}
عروض

"لا تخبر الحصان".. براءة السرد وجموح المعنى

زكريا الإبراهيم

28 نوفمبر 2021


في 15/1/2019، ينتهي ممدوح عزام من تسجيل وتصوير آخر مشاهد روايته "لا تُخبر الحصان" (دار سرد للنشر ودار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، 2019) ويضعُ آخر لمساته وهو ينظرُ إلى (كامل)، مُودّعًا الحصان الذي ينطلق حرًا صوب السهول والبراري، وسطَ ذهولِ ودهشةِ الجميع.
تأتي الرواية من خلال أصواتِ ومونولوغاتِ أفراد عائلة الدّركي الخَشن (سالم النجار: فاضل، نوفل، كامل، كاملة، واصل؛ إضافة إلى زوجته سليمة حطاب)، لتضيءَ تاريخ منطقة، وفترةً من أدق المراحل التي صاغت ملامح سورية في ما بعد، منذ الاستقلال إلى انقلاب البعث، وصولًا إلى هزيمة حزيران 1967 وارتداداتها.
تدور الأحداث وسطَ، وعن، عائلة النجار الدرزية في (تل القرن)، التي تتوزع جغرافيًا على مساحةٍ أوسع بحكمِ عمل سالم النجار في الدرك، وتنقله في مناطق مختلفة، منها الحدود مع تركيا، ومنها فترات في حلب.
اللغة الطفولية في سرد المونولوغات والأحداث اليومية لأبناء سالم تتجه صوب الفطرة، من دون زخارف لغوية، وترمي دفعةً واحدة بمجموعة من التسميات والمصطلحات للأماكن والأغراض المُستعمَلة في ريفٍ فقيرٍ يعاني العزلةَ والحاجة، ويتلهّى بتفاصيل يومياتٍ نختبرُها بحرارةِ اللغة وعفويتها. يبدو أن كل شيءٍ مُؤنسَن، إلى درجة أن الحصان العربي الأصيل الذي اشتراه سالم منذ خمسة عشر عامًا سيكونُ محورًا، أو سيكون كواحدٍ من الأولاد بالنسبة إليه، وجزءًا أساسيًا وفاعلًا في العائلة، له أصواته ولغاته الخاصة التي تنعكس من خلال سرد كل فردٍ من العائلة علاقاته بالحصان الذي أسماهُ كامل (صُبح).




العشق الطفولي يُهيمن على حياة وتفاصيل كل الأفراد، وتشعبات علاقاتهم مع الأقرباء والمحيط، من أصغر حادثةِ تصادُمٍ عفويةٍ، إلى اشتعالاتٍ عاليةٍ تفورُ بالأحلام والرؤى، حيث تنبتُ الأجنحة في هذا الخَلاء خلال الاحتكاك اللفظي، أو حتى البصري، لتتولّدَ أسباب العيش، ومَحو الضّجر والقرارات في حياةٍ ويومياتٍ لا يُقوِّمها سوى الهالات والأحلام الصغيرة التي تكبر وتتّسع لتكون أسباب وجودٍ كامل.
تستوقفكَ أسماء أماكن منحوتةٍ من لغةٍ مغموسةٍ ومعجونةٍ بكل تفاصيل الطبيعة والمحيط (تل الغزلان، دير القرن، سهل الغراب، غدير الفضة، تل الصدى، قصر المطر، سهل الزرازير، تل الزّهر....)، في مجتمع يقتاتُ الحكايا والخرافات والفزع، حيث تحضرُ كل الكواسر والضِباع لتضيء الخوف، وتصيغُ الوساوس والرهبة.
أبناء سالم تكفيهم نظرةُ صبية، أو تبادل عابر لكلام عادي مع ابنة الخال، أو بنت الجيران، ليسقطوا حيارى عشقٍ وهلوساتٍ وأحلامٍ لا متناهية، ليأتي دور العمَّة "نجاة"، وقدرتها الدائمة على اختراع الدواء من أجل الشفاءِ، وتصوّر المستقبل.
سنُدركُ في سياق الرواية أن الدركي سالم، وخلال تنقلاته في الخدمة، تزوّج بطريقة سريعةٍ ومُرتجلة من (زاهية) في حلب، بعد تسع سنوات من زواجه الأول، ما أدى إلى تحوله إلى المذهب السنيّ، وإلى الاتفاق على كتمان هذا الزواج الذي سبّبَ بعد تقاعده شرخًا هائلًا مع سليمة، التي قرأت رسالة زوجته الحلبية، ما أدى إلى تحصين جسدها، والامتناع عن سالم.
تتوزع طبقات السرد على ستةِ شخوص تتّخذ من الأب سالم محورًا لها، حيث التركيز على شخصيته الصارمة والمُتطلبة ونادرة الابتسام، ليكونَ التجسيد الأوضح لذكورة المجتمع وسلطته من خلال إملائهِ لما يريد، إضافة إلى عمله كدركي، حيث تسمع زوجته، لقرب سُكناهم من المخفر أثناء تنقلاته، أصوات وصراخ المسجونين الذين يجلدهم سالم.. وطالما رجتهُ بالرأفة والإنسانية، وتبريره الجاهز لها أنْ لا طريقةَ للاعتراف بجرائمهم غير هذه الطريقة التي أثبتت نجاعتها وجودتها الدائمة.




