}
قراءات

"معجم بورديو الدوليّ".. مساهمة في نظرية المعرفة

إدريس الخضراوي

18 أكتوبر 2021
"معجم بورديو الدولي"


بين الجهودِ الكثيرة التي بُذلت منذ مُنتصفِ القرن العشرين لتطوير النظرية الاجتماعية بشكل "لا يلائم المخططات التي دأبت العلومُ الاجتماعيةُ على التلهّي بها"(1)، يَحتلّ عملُ بيار بورديو (1930 ـ 2002) حتى اليوم مكانة متميزة، كما يَدلّ على ذلك إنتاجهُ الضخمُ والمثيرُ للجدلِ. ولعلّ ما يُؤكّدُ مكانة بورديو كواحد من ألمع مفكّري القرن العشرين، ليس هو فقط كونهُ يُعدُّ من زمرة المفكرين الذين ينتمونَ إلى ما يسميه إدوارد سعيد "الفكر المعارض"، إذ بالإضافة إلى كونه عالم اجتماع يَتمتعُ بشهرةٍ واسعةٍ، فهو مثقفٌ لامع ارتبط نشاطهُ الفكري بالأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى التي شهدها المجتمع الفرنسي، بما في ذلك ثورة التحرير الجزائرية، وثورة 1968، وإضرابات (دجنبر/ ديسمبر 1995)، وإنما أيضًا لكونه ينتمي إلى جيلٍ من المثقفين الذين برزوا من "تلاقح ثوري غريب بين تيارات باريسية امتزجت فيها الإستطيقا بالسياسة، وأنتجت في حوالي ثلاثين سنة كمًّا كبيرًا من العمل الباهر الذي لا يُحتملُ أن نرى مثيلًا له على مدى أجيال قادمة. فقد جرى تخطي الحدود بين الحقول الدراسية، بل بين اللغاتِ، في حركة كانت أشبه بالانقلاب الحقيقي في الفكر المعاصر، ثم أعيد بناء تلك الحقول بدءًا من أسسها، وصولًا إلى أعقد ما في بنيتها العليا... لقد بدا أنهم جميعًا تأثروا بماركس تأثرًا عميقًا، وكذلك بفرويد على نحو متفاوت. وكانت غالبيتهم من ذوي الحنكة في الأساليب البلاغية، وتشغلهم اللغة بوصفها طريقة في رؤية الواقع، إن لم نقل في تشكيله"(2).
اشْتهرَ مُؤلفُ "مشروع نظرية في الممارسة" بنظريته حول الهيمنة وإعادة الإنتاج التي تأسّس صَرحُها على مَجموعةٍ من المفاهيم الأساسية، كالهابيتوس، والرأسمال (الاقتصادي، الثقافي، الاجتماعي)، والحقل والعنف الرمزي. ورغم الاستقبالِ الواسعِ الذي يَتمتعُ به عملهُ في عديد اللغات التي تُرجمَ إليها، ومن بينها اللغة العربية، وتعدّد الكتابات المكرّسة لنظريته الاجتماعية وافتراضاتها الأنثربولوجية والفلسفية، فضلًا عن الأعمال الكثيرة التي ما فتئت تَستثمرُ أدواته ومفاهيمه، فإنّ الحاجةَ إلى الإضاءة على جوانب مختلفة، سواء من سيرته الفكرية، أو من عالمه الاجتماعي، لا تزالُ ماسة، وهذا ما تُؤكدهُ الإصداراتُ العديدةُ التي تتناولُ بُحوثهُ، أو تَستثمرُ منظومته الاصطلاحية التي تَنفتحُ على تخصصات مختلفة، وكذلك الموسُوعات والمعاجم المكرسة لشرح نظريته والإضاءة على المفاهيم الأساسية التي اشتغلَ بها، والنظريات التي حاورها والمؤسّسات التي تفاعل معها.




