}
قراءات

جديد الرواية الأردنية.. المغترب العربي وهامش الحياة الناقصة

فيصل درّاج

5 يوليه 2020
ارتبطت الرواية الأردنية، ولمدة عقود، بروائي لامع لم يعش في بلده يدعى: غالب هلسا. أيقظها أردني غيره لم يقنعه المآل العربي فانتحر: تيسير سبول، كتب رواية وحيدة: "أنت منذ اليوم". دخل إليها بعدها: إلياس فركوح، الذي يهندس روايته بنثر صقيل وتأمل للوجود، لحقت به سميحة خريس وتعاملت مع الرواية بجدية عالية، تبعها آخرون حصلوا على أكثر من جائزة.

لا غرابة في نسق روائي أردني يطوّر نفسه، أن نقع على رواية متميزة، عربية الهواجس، عنوانها: "الهامش" (منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، بيروت، 2020، 83 صفحة) لكاتب قصة قصيرة: خالد سامح جرّب الكتابة الروائية ولم يخسر الرهان. كان قد أنجز أربع مجموعات قصصية، قاسم الثانية منها نص مسرحي، اتسمت بعمل واضح في اللغة.
صرّحت رواية "الهامش" ببعدين: وعي الكاتب باختلاف الأجناس الأدبية، إذ لكل جنس، نسبيًا، لغة توائم طبيعته، وموضوع واضح الفضاء. فبعد قصة قصيرة "تمضيّة"، أشبه "بجوامع الكلم"، دخل سامح إلى عالم روائي واسع متعدد الشخصيات، متنوع الوقائع والحكايات. يتكشّف البعد الأساسي الثاني في: رواية عربية ـ وثيقة تتخذ من عمّان منطلقًا، تلمح إلى فلسطين، وتتوقف طويلًا أمام عراق اليوم، وترصد مصريًا، ألجأته أحواله إلى العمل في عمّان، إضافة إلى "شوارد" تسخر من عرب باذخي الأناقة فارغي الأرواح.
أقام سامح روايته على شخصية المثقف المغترب، الذي كلما هزته هزيمة عربية، التقط أنفاسه منتظرًا تالية، تتشجّر في هزائم يأتي بها "الاستعمار"، ويكملها عرب لا يذكرونه بخير. أراد الروائي ـ المثقف، المنتمي إلى جيل انحسرت بقعته، أن يكون ساردًا يلتبس بعالم الاجتماع وبالمراقب السياسي والمتابع الصحافي ـ وهو صحافي المهنة ـ  قبل أن يخلو إلى أحزانه ويودّ أن يكون شاعرًا.
أنتج الروائي نصه من مجازات متعددة، إذ في الصحافي الأردني صحافي عربي آخر، وإذ رئيس تحرير الصحيفة مرتاح الحضور في أكثر من مكان. يعيش الصحافي اغترابه عن الحقيقة، وهي مرجع للصحافة مفترض، ويعيش اغترابًا انسانيًا، فهو يَصمت إن أُصمت، ويترجم لضرورة العمل، وينكسر في الأرشيف إن أُبعد إليه. والمُبعد في حقل الاغتراب، أحلام التمرد الماضية، ومتظاهرين حالمين لا يمكنهم التعبير عن غضبهم.
لم يشأ خالد سامح أن "يُوهم  بالحقيقة"، كما يقال، بل عمد إلى كتابة تباطنها "الوثيقة"، أو تقصد كتابة ـ وثيقة، تعطف اغترابه على حياة الآخرين اليومية، توطدّهما بمعطيات عربية كأنها كوابيس، منتهيًا إلى نص معتم وشفاف، يسرد صعوبات الحقيقة ويمارسها في آن. استولد الروائي حقيقة المكان مما يدور فيه، إذ حقيقة الصحيفة من أقسامها اللامتكافئة، وحقيقة "الزرقاء"، وهي من ضواحي العاصمة، من بشر يستجدون أقدارهم، ومن إيمان مشوّه يرى الجهاد في العراق نعمة لا تعوّض. تتجلى الأمكنة في تحولات الزمن، التي تجعل عمّان اليوم غير ما كانت، وتحوّل بغداد إلى مسلخ وقبلة "للمجاهدين" ومقبرة..
أيقظ سامح متخيلًا روائيًا مرنًا متنوع الأمكنة. ارتدّ وراءً ورسم شبابًا "قوميًا" حالمًا، وانعطف جانبًا ليتحدث عن فلسطينية عاشت في بغداد سابقة وطردتها لاحقة....  ومر على مصري يعرف ما يدور حوله ويرضى "بالمقسوم"، وعلى طبيب أردني خذله الزمن العربي أعفى نفسه من الأحلام الصغيرة والكبيرة، واقترح "هامش الحياة" سكنًا ومقامًا. وقد يكون في رواية سامح ما يغوي بصفة: "الرواية ـ الأطروحة"، أي الرواية التي تشبع موضوعًا إيديولوجيًا محددًا دون أن يكون الافتراض صحيحًا. ذلك أنه بنى نصفه بشخصيات أقرب إلى المجاز، تعلن عن عوالمها الداخلية والخارجية بمتواليات من الحكايات اليومية المكتفية بذاتها.
يجسّد بطل الرواية، وهو السارد الأول الحالم بمجتمع عربي متحرّر، حياة متكاملة الاغتراب، يدور في مساحة يومية متكررة، تترجم غربته عن ذاته وعمله وعمّا أراد أن يعيش، وعن عائلته في "الزرقاء"، حيث المرأة مسكونة بطفلها القادم الذي تختلسه منها "تنظيمات دينية" ترى معنى الحياة في "الآخرة". والبطل الصحافي مجاز يعكس جيلًا كان منطلقًا وسقط في الخيبة. أما العراقية اللاجئة إلى عمان، وهي شخصية أساسية في الرواية متوالدة الحكايات، فمجاز آخر متعدد الأبعاد، فهي "بُقيا" من شابة متعلّمة لصيقة بالقيم، و"بقيا" من عراق قديم فرضته احتلالات متوالية، ومرآة لما صاره "الأغنياء الجدد".....  وهذه العراقية اللاجئة "شهرزاد"، في زمن تلاشي فيه هارون الرشيد، تسرد حكايات سوداء عن "أمراء المؤمنين"، الذين يردوّن "المرأة الحاسرة الشعر" إلى دينها بتكرار الاغتصاب وتشويه الوجوه السافرة. وللمصري "البّواب" مجازه، شوّهه الفقر، فلا هو في بلده ولا مع كرامة العيش التي أجبرته على السفر.

