}
قراءات

أندريه ميكيل.. "أشعار متجاوبة" تخفّف صدمة اللقاء بالآخر المختلف

دارين حوماني

2 أغسطس 2020
في ديباجة مجموعته الشعرية "إلى أين؟ Vers où" يعترف أندريه ميكيل ( André Miquel (1929 بأن كتابته لنفس النص الشعري باللغتين العربية والفرنسية في الوقت نفسه وفي المكان نفسه، يشكّل مغامرة في عمره لكنه يجدها تخاطبًا بين اللغتين: "لن أعرف أبدًا ما يجعلني أرتاد من جديد في أيام هرمي هذه مجالًا سبق أن غامرت بارتياده ثلاث مرات من قبل، لا أعرف حقًا، قد أكون استمددت استحالة القيام، هنا أكثر مما في أي مكان آخر، بترجمة أدبية، فاقترحت حوارًا تبادلًا، أو نشيدًا ثنائيًا بين اللسانين".

"إلى أين؟ Vers où" هو النشيد الثنائي الرابع للمستعرب الفرنسي الباحث والروائي والشاعر أندريه ميكيل، صدر مؤخّرًا عن منشورات "الجمل" في كتاب واحد مع مجموعاته الثنائية الثلاث السابقة "في زئبق الليالي" Au mercure des nuit )1989)، "الطفل والوعد" L’enfant et la promesse) 1999)، و"وداع" 2008 ( Pour un adieu). وعنونه ميكيل بـ"أشعار متجاوبة" Poèmes rèciproques وقدّم له المترجم كاظم جهاد. أحبّ مترجم "ألف ليلة وليلة" أن يعنون كتابه بـ"أشعار متجاوبة"، عنوان يشبه الشاعر نفسه الذي أمضى حياته باحثًا في تراث وأدب وجغرافيا اللغتين العربية والفرنسية متعمقًا في تاريخ الآداب المقارنة وتاريخ الأديان المقارنة وكأنه يريد أن يؤكّد لنا على وجوب التجاوب بين أي لغتين في العالم، أن تتحاورا، إنه يريد لهذا الكوكب أن يستبدل وجوهه، يستعيرها، فتتماهى مع بعضها البعض وتشكّل ثنائيات تخفّف من شعور الصدمة بالآخر المختلف.



بداية الاهتمام بالعربية
يُعدّ ميكيل الشاعر الفرنسي الأول الذي يكتب الشعر بالعربية. بدأ اهتمامه باللغة العربية منذ مطلع شبابه إثر رحلة فاز بها في الثانوية إلى المغرب العربي، ومنذ ذلك الوقت بدأت نزعته الاستشراقية، وبتوجيه من أستاذه ريجيش بلاشير، حتى ألّف أكثر من أربعين كتابًا بالأحرف العربية، وأبرز كتبه "الجغرافيا والجغرافيا الإنسانية في الأدب العربي منذ منتصف القرن السادس الميلادي حتى 1050" والذي كان أطروحته للدكتوراه وتلاه عدد من الكتب حول الجغرافيا والأدب العربي والإسلامي، منها "الجغرافيا البشرية عند العرب"، و"موسوعة جغرافيا دار الإسلام البشرية". كما قام ميكيل بتحليل العديد من النتاجات الأدبية العربية سردًا وشعرًا، وترجم كتبًا عديدة من التراث العربي منها "ألف ليلة وليلة"، "كليلة ودمنة"، وأشعار قيس بن الملوّح وأبي فراس الحمداني وأبي العتاهية وبدر شاكر السيّاب. ويعتبر ميكيل أن تجربة الكتابة الأدبية ليست متعارضة مع تجربة الباحث، ففي اشتغاله على الجغرافيين العرب كان يبحث في آدابهم، فالعلم والآداب غير منفصلين بالنسبة إليه.     
قد يبدو من السهل قراءة أندريه ميكيل بالعربية، قراءة أشعاره التي تقدّم نحوها من خلال قصيدة النثر، وهي وإن كانت تبدو واضحة إلا أن الدخول إلى القشرة الداخلية سيكون صعبًا. نشعر بأن الكلمات يمكن تحميلها بعدد من المعاني. تتساقط قصائد ميكيل من ذاكرة ممتلئة بالصور ومن فضاء تصويري موسيقي هادئ. يحب صناعة الصور والرموز، وحيث المعنى قد يكون إشارة لمعنى آخر، فلا الزمن هو الزمن ولا الشجرة هي الشجرة ولا سندباد هو سندباد. ثمّة ما يأخذك إلى المجرّد المطلق، وهو بذلك يخاطر في الدخول إلى الغابة التي اسمها اللغة العربية، وحيث المعنى واللامعنى يلتقيان في مكان واحد، أي في شعره.
"في زئبق الليالي"، عنوان مجموعته الشعرية الأولى التي يفتتح بها ميكيل كتابه، هي محاولته الأولى في تجريب الكتابة الشعرية بلغة المتنبي ثم كتابتها بلغة رينيه شار الذي كتب له أكثر من قصيدة في كتابه. اختار ميكيل كتابة نصوص قصيرة أغلبها غير معنون. إنها قصائد تشبه عنوان المجموعة، فهي محّملة بجزئيات الأرض وبرائحتها مع لمحات تراجيدية وغنائية أحيانًا.