من هذه الزاوية، تبدو العودة إلى النظرية الاجتماعية لكاتب "قواعد الفن"، وهي نظرية يُمكنُ القولُ مع فيليب راينو إن "واحدة من الأشياء التي يُمكنُ أن تلقي الضوء عليها بشكل أفضل هي موقعه في المجالات العلمية والفكرية الفرنسية. فعلى عكس العديد من زملائه الذين أتوا من الفلسفة مثله، استخدم بورديو ثقافته المبكرة بشكل مكثف من خلال تسليط الضوء بمهارة على الأسئلة الرئيسة المألوفة لجمهور فلسفي معين، وبالتالي يبدو أنه نموذج الفيلسوف الذي يَنجذبُ إلى علم الاجتماع"(3). لنقل إن العودة إلى نظريته في هذا الوقت ضرورية لفهم الراهنية التي تَتمتعُ بها، والقدرة التي تنطوي عليها مفاهيمه في تحليلِ المجتمعات المعاصرة، والإجابة على مجموعة من الإشكاليات السياسية والاجتماعية والثقافية المعقدة التي تواجهها. ولما كان عَملُ بورديو يتأبّى على كل مُحاولاتِ تجاوزهِ، أو الالتفافِ عليه، فإنه في الإمكانِ أن نَفهمَ الاهتمام الواسع به في دوائر العلوم الاجتماعية في مناطق مختلفة من العالم، والتفكير المستمرّ بأدواته التي تأبَى "الانحناء للقوالب الجاهزة التقليدية في بناء النظريات السوسيولوجية"(4).
ومن بين الأعمال المرجعية الحديثة التي تكرّست للاقتراب من نظريته في مسعى للإضافة إلى صرحها، العملُ المحكم الذي اضطلعت بتحريره الباحثة الفرنسية، جيزيل سابيرو/ Giselle Sapiro بعنوان: معجم بورديو الدولي(5)Dictionnaire international Bourdieu الصادر حديثًا (2020) عن المجلس الوطني للأبحاث العلمية (CNRS) في (964 صفحة) من القطع الكبير.

جيزيل سابيرو،  محررة "معجم بورديو الدولي"


تُعرفُ جيزيل سابيرو، مديرة الأبحاث والدراسات في المجلس الوطني للأبحاث العلمية، وكلية الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في فرنسا، بأعمالها الأساسية المكرّسة لسوسيولوجيا الأدب، ومنها: "هل يُمكنُ فصل العمل عن مؤلفه؟" (2020)، "الكتّاب والسياسة في فرنسا" (2019)، "سوسيولوجيا الأدب" (2014)، "مسؤولية الكاتب" (2011)... إلخ. تهتمّ سابيرو أساسًا بالحقل الثقافي، وترجمة العلوم الإنسانية في السّياق الأوروبي، كما تهتمّ بهجرة الأعمال والمفاهيم والنظريات، وخاصة في ما يَتعلقُ بالكتّاب والأدب. وفي جوابها عن سؤال لماذا معجم بورديو الدولي؟ تُشدّدُ في مقدّمة الكتاب على أن هذا المعجم الموسوعي بالرغم من كونه يسعى إلى تقديم العالِم وإسهاماتهِ المختلفة، فإنه لا يرمي إلى الحدّ من التأويل الغزير الذي يُولّدهُ فِكرٌ لاَ تَزالُ الأعمالُ حوله تَصدرُ بشكل دائم، بل يسعى، من خلال عملٍ جماعي يَستلهمُ من مفهوم "المثقف الجماعي"، وهي الصيغة المفضلة من قبل بورديو، إلى فتح مجالات البحث ليس فقط في ما يَرتبطُ بنشوء عمل بورديو وتلقيه، وإنما أيضًا في ما يَتصلُ بالتيارات الفكرية والباحثين الذين حاورهم، والمؤسّسات التي زارها. وعليه، فهذا المُعجمُ الذي يُمثلُ مرجعًا أساسيًا يَتميزُ بكونه متعدّد التخصصات ودوليا، وهو يستمدّ هذه الميزة من خلال منهجه، ومن خلال الكتّاب المشاركين في تأليفه وعددهم 126 كاتبًا، يَنحدرونَ من 20 دولة، ويُمثلونَ أربعة أجيال من الباحثين. إنه عَملٌ يَندرجُ في إطار تصور مزدوج: بيداغوجي وتأملي. فليس المقصود به أن يكون مقدمة لعلم اجتماع بيار بورديو وحسب، بل يُقصدُ به أن يكون أيضًا مُساهمةً في نظرية المعرفة وتاريخ العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولما كانت المواد الخاصّة بالمداخل تَجمعُ بين معالجة المفاهيم والهدف التعليمي، فإن ما يُميزُ هذا المعجم كذلك، هو أنه يتوجه إلى الطلاب والباحثين من مُختلفِ التخصصات الذين يرغبون في اكتشاف هذه السوسيولوجيا ذات التأثير الهائل الذي لم يضعف مع الزّمن، وتَعميقِ المعرفة بالعمل والمناقشات النقدية التي أنتجها، مع عينات من السيرة الذاتية لبورديو مثل شغفه برياضة الروغبي، أو حلمه بأن يُصبحَ قائد فرقة موسيقية، وعلاقاته مع أساتذته، والجمعيات والمراكز التي أسسها، فضلًا عن التزامه السياسي.