في مونولوغاته القصيرة، وشهادتهِ على نفسه، يقول واصل، غير القابل للتعلم، أو التقدم إلا صوب نَهَمٍ جديد وعلاقة مريبة مع الطبيعة والبراءة التي لا يتجاوزها: "قالت لي إنّ ورد الجوري يُسمّم المصارين، لكن طعم ورد الجوري أطيب من خوف كاملة. فصارت تسمح لي أن آكل ثلاث وردات كل يوم، وتقول لي: قول والله ما راح آكل غيرهن!.. فأقول: والله، ثم أذهب وآكل ثلاث وردات أخرى، خلف الحائط، حيث لا يمكن أن يراني الله الذي يأتي من جهة الشرق"، ص202.
تُوثق الرواية، بشكل مُكثف، هزيمة 1967، من خلال الاستنفارات في منطقة قريبةٍ من العدو، مثل السويداء: "وحين بدأت الحرب أُجبِرنا على المناوبة في الاتحاد (اتحاد مربي الأغنام في السويداء) لحمايته من محاولات الإنزال التي قد تنفذها قوات العدو، وسلموني عصا ثخينة كعصا الفأس، ثم أعطوني، في ما بعد، بندقية فرنسية بخمس طلقات للدفاع عن المبنى"، ص220 ـ 221. هذا ما يقوله فاضل الابن الأكبر. وفاضل، نفسه، كان سببًا في زجّ أخيه نوفل في السجن لمدة أسبوع لانتسابه إلى الحزب الشيوعي، من خلال قدرة البعث المبكرة على تصنيع المُخبرين والمتعاونين.
بعد الهزيمة، يرتضي سالم النجار شراء عربة عليّ الهدهد، الذي مات خلال تطاير صفيح التنك وقت هبوب العاصفة على "دير القرن" من دون باقي المناطق.. إنّ الفارس والدركي السابق، جوّابَ الآفاق، وصاحب وصديق (صبح) الحصان العربي الأصيل، يرتضي وينوي، من دون قناعةٍ، العمل كبائعٍ جوّال بدل علي الهدهد، بعد رفضه الجذري لهذا في ما مضى! وكان الاقتراح ترشيح الحصان الأصيل لجَرِّ العربة إمعانًا في تفاصيل الهزيمة. يُحدثنا كامل بصوته الذبيح مُصورًا المشهد الكئيب: "أبي يجلس على المصطبة أمام المضافة مُكفّنًا وجهه بيديه. أمي تنتحب بصمت. كاملة تقف بجانب الحائط وقد امتلأت عيناها بالدموع. بين فينةٍ وأخرى تجري دمعة مسرعة نحو الأسفل، فتُمسك بها بإحدى يديها. واصل يأكلُ التراب من دون أن ينهرهُ أحد، أو يأبه لأحد، وأنا أفكر كيف يمكن أن أُخبرَ الحصان"، ص 226.




تتوقفُ أحداث الرواية في آب 1967، لنُخمنَ كل القادم من كوارث. لم تكن حياةُ أسرة سالم النجار، وما يحيطها من جفاف الطبيعة وآفاق العيش والمعنى، إلّا مقدمةَ تفاصيل سنقرأُ ونعيش القادم منها (الآن.. هنا)، ومنذ ما يزيد على العقود الخمسة المُتخمةِ المتاهات والفقدان والدماء.
يعمدُ ممدوح عزّام إلى تركِ كل مصائر وتفاصيل شخوصهِ معلقةً من دون تقرير نهايات واضحة لها، وهذا ما سيُفسِحُ لنا قراءة واقتراح نهاياتٍ تتناغم مع هذه المقدمات والعلاقات الآخذةِ بالتّفسخ منذ الاستقلال إلى الهزيمة، ما يعني أنّ المخاطر الجوهرية هي تلك القادمة والمُتكئة إلى ميراثٍ قريبٍ من الخيبات، وتدرجاتِ فشلٍ وتحَلُّلِ القِيمِ وحاملها الاجتماعي.
إنّ محاولات ترويض الحصان الفاشلة لجرِّ العربة، وحزنه وصهيله المخنوق، وارتباك سالم وشكواه لحصانه: "والله بعرف، بس شو طالع بالإيد"، ص 250، وعودة الروح لسالم بدفقةٍ من تمرّد الحصان ورفضه ذلّ العربة وجرّها، وقيام سالم بتربيت كَفلَ الحصان مُستعيدًا لازمتهُ القديمة "عفارم يا ولد"، يؤدي إلى وفاةِ وموت سالم في فراشه، وهو ما أوقع الحصان في حزن شديد، رفض معه الطعام والشعير، ما سمحَ لأخيه فريد، وبمساعدة فاضل، بضرب الحصان بشكل همجي في محاولة ربطه إلى العربة، رغم تدخل سليمة ونجاة، ويقظة كامل الذي ينادي بأعلى صوته "أهرب يا صبح". والحصان فهِمَ الرسالة، فرَكلَ عارضة العربة، وتخلص من الرسن في يد فريد، واستطاع بجموحهِ وقوته الروحية التّخلص من اللجام، متطلّعًا بعمقٍ إلى كامل وأخيه نائل (ابن سالم من زاهية الحلبية الذي انضم للأسرة بعد موت أمه)، وهو يعدو بما استطاع من نشاط وقوة، مُستعيدًا حياته البرّية الأولى، قاطعًا التل الأحمر، ليلتفتَ مرةً أخيرة.. ويغيب في المدى، فاتحًا فضاءات الرواية على الحرية، الطموح، ومبرّر الوجود!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.