صفاء الروح
سوف نرى ميكيل يبحث عن حياة لم يعشها، عن مكان لصفاء الروح "حلمي قُبلة تستهزئ بالشعراء/ قُبلة النحلة في شفة الإله المولود/ وقُبلة شعاع لسكوت المصلّي../ ولكن أين القُبلة التي لن تبتدئ". إننا نراه يقرأ الحياة بهدوء عاشق التقى محبوبته وأب يحدّث ابنته، "كنتِ هذا السهل بمياهه المتباطئة/ كنتِ الحصان الأسود الذي يحرث في الورد وأحلامي/ وفجأة تتغيّر المياه فتصير منقضّة على قلاع جسدي كلها"، ثم يستجيب ميكيل لنداء داخلي قديم فيكتب بلغة المتأمّل الدقائق الخافتة في ذاكرته كسلسلة من اللوحات الغنائية "تعجبين من سكوتي غير أنّي/ منحنٍ على بئار مقلتين/ ومدينٌ للعيون بالحنين/ تسـألين أين غاية العيون/ ولماذا في مكان لا تغني/ ولماذا في زمان ذا التمنّي؟/ فابتسمتُ للعيون: يا غواني/ قُلن عني: إنّ هذا من أماني".
يرثي الشاعر محبوبته في قصيدة تتمدّد فوق سطح البحر ما يعكس بُنية تراجيدية مأساوية ثم يحبها من جديد ويقيس إحساس الجسد العاشق بكل ما لا يُقاس "وكيف بلا حب نسافر في البحر/ ذهبتِ وكل مصحف نص مقبري/ حروفه أجياف تُوقّع بالنار/ ذهبتِ ولم يبقَ سوى زئبق مرّ/ وباخرة غبراء تُحرق في الليل/ مال الهلال على شَعركِ/ ليبتسم في شفتيكِ الموتى القادمون تحت اللئام/ ما هي الأمطار التي شربتها في تابوتك الغائم/ يا ليتني سلكتُ على جسمكِ رسوم الأنهار/ يا ليتني قطفتُ على جسمكِ دموع البحار/ ها هو موسم الحصاد على شفتيكِ/ أنتِ حقلي"، لكن ما يثير الدهشة ويدعو إلى التساؤل هو أن هذه القصائد مكرّرة في مجموعته الثانية "الطفل والوعد" التي قدّمها إلى ابنته وابنه الذي فقده وهو لا يزال في الخامسة عشرة من عمره، المجموعة الثانية مقسّمة إلى "هي" و"هو"، معظم قصائد "في زئبق الليالي" يُعيد كتابتها ميكيل في مجموعته الثانية فالأبيات في المجموعة الأولى تبدو مكتوبة لإمرأة غائبة يستحضرها وربما يرثيها، ثم يكتبها كما هي أو بتغييرات بسيطة وبالكاد ملحوظة إلى ابنته أو إلى ابنه: "تركتكِ واطئة عشب عاصمة مقفرة" لتصبح "تركتكَ واطئًا عشب عاصمة مقفرة"، أما الأبيات الأخرى المذكورة سابقًا فهي منقولة كما هي من المجموعة الأولى إلى الثانية، من محبوبته إلى ابنته. سوف نقرأ أيضًا مرثية قصيرة لرينيه شار في المجموعة الأولى ثم يكرّرها في المجموعة الثانية مع تغييرات بسيطة "ماذا رأيتَ يا ابن قوافل الفشل؟.. رأيتُ بلادًا لا تطلب إلا أن تُنظر"، لتصبح في المجموعة الثانية: "ماذا رأيتِ يا ابنة قوافل الفشل؟.. رأيتُ بلادًا كل انتظارها أن تُرى". كما أنّ المقطع الأول من قصيدة "إلى كلودين وجمال الدين بن شيخ" مذكور في إحدى القصائد غير المعنونة في المجموعة الأولى، وهنا نجد أنفسنا في حيرة من قصد التكرار والتعديل، وكأن ميكيل يعيد النظر في نفسه ويعيد ترتيب حياته من جديد، يرغب بتعديلها وإضافة ما سقط سهوًا من المجموعة الأولى ومن حياته.
تتضمّن المجموعة الثانية "الطفل والوعد" قصائد أخرى معنونة إلى عدد من أصدقائه، ما يجمع هذه القصائد رؤيتها للحياة كأنها مكان قابل للظلام فقط، فيها من الكآبة ما يستحضر شعور ميكيل العميق بالوحدة والشيخوخة "واحسرتا، نحن عُميٌ/ جاء موسم النيران/ فيحرق الخريف الحشائش/ ويطلع طوق دخانها حول سور المدينة". ثمة حزن بعيد لا يحتمله نص ميكيل، حزن يفضي إلى التلاشي والعدم "قال الحكيم القديم: في السلم يقبر الأبناء آباءهم/ في الحرب يقبر الآباء الأبناء/ وأنا.. في أيّة حربٍ ضللت؟".









