}
عروض

"الرابع من آب 2020" لعقل العويط.. القراءة والمشهد البصري

ليندا نصار

28 يناير 2021

الثلاثاء الرابع من آب الساعة السادسة وسبع دقائق/ كنت تتنفسين ببطء/ تموتين ببطء/ يطلق الأطباء على تلك اللحظات/ تسمية الحشرجات... يسميها المؤمنون/ طريقًا/ يمهد سبل العبور إلى ضفة أخرى.
بهذه الأسطر ارتأى الشاعر عقل العويط أن يبدأ مجموعته "الرابع من آب 2020" الصادرة مؤخرًا عن شرق الكتاب. فالمتمعن في الديوان يلاحظ أنه عبارة عن قصيدة مطولة اكتفى الشاعر بعنوان وحيد لها ولم يضع عناوين فرعية أخرى وكأنه لا يريد لهذا النفس الشعري أن ينقطع. يقترب الشاعر في تمثيله الإبداعي الشعري من الملحمية التراجيدية لما في نصوصه من توصيف دقيق حيث تنتهي بيروت بمشاهد الدماء والحزن والدمار الشبيهة بالحرب. ويسير عمله في تواز زماني مبني على لحظتين: السادسة وسبع دقائق/ لحظة الانفجار، وبعد السادسة وسبع دقائق/ بعد الانفجار، هذه المسافة الزمنية الفاصلة احتوت فصولًا للموت وتوثيقًا له. فالمدينة التي عرفها الشاعر شبه المقيم يوميًّا في مبنى "النهار" وسط بيروت، قد حافظت على فستانها وأناقتها برغم ما أصابها من حروب، وهي التي لم تلطّخ بالدماء كما حدث في الرابع من آب 2020 إثر انفجار المرفأ، وذلك يوضح إيمان الشاعر بقوة المدينة التي لطالما كانت لها مكانة عظيمة عبر التاريخ وتفلّتت من كلّ من حاول المسّ بها. انطلاقًا من هذا المنحى الابتكاري يمكن الإقامة في ذاكرة اللحظة الفاصلة بين الوجود والعدم، بين بيروت التي كانت حية وتموت ببطء في ظل الأوضاع الصعبة، والانفجار الذي حلّ عليها، ففقدت أشياء من ذاتها ولم تمت. فيخاطبها قائلًا:
ستموتين كثيرًا وفي كل وقت لكنك لن تكوني حصة أحد.
ما أجمل مراسك الصعب وأنت على فراش الموت.
إياك أن تستسلمي يجب ألا تموتي.

 

في نظرة إلى صورة الغلاف للفنان إميل منعم والتي تشكل بوّابة الدخول إلى الديوان، تثير الألوان انفعالات القارئ في تصوير دقيق للحادثة من خلال الرمادي المكسو باللونين الأحمر، لون الدم، والأسود في دلالة إلى بيروت التي اتشحت بالسواد لحظة انفجار المرفأ.


الشاعر لم يوثق اللحظات فقط بل كان الذاكرة الراوية لأصعب المشاهد ويظهر كأنه يطرح نبوءة جديدة أو يكتب سفرًا جديدًا لبيروت المناضلة التي قد تعرف قاتلها
ذات يوم وستنهض أقوى مما كانت عليه



