}
قراءات

الصهيونيّة بمنظور كولونياليّ.. عودة إلى الأصل

أنطوان شلحت

29 يونيو 2020
يمكن القول إنّ سَنّ الكنيست الإسرائيليّ، في 19/7/2018، لِما يُسمّى "قانون القوميّة الإسرائيليّ"، تَسَبّب -في ما تَسبَّب- في استئناف الجدل داخل المجتمع الإسرائيليّ بشأن الصهيونيّة وعقيدتها الأصليّة. ويعرِّف هذا القانونُ الأساس (دستوريّ)- (1) إسرائيلَ بأنّها "الدولة القوميّة للشعب اليهوديّ"، ويمنح اللغة العبريّة أفضليّة على اللغة العربيّة، والاستيطان اليهوديّ أولويّة، كما يمنح اليهود فقط حصريّة تقرير المصير في فلسطين، ويَعتبر القدس الموحّدة عاصمة أبديّة لإسرائيل.
وبرزت في خضمّ هذا الجدل أصوات كثيرة أبدت معارضتها للقانون من منطلق أنّه يتضادّ برأيها مع "أسس العقيدة الصهيونيّة"، بل زعم بعضها أنّ القانون يحوّلها إلى عقيدة عنصريّة - وهو ما يوحي بوجود قناعة راسخة أنّها ليست كذلك.
وربّما تستدعي هذه الطعون إعادة الالتفات إلى جوهر الحركة الصهيونيّة وعقيدتها الأصليّة.
وبطبيعة الحال، هذه مسألة تراكمت بشأنها إلى الآن دراسات كثيرة يجمعها قاسم مشترك هو تأكيد كون تلك العقيدة عنصريّة بامتياز، بما في ذلك دراسات أنجزها باحثون يهود وإسرائيليّون. ولا بُدّ من القول إنّ هذا التراكم جاء أيضًا على خلفيّة دراسات سابقة بهذا الصدد كان لها قصب السبق، وتحديدًا على مستوى الدراسات التي وضعها باحثون يهود وإسرائيليّون، لعلّ أبرزها ما وضعه غرشون شفير، وهو عالِم اجتماع يهوديّ إسرائيليّ وأستاذ في جامعة كاليفورنيا في سان دييـﭼو. ومنها مقالة بعنوان "أرض وعمل وسكّان في الاستعمار الصهيونيّ: جوانب عامّة وخاصّة" ظهرت في كتاب "المجتمع الإسرائيليّ: وجهات نظر انتقاديّة" (صدر بالعبريّة عن منشورات "بْرِيروت"، 1993)، من إعداد وتحرير أوري رام. وهي معتمِدة، بالأساس، على كتاب للمؤلّف صدر بالإنـكليزيّة بعنوان Land, labour and origins on the Israel-Palestinian conflict 1882-1914.
وقد ظهرت الطبعة الأولى من كتاب شفير هذا عام 1989 عن منشورات جامعة كمبريدج. ثمّ صدر في طبعة ثانية باللغة نفسها عام 1996.

غلاف كتاب شفير 

















وكما هو شأن كتاب شفير، ثمّة كتب عديدة لمؤرّخين وعلماء اجتماع وباحثين إسرائيليّين ما تزال، حتّى الآن، تمارس حقّها في البحث والسجاليّة بلغات أجنبيّة فقط. ولعلّ دافعي الرئيسيّ للإشارة إلى هذا الأمر، الذي قد يبدو للبعض عديم الأهمّيّة، هو كونه يمثّل أحد جوانب المجابهة المباشرة، من طرف المؤسّسة الإسرائيليّة، مع الاجتهادات العلميّة غير المفطورة على الإجماع الصهيونيّ بشأن السرديّة التاريخيّة للقضيّة الفلسطينيّة؛ وهو جانب عدم الالتفات إلى وجود هذه الاجتهادات، جريًا على طريقة "القتل بالإهمال".
 أهمّ خلاصة يتوصّل إليها شفير في هذه المقالة، وفي كتابه عمومًا، تتمثّل في أنّ الحركة الصهيونيّة، ومنذ البدايات الأولى لمشروع الاستيطان اليهوديّ في فلسطين، احتقنت بطابع استعماريّ - كولونياليّ إزاء الفلسطينيّين سكّان البلد الأصلانيّين. ومن الإثباتات المبْكِرة على هذا الاحتقان يستشهد المؤلّف، في ما يستشهد، بوقائع المواجهة التي حدثت بين آباء الهجرة اليهوديّة الأولى وآباء الهجرة اليهوديّة الثانية (وهما الهجرتان اللتان ترتّب عليهما مشروع الحركة الصهيونيّة لسرقة فلسطين) حيال ما ينبغي أن تكون عليه المقاربات الصهيونيّة إزاء شعب فلسطين. وهو يتوصّل إلى نتيجة مؤدّاها أنّ تلك الوقائع لم تكن، في جوهر الأمر، أكثر من مجرّد اختلاف بين بدائل مختلفة للاستعمار الكولونياليّ في سبيل اعتماد "البديل الأفضل" لإنجاز استعمار فلسطين، كولونياليًّا، من طرف الحركة الصهيونيّة وتيّارها الرئيسيّ المتمثّل في "حركة العمل". واكتسبت هذه الخلاصة أهمّيّتها في حينه، كما تكتسب أهمّيّتها الآن، من مُناخ سياسيّ عامّ يجتهد في سبيل إرجاع جذور القضيّة الفلسطينيّة إلى حرب حزيران/ يونيو عام 1967 فحسب، في محاولة للهروب إلى الأمام ممّا سبق ذلك العام من أحداث تعود في أصولها إلى سنوات تأسيس الحركة الصهيونيّة، وإلى الطابع الكولونياليّ لهذه الحركة.
هنا تجدر الإشارة كذلك إلى أنّ كتاب شفير صدر بموازاة صدور كتب أخرى لمؤرّخين إسرائيليّين أمثال بيني موريس وآڤي شلايم وإيلان بابيه. وقد اعتُبرت تلك الكتب الأربعة في عداد أوّل قطاف لموجةِ ما اصطُلِح على تسميته "التأريخ الإسرائيليّ الجديد".

