبيل الاحتلال وبعده، من خلال الغوص في سيرة مدينة المحروسة وآلامها، لذلك فالرواية تحتفي بالجزائر/الهامش، قبل الجزائر/المركز، وهذه النظرة المُغايرة والثاقبة في الاحتفاء، مقارنة مع بعض النماذج الروائية العربية، تنبع في الأساس من رؤية مختلفة للتاريخ، لا ترتكن ولا تقيّد نفسها داخل التاريخ الحدثي، وإنما تستكنه مُتخيّل الجزائري المكبوت سياسيًا في علاقته بالاحتلال والذات والهوية والتاريخ والمكان والمستقبل، وكل هذه الموضوعات تُطرح وفق خمسة أصوات سردية، تمتد إلى آخر الرواية، وتعمل بطريقة جريئة على مُحاورة ذاتها وموقع الهوية الجزائرية داخل الكيان العربي وتخليصها من كل شوائب الاستعمار، التي ظلت عالقة بجسدها. من هذا المُنطلق فإن "الديوان الإسبرطي" تعيد الحياة للمهمشين والمنكوبين وجميع هؤلاء الذين همشهم التاريخ الرسمي، الذي كتبه مؤرخو البلاطات السلطانية، وهنا تكمُن إحدى أهم خصائص الرواية، وهي قدرتها على إعادة الاعتبار للهوامش وجعلها تتنزل منزلة رفيعة داخل مسار التاريخ ومكره وسُلطته، متساوية بذلك مع المركز، لأن التاريخ لا يقبل التفصيل ولا يؤمن بالانشطار، فهو في جريانه يُشبه النهر المُتعدّد الروافد والمنابع التي تصب فيه دفعة واحدة.
خاصية الحكي
وبما أن مُعظم الروايات ذات الاشتغال التاريخي يغلُب عليها النفس الحكائي، أولًا، بحكم طبيعة الأرشيف ومادته السردية من جهة، وثانيًا لأن التاريخ في جوهره حكاية، فقد استند عبد الوهاب عيساوي في طوبوغرافية تشكيل روايته على خاصية الحكي وبشكل كبير في مُعظم الفصول الخمسة، تتخللها أحيانًا مقاطع وفقرات وصفية ونوسطالجية حول الأمكنة الصغيرة من شوارع وأزقة في مدينة المحروسة، لكنه لا يلبث أن يتجاوز ذلك، بشكل أعمق، صوب أسئلة التاريخ والذاكرة والهوية ومشاغلها ومدى حضورها في حياة المُواطن الجزائري وفق قالب فنيّ، يحتكم إلى الرواية العَالمة أو الجديدة، التي هي مختبر لصناعة الفكر، وهذا النوع من الأشكال الروائية يُشكل اليوم موضة للرواية العربية، التي هي امتداد للرواية الفرنسية والأميركية، لكن مع ذلك فالروايات العربية الجديدة لم تستطع أن تلمس بعمق جماليّات الرواية التاريخية، بسبب تغييب الفكر والأسئلة الحقيقية المرتبطة بالتاريخ والسياسة والاجتماع، باستثناء نماذج شحيحة مُرتبكة في تخييلها للشأن السياسي العربي، لأنها لم تفهم من الرواية الجديدة إلا ضخامتها وقالبها.
ومن الأعمال الروائية العربية، التي نجحت بشكل كبير في تملك عناصر الرواية الجديدة نصًّا وشكلًا ولغة وفكرًا، أعمال الجزائري واسيني الأعرج والمغربي بنسالم حميش والسوري فواز حداد. إن مفهوم الكتابة الروائية عند عبد الوهاب عيساوي يتجاوز أسئلة التجربة والتجريب وعوالم الذات، لتصطدم بعوالم مرتبطة بالتاريخ والسياسة ودواليب السُلطة من شأنها أن تسُد الفراغ المهول، الذي يكتنف الكتابة التاريخية الجزائرية المعاصرة، بالرغم من أن سؤال العلاقة بين التاريخ والرواية، يظل مطروحًا ومغيّبًا داخل النقد، بسبب ضراوة هذه الثنائية، وما إذا كانت الرواية بالفعل قادرة على التأريخ لتاريخ العرب المعاصر أمام غياب الوثائق الرسمية، خاصة فيما يرتبط بالمراحل الحساسة، التي مر بها نظام الحكم في الجزائر، والتي تجعل من الوثائق في يد الدولة، مما يجد الروائي نفسه مطالبًا في الحفر في هذه المراحل التاريخية الجريحة، كما هو الشأن في "الديوان الإسبرطي" وغيرها من الروايات العربية الأخرى، التي حاولت أن تقيم نوعًا من الطباق بين الأحداث التاريخية "الحقيقية" وبين متخيّل الحدث الروائي، لكنها ظلت معلقة بسبب أن الكتابة التاريخية من ناحية الشكل تختلف اختلافًا شديدًا عن اللغة الروائية التي يكون هاجسها الأول والأخير هو الخيال.
*ناقد مغربي