وبالعودة إلى الديوان، يحيلنا الشاعر إلى انفجار المرفأ ويصف طبيعة العلاقة التي تربطه بها فيدخل في حوار داخلي ومناجاة لبيروت التي باتت تحتاج إلى ذرات من التعاطف مع خيباتها ومعاناتها المؤجلة بشكل موقت، فبعد كل الأوضاع التي واجهتها خلال العام الماضي، ما لبثت أن استحالت ركامًا، من هنا تتجلى قوة وصف الحالة النفسية الإنسانية مقترنة بحالة بيروت.
كيف أصفك / يا بيروت/ قبل الساعة السادسة وسبع دقائق/ كيف أصفك/ بعد الساعة السادسة وسبع دقائق/ كل ما في الأمر أني كنت ميتًا / كيف لميت أن يصف.
ويتابع الشاعر مناجاة بيروت بالإصرار على تكرار ضمير المخاطب فينتقل من الخاص (بيروت): وأنت من أنت، من أنت؟ إلى العام (لبنان): من أنت من أنت أيها البلد القتيل؟
يصوّر عقل العويط المدينة بكل تفاصيلها فلا يهمل هوامشها حتى ويحيل قارئه إلى العالم المرئي ثم يدخله إلى بواطنها ليؤكّد له جمال هذه المدينة التي تحوّلت إلى شخصية أو امرأة خائفة ممن يحاول اغتصابها بعد أن وصلت إلى أقصى درجات الضعف.
يمتلك عقل العويط أدوات الكتابة بوصفه شاعرًا متفرّدًا له تجربته المختلفة، وليس جديدًا عليه أن يأخذ القارئ نحو البحث عن مكامن الإبداع في كتاباته، والبحث عن لذّة القراءة، خصوصًا وأنّه يكاد لا يمرّ سطر إلا وترى فيه عناية كبيرة بالصورة الشعرية التي تدعوه إلى تأويلها.
في الديوان محاكاة وتأمّل في تشقّقات المدينة التي بدأت تعيش عزلة مفروضة عليها بعد الانفجار فيصوّر الوحدة التي تعيشها من خلال صوت المطر الذي يتساقط على أنقاض التنك في المرفأ، وهنا براعة التصوير الذي أتقنه الشاعر على نحو شعري فني، فيقترن فعل القراءة بالمشهد البصري لتكتمل الصورة في الأذهان.
يسير الديوان في حركة تصاعدية من العالم في الأسفل إلى العالم العلوي، فالذين تطايرت أشلاؤهم في انفجار الرابع من آب، لا بدّ لهم من العبور إلى الضفة الأخرى، كما يسميها الشاعر، حيث الراحة.
لم يفت الشاعر توظيف التناص الديني خصوصًا عندما يشير إلى الأسماء الدينية التي وردت في الكتب المقدسة، فمن المسيح الذي يهدّئ العاصفة، إلى السمك الوفير في زوارق الصيادين، إلى مشهد القيامة، ثم إلى ذكر اسم يوحنا، تلميذ السيد المسيح ومريم أمه، بل يأخذنا عبر التاريخ ليذكرنا بهابيل الذي قتل أخاه، وكأنها دعوة للتساؤل والبحث عن قاتل بيروت، ولهذه الأسماء كلها قصص ووقائع تحمل أبعادًا تاريخية: "قتلاك لن يذكروا في كتاب كمن علّق على خشبة ودحرج، من ثم في اليوم الثالث حجرًا على قبر".
تقترن اللغة الشاعرية بالصوغ الجمالي الذي يواكب الأحداث الطارئة على المرفأ الذي لطالما شكّل أهميّة كبيرة بالنسبة إلى الدول العربية والغربية. تتأتّى هذه الشاعرية من الذاكرة الشاهدة المتفجرة بالأحداث التي أسعفت الشاعر في ترميم أعطاب بيروت فكان هذا الاختيار الجمالي، بحيث يتخذ عقل العويط دور الراوي والرائي في آن، ولا يعدّ نفسه شاهدًا وهو لا يكتفي بوصف المشهد، كما يقف موقف النبي وكأنه على يقين بأن بيروت لن تموت، بيروت لن تكون لأحد مهما تنازعت عليها الأيادي السوداء، وأنها ستنهض مهما تدمرت. يصف الشاعر الممرضة التي تلوح بيدها والإسعاف الذي لم يهدأ عويله ورجال الإطفاء الذين استشهدوا عن طريق التضحية والطفل التائه والأم التي تبحث عنه: "ما الذي يجعل طفلًا يرتد عن ثدي أمه الحليبي ليلعق ترابًا مضرجًا بالزجاج".

تقترن اللغة الشاعرية بالصوغ الجمالي الذي يواكب الأحداث الطارئة على المرفأ الذي لطالما شكّل أهميّة كبيرة بالنسبة إلى الدول العربية والغربية

 

 لوحة تعبر عن أحداث مرفأ بيروت للتشكيلية فاطمة ضيا 







هنا كل شيء صار ضبابيّ الرؤية والكل يبحث بين الأنقاض ولا شيء مؤكّدًا. وقد التحقت الكتابة بهذا المشهد وانهارت بفعل الانفجار: "انهارت شاشة الحاسوب المتأهبة عادة للكتابة". هذا الانفجار الذي حلّ ضيفًا ثقيلًا دمويّا على أكتاف المدينة سلبها نورها واستبدله بنار تضيء بشكل موقت لتبتلع كل ما فيه في تصوير عميق لحيوات شخصيات كانت حاضرة لحظة الانفجار بأسلوب يتداخل فيه السردي بالشعري فانتهت الحدود بين الأجناس عنده.
تعيدنا ذكرى هذه الحادثة في الذاكرة إلى عام 2005 الذي كثرت فيه الانفجارات، وكأنّ هذه المرحلة جاءت لتكمل فصول الموت القديمة، فيصوّر الشاعر اللوحة التي طارت من مكانها واستقرت عند مكتب الصحافي سمير قصير بعد أن قذفها الانفجار.
الشاعر لم يوثق اللحظات فقط بل كان الذاكرة الراوية لأصعب المشاهد ويظهر كأنه يطرح نبوءة جديدة أو يكتب سفرًا جديدًا لبيروت المناضلة التي قد تعرف قاتلها ذات يوم وستنهض أقوى مما كانت عليه: ستدفنينهم واحدًا واحدًا بالطريقة التي ترينها مناسبة.

يسير الديوان في حركة تصاعدية من العالم في الأسفل إلى العالم العلوي، فالذين تطايرت أشلاؤهم في انفجار الرابع من آب، لا بدّ لهم من العبور إلى الضفة
الأخرى، كما يسميها الشاعر، حيث الراحة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.