}
عروض

"نهاوند".. مغامرة صناعة عالميْن متوازييْن

هافال أمين

15 يوليه 2020

لعل قدر الروائي أن يكون واحدًا من اثنين: إما أن يسرق النار كما فعل بروميثيوس من الإله زيوس ويهديها للبشر لتعينهم على حاجياتهم ويقتبسوا منها نورًا في ظلامهم، أو أن يشعل النار فيختصم القرّاءُ على إطفائها، أو أن يكون كليهما. أن يسرق النار؛ أي أن يأتي بفكرة جديدة، واضعًا إياها في حبكةٍ دراميةٍ حيث التوافق والتنافر بين الشخصيات وصراعاتها. وأن يشعل النار؛ أي أن يطرح أفكارًا ورؤى ومواقف موجودة أصلًا، ولكن من منظور آخر أو أن يُلبسها في شخصياته التي يخلقها أو يبثها في عالمه الذي تتحرّك فيه روايته، أو أن يُشعل نارًا لخدمة ما سُرِقَ من النار! 
في روايته "نهاوند" الصادرة حديثًا عن دار إبييدي المصرية البريطانية للنشر والتوزيع، يسرق الروائي والإعلامي الفلسطيني/ الأردني محمد جميل خضر النار بفضح عالم شرق أوسطي بائس من خلال خلق شخصيات من أجناس وألوان شتّى، هجرت بلدانها بعد أن ضاقت عليها بما رحبت، واستقرت في بلدان أوروبية عديدة لتصنع حياة أخرى، أو قل إن شئت، مولدًا آخر. وقد استثمر ماهية الموسيقى كحبكة لخلق روايته، وقد وُفّق في ذلك أيّما توفيق. كما أنه يُشعل النار تارة أخرى بعرض واقع هو من صميم العالم الحيّ. 
لقد أصاب صاحب "نهاوند" كل النجاح في سرقة النار من حيث عرضه لتسع شخصيات مختلفة الأهواء والأمزجة في إطار دراميٍّ محبوك، تلتقي جميعها حول حلم واحد جامع بينها: تأسيس فرقة موسيقية في الشتات، وكأن هذه الفرقة هي التي تلمّ فُرقة هذه الشخصيات، وتوحّد آمالها بعد أن فرّت من أوطان تناثرت وتبعثرت بسبب قسوة حكامها وعنجهية أوليائها. وبما أن هذه الشخصيات تعيش في بلدان أوروبية مختلفة، فلا بدّ لها أن تعقد اجتماعًا يجمعها وجهًا لوجه في مكان واحد لتتفق على ما لم تستطع القمم العربية، وما أكثرها، على فعله: توحيد الجهود ونبذ الخلاف القوميّ أو الطائفيّ أو الدينيّ لإنشاء تلك الفرقة الموسيقية. الاستعانة بالموسيقى مسعى خلّاق في الرواية لأنها لا تملك أبجدية محدودة كاللغة كي تكون موضع خلاف بين سكّان وطن واحد بحكم اختلاف ألسنتهم. كما أن الموسيقى لا تستحوذ على رموز طائفية لكي تشرذم المنتمين لكل طائفة عن بعضهم البعض، وهي لا تتمسّك بمفردات ومفاهيم صارمة متجهمة وغير قابلة للنقاش لمن يتبعون دينًا واحدًا، ناهيك عن أن تلك المفردات والمفاهيم التابعة لدين واحد تلغي وتنفي كل ما لدين آخر من مفردات ومفاهيم ما يمهّد الطريق الذهبي لصراعٍ عبثيٍّ لا نهاية له سوى المزيد من القتل والدمار والحقد والاغتراب.
ما أرخص كلمة الوطن في شرقنا الأوسط الذي انتُهكت عذريّته من قبل حكامه الفاجرين والساديين المستمتعين بذل سكّانه في وقت كان أجدر بهم أن يتركوا الوطن يكبر وينمو كما رُسم له من الأثير الأعلى، وأن يتجلى بما يتقاطع مع روح الموسيقى المتعالية على خُدعة اللغة، ومكر رموز الطائفة، وضيق أفق مفردات الدين، وقد وقفت جميعها عاجزة عن صنع دواء أو مواجهة متطلبات العصر.
الأصل في الوطن أن يحمل روح الموسيقى، آلاتها تختلف ولكنها تتناغم في إنتاج الصوت النهائي. تتشدّق الأفواه في الشرق الأوسط منذ القدم بمقولة: الدين لله والوطن للجميع. ولكن الحقيقة تزيح القناع، مع كل مشهد يومي، عمّا يجري في هذا الشرق المريض أن الدين والوطن، كليهما، ليسا سوى أداة جائرة وألعوبة ماكرة بيد الحاكم وزبانيته المقربّين.     
صوّر خضر في عقله الباطن أو الظاهر تلك الفرقة الموسيقية بوصفها مكافئًا للوطن المُحتضِر. مهمته بوصفه سارقًا للنار، أجاد فيها بما لا يحتمل مجالًا للشك.
لكنه بوصفه مشعلًا لتلك النار، لم يستخدم عود الثقاب بطريقة آمنة فأحرقت شيئًا من ثيابه تاركة فيها ثقوبًا، آملًا أن يرقّعها في روايته القادمة.
نحن إزاء بنك معلومات ضخم في الرواية. فالمؤلف يشرح لنا بإسهاب البهائية وكتابها الأقدس وفيما إذا كانت هناك علاقة بين البهائية والصهيونية حين يتعرّض لشخصية منى (من شخصيات الرواية) البهائية. ويصف لنا مدينة عكا وصفًا مطولًا. المكان هو جزء مهم في العمل الروائي، سواء أكان مدينة أو حيًّا أو مقهى أو حتى ركنًا صغيرًا من البيت الذي يجلس فيه شخص من شخوص الرواية. ولكن حين يصل الوصف إلى حد إعادة نشر أجزاء من المقالات كُتبت حول عكا فإننا بذلك ننتقل من العمل الروائي إلى العمل الصحافي أو الريبورتاجي. ينطبق الشيء نفسه حين يقدم الراوي شرحًا مطوّلًا لمنطقة الشاغور الدمشقية وأحياء أخرى من دمشق أثناء التعرض لشخصية روائية أخرى وهي إحسان السورية. وحين تتعرض الرواية لشخصية إبراهيم الكردي من القامشلي نرى شرحًا مطولًا للتاريخ الكردي الحديث من بدايات القرن الماضي وصولًا إلى القادة الأكراد الجدد في العراق، وفيما إذا كانت هناك علاقة بينهم وبين إسرائيل. ونقرأ شرحًا للصابئة المندائية، وهي طائفة دينية في العراق. كما نقرأ شرحًا لفيلم "شفيقة ومتولي". الرواية لا تنسى أن تعرض لنا أنواع الإيقاعات الموسيقية وتواريخها وبعض الأعلام المختصين بكل إيقاع. المؤلف يسطّر في صفحات روايته اقتباسات كثيرة من كتّاب عرب أو غربيين. 



