}
عروض

"حلم ماكينة الخياطة".. حكايات الطبقات الإيطاليّة

عارف حمزة

20 نوفمبر 2021


عند الانتهاء من قراءة رواية "حلم ماكينة خياطة"، للكاتبة الإيطالية بيانكا بيتسورنو (ولدت في إيطاليا عام 1942)، الصادرة عن دار المتوسط، بترجمة وفاء عبد الرؤوف البيه، يجد القارئ أنها رواية تجمع خيوطًا كثيرة لتطريز قماشة كبيرة وممتعة ومأساوية في الوقت ذاته. هذه القماشة تنتمي إلى الروايات المسلية من جهة، كرواية تنتمي إلى البيست سيلر، وكذلك للروايات الكلاسيكية التاريخية التي شاعت كتابتها في بدايات القرن الماضي وما قبله.


مسلية وكلاسيكية
هذه الرواية ترويها فتاة فقيرة يتّمها الطاعون، عندما مرّ في مدينة سردينيا الإيطالية، وجعلها تعيش وحيدة مع جدتها الخياطة، في شقة صغيرة في إحدى مدن الجنوب في إيطاليا القرن التاسع عشر. الجدة تعمل خيّاطة، وتُعلّم الراوية مهنتها من أجل مستقبل لقمة العيش، خلال عودتها من مدرستها، وتقوم كذلك بغسل أدراج البناء، الذي تسكن فيه، كلّ صباح كبدل عن دفع الأجرة الشهرية لشقتها.
النجاة من الطاعون، الذي قتل والدي الراوية وأشقاءها وشقيقاتها وأعمامها وأبناء عمومتها، وكل أبناء جدتها وأحفادها، جعل الحياة تبدو كحرب يوميّة للحصول على لقمة العيش. ويبدو أن العائلة كاملة كانت تحت خط الفقر بكثير، ولا تمتلك أي شيء، وإلا ما معنى أن يموت الجميع ولا تحصل الوارثتان الوحيدتان على أية ثروة منهم، ولو كانت صغيرة؟
ستبدأ الراوية بتعلّم الخياطة من جدتها، وهي في سن السابعة. وكان ذلك جيدًا لأن الجدة ستموت بدورها بعد سنوات قليلة، تاركة الطفلة وحيدة في مواجهة حياة قاسية في إيطاليا بين الحربين العالميّتين.




كانت مهنة الخياطة شائعة في ذلك الوقت، وكان الناس جميعًا يعتمدون على الخياطات اللواتي يعملن بمفردهن، أو على ورش الخياطة الصغيرة والكبيرة، للحصول على مختلف أنواع الثياب والمفارش والستائر. فقد كانت مصانع الملابس الجاهزة لم تظهر بعد.


حظوظ
الحظ وحده دفع بعض العائلات لطلب الراوية للقيام بتنفيذ طلباتها، بعد أن تعرفوا عليها وعلى عملها من خلال جدتها. وكان الحظ الأكبر أن تذهب الخياطة إلى منزل أحد البرجوازيين لتنفيذ طلبات أهل بيته، وذلك كان يعني أن الخياطة ستتلقى طعامًا مجانيًا خلال فترة عملها التي قد تدوم لأشهر، إذا تعلّق الأمر بزفاف أحد الأبناء، أو بولادة طفل جديد، لما تتطلبه هاتين المناسبتين من خياطة قطع كثيرة للزفاف، أو للمولود الجديد.
والحظ جعل الراوية تدخل منزل عائلة الثري "أرتونيزي"، حيث ستنشأ علاقة صداقة قوية وطويلة مع ابنته، الغريبة الأطوار في ذلك الزمن، "إستر". حيث لن نتعرف فقط على حكاية إستر وعائلتها في فصل واحد فقط من الرواية التي تمتد على أكثر من 425 صفحة، وهو ما حدث تقريبًا مع حكاية في عائلة في فصل محدد، بل سيمتد تأثير إستر وعائلتها حتى نهاية العمل.
كانت الراوية تحظى باحترام إستر، رغم الفارق الطبقي الشاسع بينهما، وصرامة التقاليد في ذلك الوقت، ولكن والد إستر المستنير سهّل هذه العلاقة بين الطرفين، لتكون الراوية مكان أسرار إستر، ولتكون داعمًا لها في كثير من المشاكل الحياتية والقانونية التي ستقع فيها الخياطة الشابة. وكان إهداء إستر للراوية ماكينة خياطة خاصة بها، عندما عادت من إحدى أسفارها إلى خارج البلاد، هو السبب لمعرفة بقية الحكايات. فوجود ماكينة خياطة خاصة بالراوية جعل عملها أفضل من جهة، وكذلك فتح لها أبواب عائلات وحكايات أخرى.
الرواية ستأخذ بيد القارئ للتجول، في كل فصل، في حكاية عائلة من العائلات البرجوازية والثرية، وعلى هامش تلك الحكايات سنعثر على حكاية الأم الفقيرة وابنتها في قبو البناء الذي تسكن فيه الخياطة. المرأة التي كانت تغسل وتكوي الملابس في قبو بلا شبابيك، ستموت بالسل تاركة طفلتها للراوية، التي ستعيش صراعًا أخلاقيًا للمحافظة على البنت اليتيمة ورعايتها، أو تركها لإحدى دور الأيتام الكنسية، وصراعًا داخليًا لمواصلة عيش حياتها مع الحبيب الذي ظهر فجأة، وجعل قلبها يتغيّر، وكذلك حياتها.