قبل الحديث عن مداخل المعجم وموادّه، لا بدّ من الإشارة إلى النبذة المكثفة عن بورديو التي ركزت فيها جيزيل سابيرو على إبراز محطّات مفصلية من سيرته الفكرية، بدءًا من الأبحاث التي أنجزها كعالم إثنولوجي عن الجزائر والمجتمع القبائلي في منتصف الخمسينيات، وهي أبحاث يرى أكسيل هونيت أنها "كانت مطبوعة بالقناعات الأساسية للأنثربولوجيا البنيوية"(6)، إلى المرحلة التي بات فيها مثقفًا عالميًا، وأخذ استقبال أعماله أبعادًا واسعة مع صدور كتابه "La Distinction" في ترجمة إلى اللغة الإنكليزية عن مطبوعات هارفارد الجامعية (1984). وبعد أن كان استقبال بورديو مقتصرًا على الأعمال التي اهتمّ فيها بسوسيولوجيا التربية والفن والثقافة، فإنّ هجرة نُصُوصِهِ إلى ثقافات أخرى، وانخراطَهُ، من مَوقعِ المثقف الملتزم، في القضايا الكبرى بما في ذلك نقدهُ لوسائل الإعلام والليبرالية الجديدة والعولمة، سَيجعلُ منه أحدّ أهم مُنظّري العالم الاجتماعي، كما سيدفعه إلى التفكير في ما يَكتنفُ انتقال المفاهيم والأفكار من إشكاليات معقدة. وتبدأ هذه المرحلة من الثمانينيات إلى آخر درس قدمه بالكوليج دو فرانس خلال سنة (2000 ـ 2001)، مرورًا بـأبحاثه ونظرياته المختلفة، كالهابتوس، والسّلطة الرمزية، والرأسمال الثقافي، ونظرية الطبقات الاجتماعية، ونظرية الحقل، ونظرية العنف الرمزي. من هنا، تستنتجُ سابيرو من تعقب مساره الفكري في مرحلته الأخيرة ما يلي: "في تقليد المثقفين الفرنسيين، منذ فولتير، وإميل زولا، وجان بول سارتر، وميشيل فوكو، يُسخّرُ بورديو رأسماله الرمزي لخدمة القضايا السياسية باسم المبادئ الكونية. وبخلاف سارتر الذي يجسّد نموذج "المفكّر عامّ الثقافة"، يَتدخلُ بورديو بصفته "مفكّرا محدّد الثقافة"، وفقًا لتعريف فوكو، من خلال توجيه قدراته وإمكاناته الفكرية نحو الاهتمام بمجالات اختصاصه بوصفه عالم اجتماع" (ص24).
على هذا الأساس، يبدو أن الإلماع في هذه السّيرة المكثفة إلى الأفكار الكبرى الجامعة لمكونات هذا المشروع واهتماماته المتعددة، هو ما يُتيحُ، أولًا، وَضعَ عمل بورديو في السّياق الذي يُساعدُ على فهمه، والتعرّف، ثانيًا، على امتداداته في الثقافات المختلفة.
إذا ولينا الرؤية شطر المعجم، فإن ما يسترعي الانتباه هو تَشديدُ المحرّرة على أن هذا العمل لا يدّعي القدرة على تقديم إحاطة شاملة بمنجز بورديو، أو أن يَحلّ محلّه، كما أنه لا يرمي إلى ملء البياضات المختلفة التي ما فتئ يُولّدها، بل يَهدفُ أساسًا إلى بلورة منظورات للبحث في المستقبل انطلاقًا من حالة من المعرفة، وفتح المجال واسعًا لمزيد الأسئلة التي من شأنها أن تُساعدَ على تبديد الغموض الذي تتدثرُ به نُصُوصُه. وكما يقولُ جون ليشته: "نظرًا إلى التعقيد الذي يُميّزُ عمل بورديو، فهنالك على الدوام خطر إساءة فهمه. لذا من الضروري قراءة أعماله الكاملة بعناية ـ العناية نفسها التي أولاها هو نفسه إلى كتاباته"(7).


