}
عروض

"القارئ الأخير" لريكاردو بيجليا.. القراءة فعل حياة

ليندا نصار

15 يناير 2021

تعدّ القراءة بمثابة مؤسّس مهم لثقافة الإنسان، وبناء حضارته ومجتمعه، وتوسيع آفاق فكره، واكتمال الوعي الفرديّ عنده انطلاقًا من التفكير في الذات وإدراكها، بما ينعكس على ثقافة المجتمعات. والقراءة تدفع بالفرد نحو الكتابة، بعد رفده بالأفكار والأخيلة، وتجعل منه شخصًا قادرًا على الانفتاح على الحوارات في المواضيع العميقة. عندها، يلج الكاتب عالم الإبداع، ويصبح قادرًا على التّقدّم والاستمرار في مسيرته الكتابيّة. من هنا، ولدت جدليّة العلاقة بين القراءة والكتابة، فلا كتابة من دون قراءة مسبقة، وهذا ما يتبدّى لنا في كتاب "القارئ الأخير" لريكاردو بيجليا، الصادر حديثًا عن منشورات المتوسط 2021، بترجمة أحمد عبداللطيف، الروائي والمترجم المصري الذي درس اللغة الإسبانيّة وآدابها، بغلاف خالد سليمان الناصري.

ريكاردو بيجليا في جلسة تصوير في الاستوديو الخاص به في بوينس أيرس/ الأرجنتين (26/ 8/ 2013/Getty)

يكتب بيجليا نصوصًا يخرج فيها عن خارطه التجنيس، ويترك لقارئه هذا الكتاب الذي يعدّ مرجعًا في طرق القراءة، ويسمح بالتأمّل في تجربة القرّاء المذكورين، الذين تحوّلوا إلى كتّاب في ما بعد، وتشاركوا مع القرّاء في كتاباتهم وإبداعهم. إنه يتطرّق إلى أنواع القرّاء، ويتوقّف عند مشاهد روايات عدة، مرورًا بظروفها. هذا الكتاب هو كناية عن ستة فصول تبدأ بالمدخل. عنوان الفصل الأول: ما القارئ، يليه الفصل الثاني، وعنوانه "قصة حول كافكا"، ويعنون الفصلين الثالث والرابع بـ"أرنستو غيفارا وآثار القراءة"، أمّا الفصل الخامس فعنوانه "كشاف آنا كارنينا"، لينتقل إلى الفصل ما قبل الأخير، وهو يحمل عنوان "كيف صنعت عوليس". وينهي كتابه بخاتمة تشكل الخلاصة لما أراده في العنوان الذي يتكشّف للقارئ تقريبًا.
يعدّ ريكاردو بيجليا من أهم كتاب أميركا اللاتينية، وهو الكاتب والمنظّر الأدبيّ الذي اتخذ لنفسه منهجًا خاصًّا، وسار على خطاه في الإبداع كثيرون. في تحليله العلاقة بين النص والقارئ، ونوعية النصوص التي يختارها، ينطلق بيجليا من تصورات ومفاهيم تحليلية استنتجها، ليبثّها في قالب يحوي لغة خاصة يكتبها فتجذب قارئه وتجعله يميل إليها، وتؤثر في عمليّة اختياره الكتب التي يريد قراءتها، وهذا يتمّ انطلاقًا من مقاربة بيجليا لها، ومراعاته أذواق القراء، كقاعدة أساسيّة.
الولوج في أعماق الكتاب، من خلال العنوان الذي يشكل عتبة القراءة، ويفتح شهيّة القرّاء، كما يقول رولان بارت، يجعلنا نطرح أسئلة عدة. فمن هو هذا القارئ الأخير الذي استنبط منه