 متظاهر يرفع علم فلسطين أمام القوات الإسرائيلية (رويترز) 



















ورأى البعض أن يَعزوا هذا "التأريخ الجديد" إلى عاملَيْن رئيسيَّيْن:

(*) الأوّل: نشوء رعيل جديد من المؤرّخين الإسرائيليّين لديه قَدْرٌ ما من الجاهزيّة للتسليم بجزء من الانتقادات الأخلاقيّة والسياسيّة التي وُجّهت إلى إسرائيل عقب عام 1967 (إثر احتلالها وممارسات عسكرها في الأراضي الفلسطينيّة)، ممّا أدّى بهذا الرعيل إلى إعادة فحص الفترة التي سبقت عام 1967.

(*) الثاني: إماطة اللثام عن وثائق من فترة عام 1948 كانت حتّى ذلك التاريخ -أي النصف الثاني من ثمانينيّات القرن العشرين الفائت- طيّ السرّيّة التامّة.

لكن ما ينبغي قوله هو أنّ شفير يفترق عن هؤلاء بعودته إلى فحص جذور الصراع الصهيونيّ - الفلسطينيّ، وهي عودة كانت حتّى موعد تأليفه لكتابه هذا لا تزال مقتصرة عليه وعلى قلائل من الباحثين أمثاله، وفي مقدَّمهم الباحث النفسانيّ بنيامين بِيتْ_هَلَحْمِي الذي سبق شفير في هذا المضمار. يُضاف إلى ذلك أنّ المراجع الأرشيفيّة، التي يستعين بها شفير في هذه المقالة، شأنها شأن المراجع الأرشيفيّة في كتابه الكامل، لم تكن من بين تلك التي أميط عنها اللثام في الفترة المذكورة؛ وإنّما كانت، قبل ذلك، مفتوحة أمام مرمى أبصار المؤرّخين والباحثين. وعلى الرغم من كونها كذلك، فإنّ شفير يعترف بأنّها تطلّبت منه "قراءة جديدة للموادّ القديمة"، في سيرورة يُراد لها أن تعيد إلى هذه المراجع ما سبق أن غاب -أو جرى تغييبه عمدًا- عن أعين القرّاء السابقين.


كلّ ذلك حدث قبل أن ينكفئ الكثير من رموز تيّار "التأريخ الجديد" على أنفسهم تحت تأثير عوامل عدّة، من أبرزها -إن لم يكن الأبرز- عاملُ الانتفاضة الفلسطينيّة في أيلول/ سبتمبر عام 2000. وهذا موضوع مكانه ليس هنا.
كذلك يجدر القول إنّه حتّى ظهور مقاربة شفير المعبَّر عنها في مقالته المترجَمة هنا، كان المنظور الكولونياليّ منبوذًا على نحوٍ يكاد يكون مطْلقًا في التيّار الأكاديميّ الإسرائيليّ العامّ. أمّا على وجه العموم، فإنّ الفكرة التي تتعامل مع إسرائيل باعتبارها مجتمعًا كولونياليًّا لم تجد أصداءً لها داخل المجتمع اليهوديّ، إلّا في أوساط جماعات هامشيّة من المثقّفين فقط، أبرزها جماعة "ماتسـﭘـين" ("بوصلة") المنشقّة عن الحزب الشيوعي الإسرائيليّ، والتي تشكّلت عام 1962 من طرف شبّان راديكاليّين تركوا صفوف هذا الحزب والتحقوا في وقت لاحق بالأمميّة الرابعة التروتسكيّة. وتؤكّد دراسات عديدة أنّ برنامج "ماتسـﭘـين" كان بمثابة أوّل تعبير عن النظر إلى المجتمع اليهوديّ في إسرائيل من منظور كولونياليّ صريح.