مجموعة من المعطيات التي لم يسبق نشرها

بيير بورديو عالم الاجتماع الفرنسي في مظاهرة داعمة للعمال العاطلين عن العمل في باريس/ فرنسا (16/ 1/ 1998/Getty)


ثمة اعتبارات عديدة تعطي هذا المعجمَ قوتَه وضرورتَه بالنسبة للباحثين والمهتمين بالمشروع البورديوي. ومن ذلك، كما تَقولُ سابيرو، صُدورُ أعماله منذ 2012، وخاصة دروسه بالكوليج دو فرانس عن الدولة والسوسيولوجيا العامة والأنثربولوجيا الاقتصادية، حيث يُناقشُ بمزيد من التفصيل مجموعة من المؤلفين الأساسيين، ويُوضحُ موقعه الفكري. وهذا ما يُوفّرُ، بالإضافة إلى تزايد الاهتمام بعلم الاجتماع على الصعيد العالمي، مادة مهمة لتحديث الرّؤيةِ وتعميقِ المعرفة بالنشوء الاجتماعي للمفاهيم. إذًا، يتميز المعجم، وفقًا لسابيرو، باعتماده مقاربة سوسيوتاريخية تَجدُ مُرتكزَها في البحث الذي كرّسه بورديو للمجال الأكاديمي، وأيضًا العمل الفردي والجماعي الذي أنجزه ضِمنَ المركز الأوروبي للعلوم السياسية. وإذا كان من هذا الجانب يَختلفُ عن المعاجم المنجزة حول كاتب "العنف الرّمزي"، مثل "معجم بورديو" (2010)، وهو عمل مميز أنجزه كل من ستيفان شوفالييه، وكريستين شوفيريه، فإنه يَستفيدُ أيضًا من قاموس بورديو (2017)Vocabulàrio Bourdieu، الذي أشرفت عليه الباحثة البرازيلية أفرانيو مانديس كاتاني، أستاذة التربية في جامعة ساو باولو. ولما كانت المفاهيم ليست أشياء ولا تمثيلات للأفكار الثابتة، وهو ما يَفرضُ بالضرورة الوعي بالتغيرات والتحولات التي هي موضوعها، خاصة في مجال العلوم الإنسانية، فإن التحديث على صعيد المعالجة الذي يُميزُ معجم بورديو الدولي يتجلّى في اهتمام الباحثين المشاركين في تأليفه بالتركيز على إبراز الشروط والأوضاع التي أدت إلى نشوء عمله، والتطورات والمراجعات، وأشكال النقد والاستثمار، سواء التي قام بها بورديو بنفسه، أو التي أنجزها باحثون آخرون ضمن فريقه، ومن خارج الفريق أيضًا، من فرنسا، ومن باقي دول العالم. وهذا ربّما ما يفسّر كون المعجم "يتضمنُ مجموعة من المعطيات التي لم يسبق نشرها، مستمدّة إما من الأرشيف، أو من الحوارات التي أنجزت معه" (ص8).




