}
عروض

"الإنسان العاري.. الدكتاتورية الخفية الرقمية".. محو الهوية الإنسانية

وداد نبي

5 يناير 2021

عالم البيغ داتا و"الإنسان العاري"
إنه عالم مرعب. عالم البيغ داتا (مدونة المعطيات الشاملة)، الذي يفقد فيه الإنسان الحديث زمام كل أمور حياته، ويتحوّل إلى مجرّد مستهلك بائس، وإنسان عار من قيمه، بلا غطاء وخصوصية، مجرّد متلق ومنتج للمعلومات التي تستخدمها الشركات الرقمية لمصالحها. إنه عالم التكنولوجيا الحديثة، العالم الرقمي الذي يتحكّم في العالم من خلال نظام الديكتاتورية الرقمية الخفية، فيتم محو الهوية الإنسانية، والفضاء الحميمي المرتبط بها، لصالح الهوية الرقمية التي تريد السيطرة على العالم بأكمله. هذا ما يؤكده مؤلفا كتاب "الإنسان العاري.. الدكتاتورية الخفية الرقمية"، لمارك دوغان، وكريستوف لابي، الصادرة ترجمته العربية عن المركز الثقافي للكتاب في 192 صفحة، بتوقيع سعيد بنكراد.
في هذا الكتاب تأكيد مستمر لما تفعله في الخفاء شركات التكنولوجيا الحديثة، فيسبوك، تويتر، أمازون، وغوغل، من محو للذاكرة الإنسانية، وإلغاء الخصوصية من حياة الأفراد، عبر جعلهم مجرّد مستهلكين لتلك التطبيقات الحديثة، فهناك تلك اليد الخفية التي تسحب من الإنسان ميزته الإنسانية، حيث "لا يجب أن يخفي الوعد بحياة أفضل، كما أشاعته الثورة الرقمية، الثمن الباهظ الذي علينا دفعه. ذلك أن إنسان المعطيات الشاملة، المتصل باستمرار، سيعيش كليًا تحت نظرة أولئك الذين يجمعون من دون كلل معلومات حوله. سينكبون على ملفنا الفردي، على كل حميميتنا وعاداتنا وسلوكنا وصورنا التجارية والسيكولوجية والأيديولوجية، كما عشناها على امتداد حياتنا"، كما جاء في الكتاب.
وهو ما أكده مؤخرًا فيلم "المعضلة الاجتماعية" المنتج من قبل شبكة نتفليكس، حيث كانت آراء المشاركين في الفيلم داعمة لكل ما ورد في هذا الكتاب من دون ذكره. يظهر الفيلم مدى تأثير

الشركات الرقمية الجديدة مثل فيسبوك، وتويتر، وإنستغرام، على الحياة الفردية والشخصية، وكيف أن تلك التطبيقات وراء زيادة العنف والعنصرية والإدمان والاكتئاب المتوّلد من توحد الفرد مع العالم الافتراضي، المدعم بخوارزميات مستخدمة لجعل الفرد يكرّر زياراته لتلك المواقع بعيدًا عن العالم الحقيقي. حتى أنّ شركة فيسبوك اضطرت إلى تقديم تكذيب لفيلم "المعضلة الاجتماعية"، وردَّت على عدّة نقاط طرحها الفيلم. إلا أن المثير في هذا الكتاب هو غوصه عميقًا في ما تخلّفه هذه الشركات الرقمية من كوارث نتيجة استخدامنا لها، من فقداننا للحرية والديمقراطية والمواطنة، وهي المفاهيم التي نشأت من أيام الإغريق، وتطورت مع مسار البشرية الطويل والشاق، فنحن نبادل تلك القيم القديمة بحياة طويلة، وأمن جسدي ومادي تعدنا به الشركات الرقمية الحديثة.
ويركز المؤلفان على الفكرة التي تشكل خطرًا على الحرية، ونعني بذلك ربط مكافحة الإرهاب بالمعلومات والمراقبة الشاملة، وهو الأمر الذي تبنته الولايات المتحدة، وعدد من الدول الأوروبية. تلك المراقبة والتجسس على المعلومات هي ما منحت تلك الشركات والدول مقدرة أكبر على السيطرة، فالعالم كله يخضع اليوم لآليات التنصت والمراقبة الإلكترونية، بحجة القضاء على الإرهاب، رغم أن التجارب تؤكد أن هذا النوع من المراقبة لم يمنع حدوث هجمات إرهابية مقارنة بالثمن الكبير المدفوع من الحريات العامة. لكن الإعلام الذي يركز على قتلى العمليات الإرهابية في الإنترنت هو الذي نفخ على جمر الإرهاب، حيث يرد في الكتاب "خلفت العمليات الإرهابية التي وقعت فوق التراب الأميركي بين 2001 و2013، ثلاثة آلاف قتيل، في حين أن عدد الذين قتلوا بالرصاص فيها يناهز أربعمئة ألف في الفترة ذاتها".