تأخذ الشخصيات ـ المجازات دلالتين: تبني الفضاء الحكائي، وتنشر أحوال عالم عربي غادرته العروبة وكرامات البشر. تعكس في تحوّلاتها المكسورة عنفًا ساحقًا، يبدو في العراق واضحًا، ويستمر في تداعي الكلام والقيم في غيره. تستمد رواية سامح قيمتها، من مآلات فردية تتناتج في متواليات حكائية، مفتوحة وجميلة السرد. أنتجت المتواليات الحكائية خطابًا فكريًا متماسكًا، يسأل ويجيب، وينفتح على قارئ يعرف الإجابة لأنه يعيشها، ما جعل من "الهامش"، كما أشرنا، رواية ـ وثيقة، تعكس المعيش العاري مجسدًا في شخصيات عربية متنوعة.
قسّم روايته، فنيًا، إلى فصول متلاحقة أمنّت ما يدعى: عتبات النص، تضيء الحكايات قبل سردها. ففي "الإهداء"، الذي هو من كلمات قليلة، تحية إلى أحياء، زوّدوا الرواية بحكايات عاشوها ومضوا بعيدًا، كما لو كانوا يعطون الرواية كتابة أولى خشنة الأسلوب. يأتي الفصل الأول وعنوانه: سقوط ـ صيف 2003، معينًا روح الزمن بمغترب يقصد طبيبًا نفسيًا، يحتاج بدوره إلى طبيب نفسي آخر، بعد أن تحوّل عما كان يعتقد به واختصر واجب الإنسان في الحفاظ على "هامشه" المجزوء. يتلوه فصل صغير العتبة والعنوان: في شقة الشميساني، صيف آخر ـ 2005 حيث روح الزمن لا يختلف والمكان الجديد فضاء لا تختلف حكاياته، وإن اختلف نسيجه السكاني المغاير في أناقته، عن أهل بلدة "الزرقاء" الملفوفة بالغبار والوجوه المحجّبة. يأخذ الفصل الثالث عنوانًا مزدوج الدلالة: لهيب في عمّان ـ نهايات العام 2005، إذ في عمان ما لا يغيّرها، وإذ "لهيب" لاجئة عراقية، شوّهها لهيب بغداد، ورمى بها إلى منفى ينقلها من خطيئة أولى إلى تالية، حتى تصبح الخطيئة قوام الحياة العربية ومرشد طموح "اللاجئين". يسرد الفصل كوابيس التداعي وتآلف المقهورين وحكايات "رعب بغدادي" ابتُذل رعبه. والفصل اللاحق: حكايا الليلة المخمورة شتاء 2006، الذي هو أشبه بسيرة طويلة لبشر قتلة يغيّرون حياة البشر، ورحلة طويلة في أقدار أنثى عاثرة، تجلّت "بغداد العرب" في الانتقام من أنوثتها. لن يكون الفصلان الأخيران: Coming out ربيع 2006 والرقصة الأخيرة، في الربيع ذاته 2006ـ إلا رصدًا لبؤس العربي أمام غيره، أكان الغير أميركيًا جاء إلى العالم العربي ليحظى بتجربة جديرة، أو عربيًا مسخًا يريد أن يحاكي الآخرين، دون أن يعرف زمنهم أو زمنه.
أعطى خالد سامح في روايته الأولى "الهامش" نصًا واعيًا لمقاصده، وبنيةٌ فنية تلبيه، بلغة تشتق مواضيعها من الحياة اليومية "العربية"، تستعير حكايات العابرين وتردها إليهم، بعد تعديل وبناء وتحويل اليومي العابر الى مرآة تعكس حقيقة مرحلة، أو صورة عن "روح الزمن"، كما يقال.
وصل خالد سامح إلى "نص روائي جامع"، إن صحّت التسمية، برهن بعفوية مصقولة أن وقائع الحياة، أكثر خصبًا وامتدادًا من "المتخيل الروائي".
ارتكنت رواية سامح الى جملة وقائع وصور وكوابيس تشد القارئ إلى ما عاشه، وتدعم ذاكرته الشفهية بذاكرة مكتوبة.
كانت رواية عبد الرحمن منيف تقول: "الهنا والآن". تعلّم سامح من منيف أن يبدأ من الآن، وأن يضيئه "بهنا" واسعة الأبعاد والأسئلة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.