صور من الماضي
في مجموعته "وداع" المقسّمة إلى "وداعين" يؤرّخ ميكيل ذكرياته ويخلّد معنا صورًا من الماضي، سنكون أمام نصوص وداعية حزينة بالكامل يبدو فيها ميكيل مستعيدًا العمر ومتفقدًا لحواسّه إذا كانت لا تزال تعمل. يكتب كلماته كأنها كائنات قديمة ويختفي فيها "تنقضي الكلمات يا صديقي/ ولم يبقَ في روحي سوى صوت جامد/ يعجز عن احتضان أصداء الماضي/ في بلاد الأندلس/ أنوح على الصديق المفتقَد وأبكي على نفسي في طريقي إليه". يتنقّل الموت من سطر إلى آخر ليصبح هاجسه الأخير "من هو الذي يجرؤ على الإدّعاء/ بأن اللحظة الأولى كانت نعيًا للموت؟/ لم تعد الشموس والرياح قادرة على مسح ظل العصفور/ وهو يزور يوميًا/ شاعرًا ينتظر قبره"، هنا الحديث عن حتمية الموت منذ الولادة، عن الشيء واللاشيء في وقتٍ باتت تسعينية ميكيل هاجسه المثقل بالأحرف والطيور وما وراء الأرض والسماء "جاء وقت الصراط إلى أصل المياه الأولى/ فصار الرجل صبيًا جاهلًا وبريئًا/ لم يعد يعي الاستدلالات والعوالم ولا حتى المعرفة/ ولا يرى في شيخوخة وجوده سوى السنونو/ في سماء القيامة". إنه يرى قساوة المدينة والأرض التي ستفقد حياتها على دفعات بصنيعة يديها، "أُطفئت البراءة/ شموسها اتفلقت على مدّ البوادي الموحشة/ والمدن الخالية من كل حائط حنون/ صرنا أشباحًا لا يرانا أحد"، ويرى من الآن نهاية العالم الذي سيطفئ ضوءه ويغفو في اللاشيء "يومًا ما سوف تأبى الشمس/ العودة إلى الغرب/ ستحرق الأرض حتى آخر الدود/ سيسأل الناس: أهي نهاية الأزمنة؟/ فيجيب صوتٌ: ألم تعملوا من أجلها منذ بدء الخليقة؟".
لا يختلف الوداع الثاني عن الوداع الأول، فقد قسّم ميكيل هذه المجموعة إلى قسمين معنونين "وداع"، ليس بينهما سوى تراكم للوحدة والخوف. إننا أمام حديث من خارج المكان وأكبر من هذا العالم. هنا أصبح ميكيل بين الموتى يتمشّى معهم على طريق الجبل، يريد اكتشاف النهاية و"الفضاء العتيق"، إننا أمام بورتريه ذاتي لما وراء الحياة "كان نهري طوال شبابه وعدًا سائلًا/ يصبّ في بحار متتابعة/ واليوم يتباطأ في رعب الغدير المترقب/ الفناء مربط الأوهام/ وأنا في الوئام مع وحدتي/ لا زلت أترقّب الكلمة التي لم تأتِ/ كان العجوز يمشي على طريق الجبل/ حين رأى أمامه فجأة من أحبّهم/ مستقبلين مبتسمين/ فصاح: هل أنتم حقًا ما أرى؟ كنتُ أتصوّركم في عداد الموتى/ فأجابوه: كيف ذلك وأنت ماثل أمامنا"..



