}
عروض

"بِتَحنانٍ يخطُّ بَرديّتَه".. قصائد مستديرة كجوزة هند

صدام الزيدي

7 ديسمبر 2021




في مجموعتها الشعرية "بتَحنانٍ يخطُّ برديّتَه"، الصادرة حديثًا عن قصور الثقافة المصرية، متضمنة 25 نصًا، تشتغل الشاعرة المصرية ديمة محمود على حشد عوالم ومفردات في فضاء شعري متقد، بينما احتفت هذا العام بصدور مجموعتين شعريتين، أولاهما التي بين أيدينا هنا (وهي الرابعة في ترتيب إصداراتها)، والثانية فائزة بإحدى جوائز "حلمي سالم للشعر الجديد" 2021.

تنجز الشاعرة نصًا راعدًا ومشتعلًا بالحمم والبراكين، كأنما تروض القارئ بإدخاله أولًا في ورطة القراءة من نافذة التكسير، إذ تهدم ما هو في توقعه من قوالب روتينية اتسم بها الشعر العاديّ، لحساب بعث فضاءات مغايرة تؤثثها، مستندةً إلى مفردة محتشدة من ناحية، وصورة شعرية مباغتة في سياق كتابة تعرّي الواقع وتشرّحه، كأنما في يدها سوط وفي حنجرتها لهب نار..


"كجوزة هند
"...

على قِدر الرغبة، تطهو الشاعرة وترًا، بادئة نصًا لها عنوانه: "لمّا طهوت وترًا": (كان وريدك مستديرًا كجوزة هند، فأوردته الشطط حتى اشتعل كجمرةٍ)، وبعد ذلك تطلق للوتر المحترق العنان فيندلع بسلاسة على وجه السرعة، فيطرأ في تفكيرها أن "استدارة وريد حبيبها" سيكون عبئًا في حقيبة القلب، ثم، انطلقت تتحايل على الأمر: (فجعلت كفّيّ تتسعان له كأنه دعاء جزل يطمح في معراج/ أو حمامة لا تشغل بالها لا بالحب ولا بالرمز)، وهنا، تتابع الشاعرة -وقد تقلبت أمزجتها وانحرفت توقعاتها- لتصرّح: (للحنان أن يحبط الرعونة - ولو لمرة واحدة- ويوقع بالرجال الجُوف)، ثم إن "وريد العاشق" معرّض لما لم يخطر على بال: (ليست نرجسية أن أحمل وريدك وأغرسه في الأرض)... بعد ذلك: (سيزهو بعد نضجه كسنبلةٍ)، وهنا تستدعي الشاعرة عبارة "النُّفَريّ" الشهيرة لتتعالق معها شعريًا، لكن برؤية ناسفة للقالب المعتاد والمتداول في ما قاله النفري، إذ تتابع - في سياق النص- قائلةً: (كلما اتسعت الوحدة، ضاقت النهايات)، أي نهايات إذًا؟... نهايات فيض المعنى (في مخاض ذاكرةٍ تعاني الكثافة)، وحينها، يندلع توقع جديد، إذ تهدي الشاعرة وريد حبيبها، بنرجسية تقفز بالقارئ الى احتمالات أكثر شاعرية- أكثر تجاوزًا، فتشرع بتقطيع الوريد لتهدي جزءًا منه لربابنة في المحيط وصيادين، وتقتطع منه أيضًا لعابري سبيل وبائعي ذرة وسعاة بريد.



"ذئبٌ يتيمٌ وأعمى
".. 

وتستمر مخاتلات اللغة الشعرية بعذوبة تغلفها نرجسية محمودة ورؤية تزيد من الغموض والبعث الشعري، إذ تنفث ما تبقى من وريد الحبيب "ليطير صداه بعيدًا"، وفيما يفترض أن النص بهذه العبارة قد وصل إلى نهايته، تعود الشاعرة بأسلوب جميل، فاتن ومتمكن، لتخلق أفقًا سياقيًا مضاعفًا تبدأ به مرحلة ثانية من تأثيث شعري لا يُملّ، إذ: (يرتدّ الوريد المنفوث في الهواء وقد صار رمادًا)، على حدائق من أيائل وإوزّ ونسرين. ثم تتبع مرحلة سياقية ثالثة: ولمّا يجنّ الغروب، يؤوب (أي الوريد العشقي المتطاير في الهواء)، كـ(مانوليا) في جيوب المنتظرين في الميناء، لكن بهيئة "ذئب يتيم"، لكنه بصير أيضا (ذئب يتيم وأعمى): بصيرًا يطاول الباحات.... بصيرًا يقود الشاعرة إلى سديمها، كما تقول، وهنالك تغلق النص بعد سياقات وانبعاثات عدة، لكنها تطعن العشق على طريقتها وقد آلت هي - لا الوريد- إلى السديم، فتعلن أخيرًا: "أنا أتحسس الطعنة".

بأسلوب مباغت ومتفجر تمضي بقية قصائد الكتاب، وعلى صغر محتواها الذي يقارب 60 صفحة من القطع الوسط، إلا أن ديمة محمود "كوزغٍ لا يقدر على التقاط خط رحلته أحد"، تفضي بقارئها إلى حتمية أن كل شيء إلى فناء، خاتمةً الكتاب بقصيدة عنوانها "نبوءة"، وهي قصيدة تتمحور حول الشعر: ضروبه ومفاجآته، تختمها الشاعرة بيقين واستسلام: (هذي القبعات ليست لنا/ ..... لله ما أعطى وأخذ/ والركب لا ينتظر الثغاء). وإجمالًا، تحتشد المجموعة برايات انعتاق محمولة بالتحريض على الثورة ومتقدة بمشاعر الحب والانغماس العشقي حد الثمالة والجنون، وثمة اشتغال متقن يعرّي كثيرًا من مظاهر الحياة الكاذبة: تناقضات التواصل الآدمي، تؤثثها قصائد محمومة ومشتعلة ولا يمكن التيقن من مدى سلميتها، إذ تتجلى، في المجمل، إرباكات/ تفجرات كتابة جديدة مغايرة ومحلقة في أفق للانعتاق الشعري المزلزل.



ديمة محمود:
شاعرة مصرية تكتب قصيدة النثر. قبل مجموعتها الأحدث "بِتَحنانٍ يخطُّ بَرديّتَه" الهيئة العامة لقصور الثقافة 2021- القاهرة، صدر لها: "ضفائر روح" دار الأدهم 2015– القاهرة؛ "أشاكس الأفق بكمنجة" دار العين 2017– القاهرة؛ "أصابع مقضومة في حقيبة" دار الأدهم 2021- القاهرة. 

توجت الشاعرة بجائزة "حلمي سالم للشعر الجديد" في دورتها الثانية 2021 عن ديوانها "أصابع مقضومة في حقيبة"/ المركز الثاني. ترجمت عدد من نصوصها إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية والبنغالية والتايوانية ونشرت في عدة أنطولوجيات مطبوعة منها أنطولوجيات صدرت في فرنسا وألمانيا وكينيا. حاصلة على بكالوريوس علوم حاسبات وإحصاء من جامعة الملك عبد العزيز بجدة 1993. عملت لسنوات معيدة بأقسام الحاسب الآلي والرياضيات والإحصاء بكليتي التربية والعلوم الصحية- أبها- السعودية. عرفت الشاعرة في الوسط الثقافي وعلى وسائط الاتصال، كمعلقة وراوية صوتية (قارئة كتب صوتية) ومؤدية أصوات ودوبلاج وتمثيل إذاعي. شاركت في ملتقيات شعرية وثقافية عربية وعالمية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.