يحتوي المعجم على 646 مدخلًا، وتَظهرُ قائمتها الكاملة في نهاية المجلد، كما يَضمُّ ببليوغرافيا واسعة تتكون من إصدارات بورديو (الأعمال، والأنطولوجيات الصادرة باللغات الأجنبية، بالإضافة إلى المقالات، وفصول من كتب، وحوارات ومراجعات)، وأيضًا الأعمال التي تكرّست له ولعمله والصادرة بلغات مختلفة: الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والألمانية.
تُركّزُ المداخلُ على المفاهيم وموضوعات البحث والتخصصات والتيارات الفكرية والنماذج والنظريات التي حاورها بورديو، كما تُركزُ على الكتاب المفضلين لديه، وعلاقته بمعاصريه، فضلًا عن أعماله والمؤسّسات التي انتمى إليها، والمجلات والسلاسل العلمية والجمعيات التي أسسها، والأحداث الكبرى، كالثورة الجزائرية، وثورة ماي 1968، وإضرابات (دجنبر/ ديسمبر) 1995، التي يرتدّ إليها ظُهورهُ في مسرح الإعلام والسياسة، كما يُشيرُ إلى ذلك بيار مونييه: "منذ هذه الأحداث، التي ساعد في تنظيم تأثيرها في النقاش الفكري الفرنسي، نمت شهرته بشكل مطرد"(8). بالإضافة إلى البلدان الرئيسة التي استقبلت أعماله؛ من الولايات المتحدة الأميركية، إلى الصين واليابان، مرورًا بأميركا اللاتينية، والعالم العربي، والدول الأوروبية. ومن أجل تقديم رؤية شاملة عن هذه المداخل، عملت المحرّرة على تقديمها على شكل صنافات تضم: المفاهيم، الشخصيات، الموضوعات والتيمات، الأعمال، الأماكن والمؤسسات والمجلات، التيارات والنماذج الفكرية، البلدان والمناطق والمدن، المناهج والمقاربات، التخصصات والتخصصات الفرعية، الأحداث واللحظات والفترات. ولهذا التقسيم، كما تقول سابيرو، وظيفة توجيهية فقط؛ ذلك لأن "تيارًا فكريًا يُمكنُ أن يؤخذ بوصفه مكونًا للنظرية، أو مفهومًا مستمدًا من مقاربة معينة، وغالبًا ما تكون المؤسسات التي تفاعل معها بورديو موضوعات للبحث، كما أن الثقافات والمهن تُشكلُ في الوقت ذاته موضوعات ومجالات تخصص (علم اجتماع الثقافة، الدراسات الثقافية، علم اجتماع المهن،... إلخ" (ص8).
إذا فكّرنا على سبيل التمثيل في مدخل المفاهيم التي تُشكّلُ ثلث الموادّ التي يتضمنها المعجم (213 مادة)، لوجدنا أنها تشملُ المفاهيم الأساسية للنظرية الاجتماعية ومجالاتها البحثية المختلفة: رأسمال (ثقافي، اقتصادي، سياسي، اجتماعي، رمزي)، هابيتوس، حقل (أكاديمي، الإنتاج الثقافي، القوة، الفكري، الصحفي، سياسي، ديني، علمي، استراتيجية، عنف رمزي) كما تشملُ أيضًا مفاهيم أقل ضبطًا أعاد بورديو تحديدها، مثل الفاعل، الاستقلالية، قانون، فئة، طبقات اجتماعية، تكريس، اعتقاد، إنكار، لامبالاة، تمايز، سيطرة، تطابق، فائدة، اعتراف، انكسار، طارد..)، وأيضًا المفاهيم التي كان يستمدها، أحيانًا، من المؤلفين الكلاسيكيين، بالإضافة إلى المفاهيم التي انتقدها، ونأى بنفسه عنها مثل الانعكاس، المعيار، الرأي العام، نزع الأسطرة. وتضم هذه القائمة أيضًا بعض القوانين، كقانون الحفاظ على الطاقة الاجتماعية الذي "يُفهم في إطار "الاقتصاد العام" مع مراعاة رأس المال في أنواعه المختلفة، وليس فقط رأس المال الاقتصادي"(ص524)، أو بعض التأثيرات Effets، التي عمل الباحث على مفهمتها، مثل أثر الجسد، أثر دونكيشوط، أثر غيرشنكروت، أثر مونتيسكيو. ويلي المفاهيم، مدخل الشخصيات، وكتبت حولها 115 مادة. وتشملُ القائمةُ الكتاب الذين أثروا في تفكير بورديو، والباحثين الذين ألف بالاشتراك معهم بعض الأعمال، وهي موزعة على النحو التالي: 36 فيلسوفًا من الكلاسيكيين والظاهراتيين وفلاسفة العلوم واللغة، وأساتذته (كانغليم، غيرول، ميرلو بونتي، فيومين)، بالإضافة إلى فلاسفة معاصرين من طراز ألتوسير، دريدا، بوفريس، دولوز، فوكو، ماترو، والفلاسفة الذين حدّد وضعه بالنسبة إليهم، أو أولئك الذين حدّدوا أنفسهم بالنسبة إليه بطريقة نقدية. وتضمّ هذه القائمة أيضا 21 عالم اجتماع كلاسيكيين، وأيضًا من المعاصرين الذين حاورهم، بالإضافة إلى من شاركوه في التأليف، و15 كاتبًا، و6 من اللسانيين، و6 فنانين تشكيليين، و4 مؤرخين، و3 علماء النفس، و3 اقتصاديين، وخبيرين، ومنظّرين للأدب، ورجلي سياسة، وفليلوجي ومخرج سينمائي ومؤلف موسيقي. كما يتناولُ المعجمُ أيضًا موضوعات ومجالات البحث، وهي عديدة بحيث تغطي مختلف جوانب العالم الاجتماعي، كالتربية والثقافة والاقتصاد والسياسة والموسيقى والتصوير والرياضة، بالإضافة إلى أعمال بورديو والمؤسسات والمجلات التي أنشأها، والتيارات والنماذج الفكرية التي استلهم منها، أو حاورها، وأيضًا اللحظات والأحداث والفترات المؤثرة في مساره الحياتي والفكري.
يُمكنُ القول إن ما يُضاعفُ أهميةَ هذا المعجم الدولي الذي يأتي ضِمنَ سياق بحث وتفكير جماعي أوسع يَضمّ إسهامات أهم المتخصصين في مُنجَز بيار بورديو الذي يتعيّنُ بوصفه من أكثر علماء الاجتماع حضورًا وتأثيرًا في المشهد الثقافي العالمي، هو أنهُ عَملٌ يُغطّي المسار الأكاديمي لعالِمٍ شهد مَعهُ حقلُ علم الاجتماع قفزة نوعية طبعها الاهتمامُ بقضايا حارقة كالفوارق الاجتماعية بين الطلاب، والممارسات الثقافية الحديثة من قبيل فن التصوير، بالإضافة إلى الأذواق وأساليب الحياة. ولعل ما يسترعي الانتباه في هذا المسار ليس فقط كونه يَدينُ في نشوئه إلى الأبحاث التي كرّسها للمجتمعات التقليدية، وإنما أيضًا إلى القدرة على الاستفادة، على المستوى النظري، من التقاليد المختلفة لعلم الاجتماع كالتقليدين الدوركايمي والماركسي، والنقد الفيبيري للمادية الماركسية.