ماكينة وأبواب
ماكينة الخياطة كانت السبب لفتح أبواب عائلة "بروفيرا" الثرية كذلك، ولكنها تقل عن عائلة إستر في الكرم والتنوّر. فتروي حكايات داخل عائلة بروفيرا وأسرارها في عالم سرّي مخالف للقانون. هذا العالم السري التي تدور وقائعه في المناطق الأشد بؤسًا وخطرًا من قاع المدينة، لينتهي الفصل المخصص لتلك العائلة بشكل مأساوي، وبفضيحة مدويّة.
تذهب بنا الماكينة، أيضًا، إلى منزل عائلة "ديلسوربو" التي تعيش بشكل منغلق، وفي ماضيها فقط. العائلة تضم شخصيات غريبة الأطوار، لكنها تحتوي كذلك على الحفيد المختلف، الذي سيعود من الخارج، ويقع في حب الخياطة الراوية. قصتهما ستنتهي كذلك نهاية مأساوية.


قصة حقيقية
خلال التجوال في منازل النبلاء البرجوازيين، وحكاياتهم، مثل حكاية الكاتب بالعدل البخيل جدًا وبناته اللاتي يخيّطن ملابسهنّ بأنفسهن، مع أنهن يروّجن بأن ثيابهنّ تأتي من باريس، ستدخل شخصية مختلفة، وبحكاية مختلفة، ولكن مأساوية كذلك. وهي حكاية الصحافية الأميركية، ميس ليلي روز بريسكوي، التي لم تستطع الفكاك من عشق المدينة الجنوبية، ولا الفكاك من عشق أحد نبلاء تلك المدينة. الرجل الذي كان يغار عليها، ويقسو عليها وعلى فنّها وكتابتها، إلى درجة أنه كان يوبخها كأنه يوبّخ أحد خدمه. وعندما قرّرت التخلص من هذا الغرام، الخاص بالرجل والمدينة، سيُعثر عليها مقتولة في شقتها. وستنتهي التحقيقات بعدم العثور على القاتل وشركائه، وستقيد الحادثة على أنها مجرد انتحار.




تقول الكاتبة بيانكا، في إحدى حواراتها بعد المبيعات الهائلة لهذه الرواية، بأن شخصية الصحافية الأميركية هي حكاية حقيقية لعالمة أنثربولوجيا عاشت في سردينيا كانت تقوم بدراسات على السكان وقطاع الطرق أيضًا، وتكتب عنهم لإحدى صحف فيلادلفيا الأميركية. وُجدت ذات يوم ميتة وهي ترتدي مشدًّا مليئًا بالمال.
كانت شخصية حقيقية، إذن، استفادت الكاتبة من حكايتها، لتكون خارج منازل النبلاء وفضائحهم، على الرغم من أنها كتبت في مقدمة هذه الرواية بأن "القصص والشخصيات الواردة في هذا الكتاب خيالية".
مثل عمل الخياطة الدقيق والماهر كتبت بيانكا روايتها هذه، مطرّزة هذه الحكايات المختلفة بسرد مشوّق وسلس، تتخلله كثير من الحوارات والمونولوغات الداخلية. مهتمة كذلك بالعقلية البورجوازية التي كانت تحكم إيطاليا وطبقاتها، فاضحة، بطريقة غير مباشرة، تلك العقلية التي تتمسّك بظواهر الأمور وتفاهاتها وقشورها، قابضة بأسنانها على الثروة وزيادتها ولو بشكل غير قانوني وغير إنساني، صانعة جدارًا سميكًا بينها وبين بقية العائلات والطبقات الفقيرة التي هدّها الطاعون، ويهدها الفقر والعوز، في كل وقت.
كذلك تفضح القوانين التي كانت عبارة عن قوانين من صنع النبلاء، لحماية عوالم النبلاء ضد الفقراء الذين قد يتحولون إلى وحوش تهدم طبقتهم في أي وقت. فكانت السلطات المخوّلة بتنفيذ هذه القوانين عبارة عن خدم أيضًا في خدمة مصلحة النبلاء. وكان بإمكان أي ثريّ، من أجل التخلص من شخص ما، كما في حالة الراوية عندما حاولت جدة خطيبها الثري والوارث "جويدو" التخلص منها، أن يتصل بالشرطة ليقول بأن هذا الشخص سارق، أو يعمل في البغاء من دون ترخيص، حتى تقوم الشرطة بتحويل حياة ذلك الشخص إلى جحيم مستمر.
رواية تُعيد سرد حكايات مختلفة بطريقة ذكية وسلسة، تجعل القارئ متشوقًا لالتهام صفحات الرواية، رغم مأسوية هذه الحكايات، إلا أن غزارة القصص واختلافها، مع أجواء القرن التاسع عشر، وانتهاء ذلك الزمن كليًا، تعطي للقارئ تسلية كبيرة لقراءة هذه العمل الضخم في جلستين أو ثلاث، كما البروفا الخاصة بتفصيل فستان ما.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.