}
عروض

"في كل مكان من المنفى".. الشِّعر مشرّعًا على الحياة

عماد الدين موسى

27 ديسمبر 2021


بعنفوانٍ، وعمق رؤية، تكتبُ ناتالي حنظل، الشاعرة الأميركية من أصلٍ فلسطيني، قصائدَها. صدر لها في الشعر: "قصيدة نفرفيلد" (1999)، "حيوات المطر" (2005)، "الحب والخيول الغريبة" (2010)، "شاعرة في الأندلس" (2012)، و"النجمة الخفية" (2014)، وهو باللغتين الإنكليزية والإسبانية، جمعت فيه قصائد عن مدينة أجدادها بيت لحم، وعن حياة أولئك الذين يعيشون في المنافي في شتى أنحاء العالم. تكتب وهي تحافظ على الإمساك بذروة خفية للهبِ عقلها، متمسِّكة بفلسطين والحياة.




في عملها الشِعري الأحدث باللغة العربية، "في كل مكان من المنفى"، وهو مختارات من قصائدها، من ترجمة الشاعر السوري أحمد م. أحمد، والصادر حديثًا عن دار فواصل، نرى أنَّ الشعر عندها هو الإمساك ببرق الخيال وهو يختلج، لأنه يذهب، أو يرقى بالإنسان كل الصُعد حتى يتحرر من جحيم الواقع، فلا يعيش هذه المآسي، وهذه الحوارات المفجعة، إن بالكلام، أو بالنار والبارود: لأننا لم نعد نسمع سنابك الخيل، لأننا لم نعد نراها ترمح، لم نعد نراها تنتصب على الشاطئ المرجاني، تساءلنا أين تختبئ موسيقى الصوت البشريّْ؟ هل تستطيع أن تجد أغنيتها في البحر، وأنت ترتابُ في مياهه، في الحقل، وأنت ترتاب في هشيمه، في براعم الكرز، وأنت ترتاب في تربته، ما بين أميال من أجذال الأشجار المرميَّة، أو ربَّما في الصقيع ما بعد الهجير؟ لأننا لم نعد نرى ما هو مقدَّس ونديّْ، لأننا استجرنا بالجبابرة التيتان، ولصوص الخيل، كانت الرسالة اليتيمة التي أرسلوها: في نهاية الأمر، ستهدُرُ الطبيعة، وتغرق، وتدمِّرُ، وتسود، سألنا، أنجرؤ على الحب علَّنا نعثر على الأسطورة المنسيَّة في الموسيقى، بينما يعلو العشب حتى يطال بكاءنا. ذلك حتى لا يسقط ذاك السقوط الجنوني، لأن ناتالي حنظل تحاول في شعرها أن لا يصير الإنسان ضحية الحياة، فتسبر أغوار روحه بحثًا عن كنوزها مثل الأمل والحلم والإصرار على العيش: وأنجبْنا أولادنا بلغاتٍ ليست لغاتنا، أردنا أن نعلقَّ صورَهم، لكن لم يكن هناك مِن حيطان. قسوة وحِدَّة، تبدو قاسية، ولكنها في غاية التقشف والزهد الإنساني، لا انغلاق ولا انكفاء على الذات، فالشعر مفتوح على الحياة، الشعر عند حنظل درامات روحية حتى لا يفقد الإنسان كرامته: أمشي في الشارع والناس كأنَّهم يعرفون أمرًا لا أعرفه. قد رحل فرانكو، لكن من الصعب نسيان خارطة العظام التي تركها وراءه. ناتالي إرادةٌ وتوازن وهي ترسم وتنتقل من صورة عاطفية إلى صورة انفعالية، لتترك قارئها يتنقل بين الصورتين لاهثًا، يغوص بها فلا سلام. ناريةٌ صورها، مصبوبة ومصهورة في وجدانها الفلسطيني الذي لم تغيره، ولم تلعب به المنافي: ليتنا عرفنا أين نجِّن، بلادًا ضيَّعتْ تاريخها، ثمَّ اكتشفته ولم يلحق به أذىً، ليتنا عرفنا أنَّه في كلِّ وجدان ثورة.



الكتابة بالأعصاب
تبدو الكتابة الشعرية عند ناتالي حنظل كتابة بالأعصاب، كتابة انفعالية، ولكنَّها تحت قبضة العقل، الفكر. ليست كتابة آلية، كتابة تهيمن على كل ما هو ذو روح، كتابة ضوء، كتابة إنسانية: لم يكن مألوفًا، يتصرف وكأنه مَلَكَ الأرضَ وما عليها. كان ينتصب واقفًا كل صباح على مسافة خمسة أقدام من النهر. كان ينتظر من الضوءِ ملامسة الأوراق، ينتظر مني أن أشيح بناظريَّ قبل أن يتوارى. ذات يوم كفَّ عن المجيء، افترضتُ حينها أنه فرغ من دفن ما احتاج للدفن، على مسافة خمس أقدام من الماء. يستحيل أن تكتب الشعر بأعصاب هادئة، وإن بدت القصيدة هادئة، فالشاعرة ناتالي تكتب وهي في حمَّى، وتفكر وهي في حمَّى، وتعيش في حمَّى، تكتب والنبض يدق، النبض يضرب، ضرباته إيقاعات محمومة بالانتصار للحياة: أعطني زنبقة، قصّي عليَّ حكاية القمر، حين باعَدَ ما بين جسدينا ليفسح مكانًا للحمائم في قاع قلبينا. طبعًا شعرها ليس تفريغًا لشحنة عاطفية، فهو كما ذكرنا من فكرة، من موقف، مفاجأة خاطفة كالبرق تزيل ثقل الروح وفتورها حتى لا يفقدها قابليتها لأن تعيش الحياة: أحاول أن أتخيَّله وهو يقول لي: سامحيني، قد متُّ من جديد سعيًا وراءك.




الشاعرة ناتالي حنظل لا تريد من قارئها أن يسلِّم نفسه إن في الأوان، أو قبله، أو بعده، هي توسِّع معاركها، فتكبح في شعرها كل استسلام وسلام يُعقدُ للضحايا: من الأفضلِ لكَ أن تغرقَ على أن يفوتك الماءُ ـ لا يمكنُ للعقائد أن تتدبَّرَ أمرَ العطش. ناتالي لا تتفلسف؛ بل تؤكد في قصائدها على استقلالية الإنسان وقوته الإبداعية، فهي تكتب بروح نقدية، وبتحليل عميق وواعٍ لما يمكن أن يفعله الشعر فينا، وهو يتحول إلى أناشيد، إلى نداء ملحمي، إلى وجودٍ، ولكن من شِعر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.