ما بعد الموت
يتابع ميكيل موته في مجموعة الأخيرة "إلى أين؟"، ثمة حزن لا يشبه ذلك الحزن المقيم في المجموعة الأولى والثانية، نرى ميكيل هنا أكثر اقترابًا من ما بعد الموت، لم يعد يكتب عن محبوبته، عن ابنته وعن ابنه الذي فقده، عن خساراته وخريفه وعن المشاهد التي علقت في ذهنه أو تصوّرها، إنه يكتب عن الوجود واللاوجود، "أيّ وجود أكثر عدمًا/ أعلم وكيف لا أعلم/ إلى أين أمشي الآن/ حيث انفلاق الكون/ واكتشاف المجهول/ سأرى حياتي قصاصات مبعثرة/ مثل جزر تجهلها الخرائط.../ سأل الشيخ/ من أين أنتَ يا ولدي؟/ فأجاب لا أدري/ غير أني جئتك/ لأنبئك باقتراب الموت/ في زمن خارج كل الأزمنة/ بعد نهاية كل النهايات/ لن تستريح الشجرة/ ولن ترتعب أوراقها". يستحضر ميكيل الطفولة المبكرة وكأنه يودّعها وهو يؤسّس لتراجيديا حزينة لكن مطمئنة "كانت الأرض متهيئة لاستقبالي/ بين الجبال المطمئنة/ فجأة تهاوت العتمة/ على صورة هذا الخلود/ في روضة الأطفال المنفية/ خريطتي/ خريطة بلد الطفولة/ كانت مفكّكة، ممزّقة ومهترئة/ وفي الأمس عاد إليها تكوينها من جديد/ بهذه الكلمات: ما زلت أنتظركِ للصلاة على الصمت". يعيد ميكيل تركيب قصاصات حياته المبعثرة، يستكمل ترتيب موته الآتي وهو يدرك أن الرحمة التي لم يجدها على الأرض سيجدها هناك حيث يقيم العجوز المجهول خارج الزمن "لمّا وصل العجوز إلى قمة الجبل/ رأى موتاه كلهم واقفين/ كما كانوا يوم ولادته/ في بيت العائلة/ فقالوا: نحن هنا الآن/ كي نعطيك الزهرة/ الزهرة الفريدة/ زهرة النعيم والرحمة".. وثمة مسافة بين الحياة والموت أعدمها ميكيل وهو يذهب في الوجود نفسه إلى أقصاه حيث يكمن اللامعنى "الأرض والماء والسماء والشجر/ هل كلّ هذا وهم/ أم تجلّي عجزي بادراك كينونتها/ أعود بشجرة عارية عن أبواب الخلود/ أحنّ إلى سماء أبعد من كل شمس وأكثر بُعدًا من قمر/ إلى لحظة مجهولة وسبيل لا يوصلني إلى أي مدينة/ قبل ولوج المرسى حطّم سندباد بدن السفينة/ مخافة من الشمس الأخيرة والحنين إلى البحر المطلق".. يمكن اعتبار هذه المجموعة الأخيرة التي تُنشر لأول مرة خريطة كاملة لحياة وموت ميكيل، يتطهّر فيها من هذا العالم الوحشي، ويريد أن ينقذ تساؤلاته الوجودية من الخوف "ذات يوم اخترع العنكبوت النسج/ والطير التعشيش/ والنمر القتل/ والإنسان الاغتيال/ كانت نجمة في سماء خالية/ كانت نجمة ردمها الهلع فانفلقت/ لماذا يا إلهي خلقتَ الإنسان كي يغتال السماء؟".


"إليكم" هو عنوان داخل المجموعة الأخيرة يكلّم فيها أندريه ميكيل أربعة شخوص، ابنه، البنت التي وجدت نفسها وحيدة بعد وفاة أخيها، الريح، ورينيه شار. يقول ميكيل لابنه "اليأس غشي النهر لقد حان موعد الخلود"، ويقول لابنته "حان الآن مجيء نهاية الطريق وأنا متأسّف"، ويخبر الريح "حين وطئتُ نهاية الطريق ودفعتُ ثمن العبور الأخير/ لم يبقَ لي لا زمان ولا فضاء/ سوى حاجتي إليكِ"، ويكمل حديثه مع رينيه شار "لو كان للحب دلالة/ لَمَنَع النسيم عن كسر جناح الطير/ وحمله إلى بلد لا ينتظر/ سوى أن يُنظر إليه".. سوف نخرج مثقلين بالأسى بعد قصائد ميكيل الأخيرة، سوف نخرج محمّلين بالعتمة التي تُخفي سرّها وبأنين عميق لا يريد إلا أن يُنظر إليه..