ريكاردو بيجليا عنوان كتابه؛ وهل يقف الأمر عند حدود أنواع القرّاء؟ وهل حقًا هناك قارئ أخير، أو أنه مصطلح مؤقت؟ أو تراه المترجم الذي يقرأ القراءة الأخيرة قبل الترجمة؟ أو أنّه من يصل أخيرًا، كما يذكر في نهاية بحثه؟
في خبرته الطويلة، ومسيرته التي تعدّ من أبرز التجارب الأدبيّة، فإن ريكاردو بيجليا، الذي عايش بورخس، واستقى منه معرفة، واعتنى بكل تفصيل كان يلحظه، لم يتوقف عن مراقبة أنواع القراء، واللافت أنه اختار أدباء عالميين، فجاءت الازدواجية بين كونهم قراء وكتابًا في الوقت نفسه، يجمعون بين الاثنين، كذلك اختار أشخاصًا كانت لهم بصمة في الحياة والمجتمع والسياسة. فثمة علاقة تجاور والتحام بين القراءة والكتابة، بل إنها توأمة بين المعرفة والثقافة من جهة، وإعادة إنتاجها من جهة أخرى، إذ لا يمكننا فصل الكاتب عن القارئ. من هنا، جاءت مقاربة بيجليا للقارئ وفق مظاهر متعددة، وقد جعل منه باحثًا عن حالات أخرى من التأويل، فهذا المتلقي الأساسيّ صار عالِمًا ومحللًا اجتماعيًّا ونفسيًّا يبحث في أعماق النص ليستنتج ما يكوّن رؤيته الخاصّة.
ومن يقرأ بداية الكتاب تطل عليه بشكل لافت قصة المصور الفوتوغرافي راسل، الذي استطاع من خلال التقاط اللحظات، توثيق مدينة بوينس أيرس بأكملها على شكل مصغّر، قبل أن تتغير معالمها بفعل العوامل الطبيعية. فهذا الرجل يعيش في المكان الذي يشكل فيه واقعًا كان وانتهى، فلم يبق له في عزلته في ذلك المتحف إلا تلك الذكريات والصور عن المدينة الأصليّة، وقد جعل هذا المصور بيته مؤهلًا لزيارة المتحف المصغر الذي يستقبل فيه شخصًا شخصًا، ربّما ليحافظ على جوّ من الهدوء والعزلة.
المتأمّل في شخصيّة هذا المصوّر المدعو راسل، وهو يعيش في عزلته، يلاحظ أنه يشترك مع الكتاب والمبدعين في عمله، عبر العناية بالتفاصيل، وإعاده خلق العالم. وكما الشعراء

والمبدعون الذين يصنعون عالمًا خاصًّا بهم بتحويل التشوّهات إلى جمال على شكل قصائد، هكذا فعل راسل، فالمدينة التي ما زالت في خياله جعل منها عالمًا خاصًا. وكأنه يعيد إنتاجها عبر استحضار المفقود منها من خلال ذاكرته. إنه المتأرجح بين الواقع والمتخيل، وهو الذي ينحت هذه المدينة على طريقته. هذه التفاصيل التي شاءها في صوره لا يمكن لكاتب حقيقي أن يهملها، ولا يمكن لمصور حقيقي أن يمرّ عليها مرور الكرام أيضًا. لقد صنع هذا المصور مدينة خارج الزمن تمامًا، كما فعل الأدباء والشعراء في تخليد عالمهم عبر العصور.
ثم ينتقل بيجليا إلى سؤال ما القارئ، متخذًا من بورخس مثالًا وهو يجلس في الباحة وبين يديه كتاب بالكاد يستطيع قراءته بسبب ضعف نظره، وكأن بورخس يحتفظ بهذه الصورة الأخيرة للحروف قبل أن يفقد بصيص نظره لتبقى مطبوعة في داخله. بورخس هو الكاتب والقارئ في آن معًا، فهو الذي استطاع العودة إلى نصوص وكتب كانت حاضرة في الثقافة، وجاء مبدعًا بما كتبه وفق رؤيته الخاصة وتجربته المختلفة.
القارئ الرؤيوي كسيرفانتيس يقرأ ويعرف طريقة العيش، فهو يبحث عن تجليات القارئ في الأدب، ويبحث عن الرؤى. إنه يقرأ ويجعل قارئه يتساءل أين ولماذا وفي أي ظرف وما هي حكاية الكتاب؟
كافكا الذي يعيش عزلته يدوّن تفاصيل حياته على شكل مذكرات، أو يوميات، يحدثنا عن المرأة التي أرادها أن تكون قارئة، وهي المساعدة والمعشوقة لاحقًا، وقد التقاها صدفة وكأنه كان على موعد مع اللامتوقع، عندما التقيا في بيت صديقه، فالآنسة فيليس تحوّلت إلى مرسل إليها، وكانت القارئة الأولى لمخطوطاته وكتاباته، وما لبث أن اكتشف أنها تستطيع نسخ ما يكتبه، فتحوّلت إلى المرأة الناسخة، إنها العين الثانية بعد الكاتب، وهي التي لا تخطئ في نظره، وهنا تولد فعل ثقة بينه وبينها. وقد مثلت دورًا مهمًّا في مجتمع لم يكن هناك دور للمرأة فيه، ولم تكن العدسة مسلّطة عليها.
تختلف طقوس القراءة مع غيفارا، حيث أنها فعل حياة، فالكتاب رفيقه، كما القلم الذي يدون فيه مذكراته، ولكن الوضع مختلف عنده، فالقراءة فعل حرية وتمرد على اللحظات والأمكنة المبتذلة والرتيبة. كان يقرأ ويكتب في العلية، وعلى الكنبة، وفي الهواء الطلق. غيفارا كتب يومياته ومذكراته، وكانت القراءة جرعة الحياة قبل التعرض لخطر الحرب والموت. القراءة عند غيفارا سلطة مضادة للموت، وهي تحمل ثنائية الانتماء واللا انتماء، إنه اللا انتماء إلى مكان واحد وعالم واحد، والانتماء إلى كل العالم، هكذا يكون الثائر والبطل الحقيقي.
مع "آنا كارنينا"، القراءة حرية أيضًا، فالمرأة المأسورة تقرأ في القطار، إنها تريد إنقاذ اللحظات الأخيرة مع سرعة القطار، وكأن القراءة والسرعة يسيران في اتجاه واحد، هكذا أراد تولستوي للمرأة أن تكون قارئة ما قبل الموت.
كيف صُنعت "عوليس" لجيمس جويس؟ بحسب بيجليا، عنوان هذا الفصل جاء تكريمًا للناقد والكاتب الروسي فيكتور سلوفسكي. هنا طرح العلاقة مع النص عبر معرفة مشكلات البناء، وليس مشكلات التأويل. جويس كان القارئ الذي أثار العديد في النقاد في مقارنتهم بين الأوديسة، وبين بعض فصول كتابه.
في هذا الفصل، أيضًا، ثمة إشارة إلى نابوكوف، الذي يميز بين القارئ الجيد والمثير للإعجاب، ويلفت إلى القارئ الذي يتماهى مع الكاتب، لا مع شخصيات الكتاب.
كان جويس يُعنى بالتفاصيل، يتتبع أثر الكتاب، ويطرح أسئلة حول فائدتها وقيمتها الفكرية