ويتكرّر حُكم القيمة السالف بالنسبة إلى مقالة شفير هذه في الكثير من المناسبات، وتحتاج الإحاطة بها إلى ما هو أبعد من غاية هذا التقديم. وبناء على ذلك، سأتوقّف عند مناسبتين يفصل بينهما نحوُ عَقدين من الأعوام.
الأولى، دراسة أوري رام التي تحمل العنوان "الموقف من الكولونياليّة في علم الاجتماع الإسرائيليّ"، والتي نُشرت عام 1999، ويشير فيها إلى أنّ توصيف الصهيونيّة كحركة كولونياليّة، حتّى الفترة التي ظهرت فيها مقاربةُ شفير، اعتُبِر بمثابة "نوع من التشويه" لهذه الحركة، حيث إنّ النظر إلى إسرائيل كمجتمع كولونياليّ ينطوي على اعتراف ضمنيّ بأنّ اليهود احتلّوا وسلبوا أرضًا مأهولة، واستغلّوا أو طردوا السكّان الأصلانيّين، وفي هذا ما يتنافى مع صميم الصورة الذاتيّة التي رسمها الصهيونيّون عن الصهيونيّة باعتبارها حركة "شعب بلا أرض يعود إلى أرض بلا شعب". وهو اعتُبِر منفّرًا في نظر "اليسار الصهيونيّ" في إسرائيل، الذي جرى العرف لديه على الكلام بشأن التحرّر الذاتيّ وتخليص أرض (فلسطين) كانت قفراء بواسطة الكدح، كما أنّه اعتُبر منفّرًا بالقدر نفسه في نظر اليمين الإسرائيليّ الذي يقول إنّ "أرض إسرائيل الكاملة" مُلك للشعب اليهوديّ، وهي ملْكيّة لا تقبل الدحض بحكم "الحقوق التاريخيّة" والوعد الإلهيّ.(2)


الثانية، المناسبة التي تتعلّق بإشارة أستاذ الفلسفة اليهوديّة والتلمود في جامعة تل أبيب، يشاي روزين تسڤي، في سياق مقال نشره في صحيفة "هآرتس" في 11/10/2018، إلى أنّ المقولة أنّ الصهيونيّة حركة كولونياليّة لا تزال حتّى أيّامنا الراهنة بمثابة تابو في الخطاب الإسرائيليّ العامّ.(3) وهي كذلك برأيه لكون السِّمَة الكولونياليّة ما انفكّت ملازمة للعقيدة الصهيونيّة ولم تتحوّل إلى شيءٍ ما من الماضي، وهو يؤكّد أنّه في دولة تقوم بسَنّ "قانون القوميّة" السالف، وفيها أكثر من نصف مليون مستوطن في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة منذ عام 1967، وتتواتر من جانبها مشاريع ترمي إلى تهويد النقب والجليل، لا يمكن الكلام حول الكولونياليّة الاستيطانيّة كما لو أنّها أمر ينتمي إلى الماضي.
وفي ضوء ذلك، من المتوقّع أن تظلّ تلك المقولة عرضة للحَجْب والإنكار تحت طبقات سميكة من علم الاجتماع والتأريخ الرسميّ الإسرائيليّ.

*نصّ تقديم دراسة لعالم الاجتماع اليهوديّ الإسرائيلي والأستاذ في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، غرشون شفير، بعنوان "أوجه الشبه بين الكولونياليّة الصهيونيّة والكولونياليّة الأوروبـيّة"، أصدرها مؤخرًا مركز "مدى الكرمل" – حيفا، بترجمة عربية، ضمن سلسلة "دراسات عن إسرائيل".

حاييم وايزمان واللجنة الصهيونية عام 1918

 
هوامش:

(1)         ليس ثمّة دستور معتمَد في إسرائيل لأسباب كثيرة، ولذا بادر الكنيست الإسرائيليّ منذ خمسينيّات القرن الفائت إلى سَنّ قوانين أساس أصبحت بمرور الزمن ما يشبه الدستور.

(2)         Ram, Uri. (1999). The colonization perspective in Israeli sociology (Pp 49-72). In Ilan Pappé (Ed.). The Israel/Palestine question. London: Routledge.

(3)         تسڤي، روزين يشاي. (2018، 11 تشرين الأوّل/ أكتوبر). الإنكار الكبير للكولونياليّة الصهيونيّة. هآرتس.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.