عرفان للغة العربية وثنائية الوجود
هل يمكن ملاحظة تواضع هذا الشاعر التسعينيّ الذي قدّم للمكتبة العربية بما تغافلت عنه وتناسته؟ نزعته الإنسانية جعلته يعمل جاهدًا على محاولة تعديل رؤية الغرب للشرق من خلال أبحاثه في تاريخ الإسلام وثقافته وحضارته ومن خلال تأكيده أن تراثًا حيًا ينبغي ملاحقته لإعادة النظر في مفهومهم للإسلام والعرب فكان له أكثر من ثمانين كتابًا بين البحث والجغرافيا والترجمة والسرد والنقد والشعر باللغتين العربية والفرنسية. يكتب ميكيل بكل هدوء ورجاء في مقدّمة مجموعته "الطفل والوعد": "هذا الأمر يمكن أن يبدو محفوفًا بالمخاطر وضربًا من انعدام التواضع.. الآن أُعيد نشر هذه المجموعة مع تعديلات وإضافات في سنّ ينبغي أن يُخضِع المرء فيها للشك كل شيء، آمل أن يرى القرّاء في هذا الكتيّب تحية إجلال أزجيها إلى الفتنة الدائمة في هذه اللغة التي وهبت سليل أوكسيتانيا، الذي هو أنا، فرصة القيام عبر الضّفة الأخرى من المتوسط بأكثر الأسفار إثراءً للإنسانية.. إني أسأل الأصدقاء الناطقين بالعربية والمستعربين أن يشملوا بتسامحهم هذه الرغبة وهذه التجاوزات لنفسي هنا وهناك إزاء العروض الكلاسيكية وإني لأرجو ألا يعيروا انتباهًا إلا لهذا العرفان الموجّه إليهم". ربما يعرف ميكيل أن عالمنا العربي يفتقر إلى تقدير مبدعيه العرب ولذلك فهو لا يشعر بحزن إزاء عدم الإلتفات جديًّا إلى ما وهبه لنا ولا إلى ردّ تحيّة الإجلال بمثلها، لكنه لا يغفر للعرب تناسيهم لناقد مبدع هو جمال الدين بن شيخ، الذي اشتغل معه على ترجمة "ألف ليلة وليلة"، فيقول في أحد حواراته: "جميعنا عرضة للنسيان. لكن أن ننسى أو نتناسى مبدعًا وناقدًا من مستوى جمال الدين بن شيخ هو أمرٌ لا يغتفر"، ورغم ذلك يشعر ميكيل أن كتاباته ليست إلا عرفانًا للغتنا العربية لما قدّمته له، ويختم مقدّمته: "ما كان لحياتي من دونها أن تصبح ما كانته". كلمات ينبغي علينا الانحناء أمامها لكنه لا يريد شيئًا منا سوى أن نقوم نحن بإعادة إنتاج تراثنا واستحضار الجمال والانفتاح والتنوير الذي وهبه لنا أجدادنا بدل استحضار الظلام وما يثير الخلافات وتوظيفه سياسيًا. وسوف ينهي ميكيل مجموعاته الشعرية الأربع بهذه الجملة الأكثر تواضعًا: " كان مكتوبًا عليّ/ أن أتشبّث بالكتابة/ كتابًا يلي كتابًا/ ولكن لم أكتب ما يصفو به قلبي".. وعلى غلاف كتابه الخلفي سوف يكتب تحت عنوان "هذا الكتاب" ما يمكن من خلاله تلخيص حياة أندريه ميكيل ورؤيته لهذا العالم: "في الأزمنة اليونانية القديمة/ صاح صوتٌ في السماء/ عوضًا عن اليمين/ أعدكم بالخلود في ذاكرة البشر/ فما جوابكم؟ فقال الزوجان الهرمان: نقسم بأننا سنعيش حياتنا كلها تحت شعار الاثنين في واحد"، هنا قصده من أشعاره المتجاوبة واشتغاله على الأدب المقارن والأديان المقارنة، إنها ثنائية الوجود التي ستحيا فقط تحت شعار الاثنين في واحد.

 




الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.