}
عروض

مختارات شِعريّة لترانسترومر.. نافذةٌ تطلُّ على العالم

توثّق قصيدة الشاعر السويدي الراحل توماس ترانسترومر لتلك المشاهد الحميمة التي تخصّ علاقة الشاعر بالطبيعة وما لها من أثرٍ جليّ في حياته وعوالم شِعره؛ قصيدةٌ غاية في الرقّة والهدوء والشفافيّة، إذْ ثمّة مفرداتٌ جمّة تخصّ هذا الجانب الجماليّ، نجدها بين جنبات قصيدته: "شمس"، "فراشات"، "الأحجار"، "الندى"، "محراث"، "طائر"، "السهل"، "قمر"، "نجوم"، "خفافيش"، "حقل قمح"، "غيوم"، "سنبلة"، "الأشجار"، "الغابة"، وغيرها الكثير.
يتضمّن كتاب "السماء نصف المكتملة"، الصادر مؤخرًا عن دار موزاييك للدراسات والنشر في إسطنبول 2020، والذي جاء في مئة وثلاثين صفحةً من القطع المتوسط، مختارات شِعريّة للشاعر توماس ترانسترومر، نقلها إلى العربيّة وقدّم لها الشاعر والمُترجم كاميران حرسان، منتقاة من عدّة مجموعات شِعريّة لتوماس، هي: "أسرار على الطريق (1985)"، "السماء نصف المكتملة (1962)"، "آثار وأنغام (1966)"، "دروب (1973)"، "حاجز الحقيقة (1978)"، "الساحة الوحشية (1983)"، "للأحياء والموتى (1989)".
ترانسترومر، المولود في ستوكهولم يوم الخامس عشر من نيسان/ سنة 1931، يُعدّ من أهم الشعراء السويديين، وكان قد حصل على جائزة نوبل للآداب سنة 2011، وترجمت أعماله لأكثر من خمسين لغةً من اللغات العالميّة الحيّة.
حاز توماس ترانسترومر العديد من الجوائز السويديّة والعالميّة؛ من أبرزها جائزة نويشتادت الدوليّة للأدب من الولايات المتحدة الأميركية، وجائزة الأكاديميّة السويديّة لدول الشمال (نوبل الصغرى)، وجائزة التاج الذهبي من مقدونيا، وجائزة نونينو الإيطاليّة، وجائزة نجم الدب الأكبر الصينيّة؛ ليتوّج بجائزة نوبل للآداب سنة 2011، بعد أن ظلّ لسنوات المرشح الدائم للحصول عليها، ولعلّ تأخر ذلك يعود إلى أسبابٍ عدّة، أهمّها جنسيته، إذْ تحفظت الأكاديميّة السويديّة على منح الجائزة لمواطنيها منذ سنة 1974.
يتميّز أسلوب ترانسترومر الشِعري بالسلاسة والحنكة في الآنِ معًا، حيثُ نجده يكتبُ- وبمنتهى البساطة- تلك التفاصيل الصغيرة في العالم المحيط به وكأن هذا الشعر مقدَّم لنا من دون جهد أو استعراض، كما نلحظ العديد من قصائد تقارب النموذج العالمي لشِعر الهايكو الياباني فيها من حيث الخفّة والاختزال والتكثيف اللفظي، وهو ما يؤكّد حبّ الشاعر للتجريب، يقول: "كلّ امرئٍ بابٌ نصفُ مفتوحٍ/ يفضي إلى غرفةٍ للجميع./ تحتنا الأرض اللامتناهية./ يضيءُ الماء بين الأشجار./ البحيرةُ نافذةٌ تُطلّ على العالم".
ويميل أسلوبه أيضًا إلى السرديات التي تتدفق ضمن موجات تشاركية متتالية، بحيث تساهم هذه الطريقة بجعل القارئ يندمج معه حين يحاول أن يمس مختلف الأشياء والكلمات ويجتذبها إلى بؤرته، فتكثر عنده المفردات المحسوسة والملموسة وخصوصا التي تنتمي إلى حقل الطبيعة؛ فهو يجعلها تتحدث بطريق مختلفة فيصعّد العلاقة بينه وبينها إلى رؤيا وخلق، يقول مثلا في قصيدة أسرار على الطريق من المجموعة التي تحمل الاسم ذاته: "أصابت العتمةُ وجهَ أحدِهم/ كانَ يسيرُ وسطَ الآخرين/ تحتَ أشعةِ شمسٍ قويةٍ متعجّلةـ اكفهرّتْ بغتةً/ لمطرٍ مدرارٍ همى،/ وقفتْ في غرفةٍ اتسعتْ لكل اللحظات/ متحف فراشاتٍ./ والشمسُ كسابق عهدها قويةٌ/ ريشتها المتلهفةُ تصبغُ العالم".

أصدر ترانسترومر أولى مجاميعه الشِعريّة سنة 1954، وحملتْ عنوان "سبع عشرة قصيدة"، في عمر 23 عامًا، وكان وقتذاك طالبًا في جامعة ستوكهولم يدرس علم النفس، ليوظِّف فيما بعد أساسيّات علم النفس في جلّ قصائده، خصوصًا بعد عمله "نفسانيًّا في قطاعٍ يضجّ بالمعاناة"، لتخيّم تلك الرؤى والأخيلة والأفكار الغريبة على أجواء مجاميعه اللاحقة، والتي بلغت أربع عشرة مجموعة شعريّة، بالإضافة إلى كتاب نثري بعنوان "ذكرياتٌ تراني" (1993).
رحل ترانسترومر في السابع والعشرين من شهر مارس/آذار 2015 بعد سنوات من إصابته بشللٍ نصفيّ إثر جلطةٍ دماغيّةٍ أفقدته القدرة على النطق والمسير، وفي قصيدة بعنوان (مدينتان) يصفُ توماس الرحلة المُنتظرة من ضفّة الحياة إلى ضفّة الموت، بأسلوبه السلس وعباراته الرقيقة المعهودة، حيثُ يقولُ: "كلٌّ منهما على جهةٍ من المضيقِ، مدينتان/ الأولى معتمةٌ، يحتلها العدوُّ/ في الثانية تتقدُ القناديلُ/ الشاطئُ المضيءُ يسحرُ الشاطئَ المعتم./ أسبحُ بخشوعٍ مبتعدًا/ في الأمواءِ المتلألئةِ السمراءِ./ صدمةٌ صماءُ لبوقِ عشبٍ يتغلغلُ داخلًا./ صوتُ صديقٍ يترددُ، خذ قبركَ وارحل".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.