إن صدور هذا العمل الموسوعي الجماعي في هذه الفترة يَفتحُ منافذ لبلورة فضاء عالمي للبحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية استنادًا إلى نظرية مقارنية متحرّرة من المركزية الغربية وذات مرتكزات إبستمولوجية واضحة تعدّ ثمرة حوار عقلاني بين الباحثين، كما يُوفرُ المعجم مادة أساسية يظلُّ الانفتاح عليها حاسمًا، لأنها تقولُ شيئًا عن قوة تفكير عالم يَتمثّلُ "أكبر إسهام قدّمه للفكر الاجتماعي في لفت انتباهنا للشروط الموضوعية المتعلقة بأنواع مختلفة من الخطاب"(9)، ليس هذا فحسب، بل أيضًا لأن المعجم يُمكّنُ من التعرّف على مشروعه، بما في ذلك المفاهيم والأدوات الأساسية التي قامت عليها النظرية الاجتماعية، والموضوعات والمجالات التي أمْكنَ لمجموعة واسعة من الباحثين أن يُفكّرُوا فيها اعتمادًا على منظومة من المقترحات التي تتبيّنُ معها الإنتاجية التي تَتمتعُ بها مقولات بورديو وتصوراته المختلفة عن القراءات السّابقة. ومن المؤكد أن هذه المجالات هي من التنوع والاتساع بحيث تشملُ الثقافة والسياسة، مرورًا بالدين والاقتصاد والنوع والطبقات الاجتماعية والذوق والفن والتصوير والموسيقى.



مراجع وهوامش:
(1) أكسيل هونيت، الاجتماعي وعالمه الممزق، مقالات فلسفية اجتماعية، ترجمة ياسر الصاروط، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2019، ص199.
(2) إدوارد سعيد، تأملات حول المنفى 2، ترجمة محمد عصفور، دار الآداب، بيروت 2020، ص140.
(3)  Philipe Raynaud, Le sociologue et sa philosophie, Dossier Pierre Bourdieu l’intellectuel dominant, Numéro 369-Cctobre 1998, p.25.
(4) أكسيل هونيت، الاجتماعي وعالمه الممزق، مقالات فلسفية اجتماعية، م سا، ص199.
(5)Giselle Sapiro (dir.), Dictionnaire international Bourdieu, CNRS Editions, Paris 2020.
(6) نفسه، ص200.
(7) جون ليشته، بيير بورديو، خمسون مفكرًا أساسيًا معاصرًا من البنيوية إلى ما بعد البنيوية، ترجمة فاتن البستاني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2008، ص102.
Pierre Mounier, Pierre Bourdieu Une introduction, Pocket, La (8) Découverte, Paris 2001, p.7.
(9) جون ليشته، خمسون مفكرا أساسيا معاصرا، م. س، ص108.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.