والمادية، في آن. عندما قرأ جويس فلوبير كان يتتبع الأخطاء، ويحاول تصحيحها.
فمن يقرأ "كيف صُنعت عوليس" يلاحظ ولوج الكاتب إلى عالم سري مليء بالرموز، منها مشهد العقاب عن الخطايا السابقة الذي استنتجه من مشهد الرجل الأعمى المار في الشارع متخطيًا خطر الطريق.
تتوازى أصول القراءة عند جويس مع الحركات الجسدية والأحاسيس، كما في مشهد "مولي"، وهي أنموذج المرأة الخائنة، وقراءاتها هابطة، فيصف حركاتها وسريرها والكتاب الذي رُمي ليلًا بعد الانتهاء من قراءته. هذا المشهد يسميه بيجليا "منزلي ـ جسدي". ولهذه القراءة تأثير في القارئ أيضًا، إنها كما يقول استعارة حيوات ممكنة مقروءة ترافقها الرغبة في تحقيقها، ويقارن الكاتب مولي بآنا كارنينا المرأة والزوجة الخائنة، لكن مستواها القرائي مختلف، وهذا يعود إلى الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها.
نلاحظ عند جويس القارئ في مكان الراوي، أي هو الوحيد الذي يمتلك مفاتيح رموز النص، وهذا هو القارئ الكامل.
يختم بيجليا أن هذا الكتاب مبني على أحوال متخيلة، وكتّاب نادرين، وهو مرتبط بأغنية من قصيدة لأوليفر وندل هولمز، وبذلك يعيدنا إلى بداية الكتاب وتقديمه. وتلفتنا عبارة يكتبها في الخاتمة، ربما تعيد اليقين إلى قارئ هذا الكتاب، وذلك عندما يقول إن القارئ الأخير هو الفارس الأخير المترجل، الذي يصل أخيرًا. وهكذا رافق الكتاب تجارب القراء، وعبَّر عن التوازي والتماثل بين القراءة والكتابة والحياة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.