لا ضير في استلهام العالم الحي الملموس المحيط بنا في جنبات الرواية لأن الروائي وإن كان يخلق عالمه، إلا أن هذا العالم يصبّ في النهاية في عالمنا الحي لأن القارئ يجد فيه نفسه في مكان أو زمان ما. ولكن الخطر حين تكون المعلومة المباشرة من العالم الحي كبيرة كمًّا ونوعًا، وتمّر دون استثمار لخدمة الحبكة الروائية، وبما يؤدي لحدوث فصام في الجنس الفني لانطوائه على الرواية والصحافة معًا.
استخدام المعلومة في الرواية سواء بشكلٍ حقيقيٍّ أي كما جاءت المعلومة، أو تحريفيٍّ لغرض فنيٍّ وجماليٍّ أو دراميٍّ في نَفْسِ الروائي، لا تخلو منها روايات كثيرة عربية أو غربية. ولكن المعلومة تمّر كومضة عابرة عبور العاصفة من حيث تأثيرها، وبما ينسجم مع الشرط الروائيِّ ويبث فيه الروح.
في قصة "السماء السابعة" من مجموعة "الحب فوق هضبة الهرم" لنجيب محفوظ نرى أن بطلها الميت رؤوف عبد ربّه يرى شخصيات من العالم الحي، أو يسأل عنها، فنحن في القصة إزاء كمٍّ هائلٍ من الأسماء، من أخناتون أيام الفراعنة إلى هتلر وستالين، ومن زعماء مصر مثل عمر مكرم وأحمد عرابي وصولًا إلى جمال عبد الناصر وأنور السادات. وبلمسة رقيقة كجناح فراشة، يمرّر محفوظ رأيه حول أن مصطفى النحاس كان مرشد السادات وعبد الناصر مرشد معمر القذافي. ولكن في النهاية يبقى البطل بين كل هذه الأسماء الكبيرة هو رؤوف عبد ربّه.


في قصة "أؤجّر نفسي لأحلم" لغارسيا ماركيز يُقحم الروائي شخصية من العالم الحي في قصته، هي شخصية الشاعر بابلو نيرودا، فيقول الشاعر: "حلمت أنها كانت تحلم بي". ويقول له ماركيز، هو أيضا من شخصيات القصة: "هذه العبارة لبورخيس". فيقول الشاعر: "هل كتبها؟" فيقول له ماركيز: "لو لم يكن قد كتبها فسوف يكتبها ذات يوم". هنا نرى كثافة المعنى الباطن في هذا الحوار المقتضب. الغائب بين الثلاثة هو بورخيس ولكنه الأكثر نفوذًا ووجودًا. بورخيس كان دائمًا مثار للجدل والأكثر تداولًا من بين باقي كتّاب اللغة الإسبانية في الأوساط الأكاديمية، لأنه يولّد الأفكار من الكلمات، كان ساحرًا في اللغة. ماركيز كان يقصد ذلك وكان بإمكانه أن يقول كل ذلك، ولكنه في هذه الحالة يخرج عن المسموح به جماليًا، وربما دراميًا، من اقتباس المعلومة، ويدخل في مجال النقد أو الصحافة الأدبية، رغم أن ماركيز بدأ صحافيًا وانتهى صحافيًا. الصحافة كانت مهنته وهاجسه، والرواية كانت هوايته ولعبته. ومن الجدير ذكره أن أعماله الصحافية أكثر من أعماله الروائية، ومن المؤسف أنها لم تُترجم إلى اللغة العربية.
حين تستحوذ المعلومة على مساحة كبيرة من الرواية ويتمّ استثمارها، سواء على شكل أقوال على ألسنة الشخصيات، أو أفعال تقوم بها، أو تجنيد أماكن لإحداث مواقف درامية فيها، فلن يكون هناك جنس أدبي أجمل وأعمق من هذا الكوكتيل السحريِّ بين العالم الروائي كما يتصوّره صاحبه ويكسوه لحمًا وعظمًا، وبين العالم الحيّ النابض من الماء والهواء والتراب حولنا.

*كاتب ومخرج سينمائي هولندي/ عراقي

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.