كائنات تحت المراقبة المطلقة
يلفت الكتاب إلى أن العلاقة الوثيقة بين الشركات الرقمية والاستخبارات الأميركية تجعل الولايات المتحدة هي من يتحكم في عالم المعلومات اليوم، حيث أن آبل، ومايكروسوفت، وغوغل، وفيسبوك "يمتلكون 80 بالمئة من المعلومات الشخصية الرقمية للإنسانية". فالديمقراطيات في العالم سوف تتلاشى تحت حصار هذه الشركات لكل القيم الحديثة، من

مواطنة، وحريات، وتفكير نقدي، وديمقراطية.
فالاستلاب المطلق هو ما تمارسه تلك الشركات علينا، والواقع الحقيقي الذي نعيشه أصبح لا يشبهنا، فنحن اليوم أسرى للصورة، مجرّد أشباح تتجول في عالم افتراضي، حيث نعتقد أنّ الأصدقاء الافتراضيين أصدقاء حقيقيون، وأن مجرّد اتصالنا بالإنترنت يجعلنا نتوهم أننا في وسط اجتماعي، وأننا حقيقيون، نرتبط بعلاقات اجتماعية وعاطفية. أصبحت الصورة هي القيمة المطلقة لحياتنا، فلا لحظة تمر من دون أن نوثقها بصورة، وإذا لم توثق وتنشر على تلك التطبيقات، وتشارك مع الآخرين، يشعر الأفراد أنهم لم يعيشوها، يستحوذ عليهم شعور واهم بأنهم غير مرئيين إن لم يوثقوا كل شيء من خلال فيسبوك، وإنستغرام، أو تويتر.
لكن الحقيقة، كما يرى المؤلفان، أننا نفقد حقيقتنا، جوهرنا الإنساني. ونتحول إلى مجرّد أشباح مزيفة لا تعي ذاتها ووجودها إلا من خلال عدد النقرات التي تضغطها، فكل شيء، كل نقرة، كل صفحة ندخلها، مبرمجة ومراقبة وموثقة. نعتقد أننا أحرار في تصفح ما نريده. لكننا في الواقع موجَّهون. وكل مستخدم يرى على الصفحة الرئيسية شيئًا مختلفًا عن الآخر، بناء على المعطيات التي سجلها لأول مرة، وعدد ونوع نقراته. كل ما تقترحه هذه الوسائل تناسب ذوقه، وبالتالي تحاصره في دائرة مغلقة وضيّقة ومحدودة بما يريد رؤيته، فاللوغاريتمات غير محايدة، وهو ما يخلق مع مرور الزمن أفرادًا غير قادرين على التفكير النقدي، أفرادًا لا يؤمنون بالاختلاف، ويصبحون منعزلين وخاضعين للديكتاتوريات الرقمية أكثر في ظل غياب بيئة نقدية واجتماعية حقيقية. إن الوحدة والتقوقع على الذات تؤدي بالبشر إلى الفناء، لأن البشرية تطورت بفضل التضامن والذاكرة والاختلاف والتفاعل مع المحيط، غير أن الإنسان في عالم البيغ داتا يتقوقع على نفسه، وينعزل، ليصل مرحلة الانهيار النفسي والعصبي.


سوق نخاسة رقمية
يشرح المؤلفان أن الهوية الرقمية لكل فرد في هذا العالم الرقمي تباع مرات لا حصر لها، حيث كل معلومة تخص أي شخص من مستخدمي هذه الوسائل لها قيمة مادية، وكأننا في سوق نخاسة رقمية.
أما الخطر القادم في السنوات التالية فهو أن الذكاء الاصطناعي سيدخل في مواجهة مع الإنسان

في سوق العمل، فهو يستولي رويدًا رويدًا على المهن التي تقوم على الجهد البشري، ليترك أصحابها عاطلين عن العمل، من دون تقديم بدائل لهم، في حين تدّعي الشركات الرقمية أن الآلة والذكاء الاصطناعي لن يسرقا سوق العمل من العاملين. ويستشهد المؤلفان بما حدث مع شركة كوداك، التي كانت الرائدة في التصوير في العالم، حيث أعلنت إفلاسها عام 2012. كانت الشركة تشغل سابقًا 140000 شخص. حلّت مكانها إنستغرام، وفقد عمالها وظائفهم من دون الحصول على فرص أخرى. وليست المهن اليدوية هي الوحيدة المهددة بالزوال أمام الذكاء الاصطناعي والرقمية، إنما أيضًا مهن إبداعية مثل الكتابة أيضًا، ربما ما شاهدناه مؤخرًا من قيام الروبوت المتطور جي بي تي- 3 بكتابة مقال صحافي في جريدة الغارديان، ومحاولة إقناع الإنسان أن الروبوتات تأتي بالسلام خير، مثال على ما قصده المؤلفان في كتابهما.
في النهاية، يؤكد المؤلفان أن هناك أملًا بجعل الإنسان مرة أخرى مركز الثقل في العالم، بالتحرّر من هيمنة وسائل التواصل والشركات الرقمية، ومقاومتها عبر تدريب الذات على قطع الاتصال حين لا يكون هناك ضرورة، وتفعيل آليات المقاومة التي يكون منها "العودة إلى النصوص الإغريقية، تلك الأسس التي نشرت قيمًا كونية تعتبرها البيغ داتا عتيقة"، كما جاء في الكتاب.


(برلين)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.