}
عروض

كتب التجربة والنُصح

عارف حمزة

2 فبراير 2021
أحد تقاليد الكتب الشهيرة في العالم، والنادرة في العالم العربي، هي تلك الكتب التي تذهب إلى نُصح القارئ العادي والمجهول لتحسين حياته الجسدية والنفسية، وهي ليست فقط ذلك النوع من الكتب الذي يكتبه مختصون في مجال ما للقارئ. فليس المقصود بها مثلًا الكتب التي وضعها علماء النفس والاجتماع، بعد دراسة حالات متعددة ومختلفة على فترة طويلة من الزمن، ومن ثم قاموا بنشر نتائج تجاربهم على شكل أبحاث أكاديمية، أو حتى على شكل بحث أكاديميّ قريب من الكتابة الأدبية؛ مثلما كانت الحال في العديد من كتب عالم النفس الشهير، سيغموند فرويد، التي تشبه القصص القصيرة والروايات.
تلك الكتب الأكاديمية في علم النفس، وعلم الإجرام، وعلم الاجتماع، وغيرها، كانت، من جهة أخرى، ليست ناصحة للقراء والطلاب فحسب، بل أثّرت كذلك في العديد من الروائيين والشعراء، فكتبوا المئات من الأعمال المتأثرة بتلك الدراسات التي ذهبت في غالب الأحيان إلى بواطن الشخصيات، وتشريحها وفهم أعماقها ودوافعها، وحتى إعادة تغليفها بالغموض اللاواقعي.
كما أنّ بعض الكتَّاب استطاع تقديم خدمات جيّدة لعلماء النفس؛ عندما قدم أعماق الشخصيّة كأنه يتحدث عن أعماقه نفسها.
لم يكن بحث الأكاديميين والخبراء فقط في هذه العلوم الإنسانيّة التي تُدرّس في الجامعات، بل خرجت إلينا منذ عقود تلك الكتب التي تهتم بجوانب جسديّة وروحيّة ونفسيّة أخرى، مثل تلك الكتب عن التغذية، والنمو، وبناء الجسد والعضلات، وتلك التي تهتم بالموضة والأزياء، والتي تقدم الخبرات في نصح القارئ في الإسعافات الأولية، وتصليح السيارة، والآلات الأخرى، والخياطة، وتعلم اللغات، والتمارين البطيئة لضبط النفس و"دع القلق وابدأ الحياة"، و"كيف تكتب رواية"، و"رسائل لروائي شاب"، وكذلك لشاعر، أو قاص مبتدئ.
هنالك كتب أخرى صارت تخرج من المطابع من الطرف الآخر للمعادلة. لم تعد فقط من
الأكاديميين، ومن الخبراء الحاصلين على شهادات عالية، سواء في التعليم، أو الخبرة. بل صارت تأتي من قارئ، أو شخص، قد لا يملك كل هذه المؤهلات الأكاديمية، ولكنه يمتلك "التجربة" التي هي في النهاية نوع من الخبرات. ولكنها قد لا تكون من الخبرات المكتسبة من الكتب والتعليم، بل من الذات نفسها. من التجربة الشخصية نفسها، ومن آلامها وأسرارها. كما هو حال كتب الروائي والصحافي الإنكليزي مات هايغ (1975)، التي حملت عناوين "ناصحة" للقارئ، مثل "كيف توقف الزمن"، و"أسباب للبقاء حيًا". هذه حققت مبيعات كبيرة أدت إلى طباعتها طبعات عدة، وترجمتها إلى لغات كثيرة. ومات هيغ ليس كاتب نصح ومقالات، بل هو روائي يكتب للكبار والأطفال، وحائز على جوائز عدة عن روايات الأطفال.
كتاب هيغ الأحدث، الذي صدر بالإنكليزية في عام 2018، وترجمه محمد الضبع حديثًا إلى اللغة العربية، جاء بعنوان "ملاحظات حول كوكب متوتر". وهو كتاب يندرج ضمن هذه الفئة من الكتب الناصحة، أو كتب التجربة الشخصية، مع شرح تلك التجربة، وما ينجم عنها، وكذلك يقدم حلولًا للقارئ الذي قد يعاني من ذات التجربة المريرة، وهي "نوبات الذعر في السوبرماركت".



لا يذهب هيغ مباشرة إلى هذا النوع الغريب من الذعر الذي يؤدي إلى الاكتئاب، بل يمر قبله إلى عدة أمور حياتية، مثل القلق، والاكتئاب، والإدمان على الكحول والتدخين والمخدرات. وكذلك الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي، وكل تلك التقنيات والتقدّم الذي حوّل كوكبنا إلى كوكب متوتر، وغير مستقر "فأغلب الناس يعلمون أن للعالم المعاصر تأثيرًا خطيرًا علينا نحن البشر، ويعلمون أنه بالرغم من التقدم الصناعي والتقني إلا أن هناك عناصر خطرة في الحياة المعاصرة قد تودي بحياتنا. حوادث السيارات، التدخين، تلوث الهواء، الحياة الكسولة على الأرائك، طلب البيتزا عبر خدمات التوصيل، الإشعاعات، الزجاجة الرابعة من نبيذ ميرلو".
يستخدم هيغ تعبيرًا جميلًا في تأثير التقنية على حياة البشر، الذين صاروا يركضون وراء "الأشياء" التي يقدمها العالم الحديث، وليس "القيم" التي يقدمها أيضًا. تلك القيم التي "جعلتنا نرغب بالمزيد دائمًا، والتي جعلتنا نقدّس العمل، ونقدّمه على المتعة، ونقارن أسوأ ما فينا بأجمل ما في الآخرين، ونشعر بأننا دائمًا ناقصون، ويلزمنا أن نحسّن من أنفسنا". لذلك يُقدّم تعبيرًا باهرًا بقوله: "كنتُ أعاني من حمولة زائدة في حياتي. حمولة زائدة من التقنية".
خلال ما يقارب 300 صفحة، يشرح هيغ تأثير الهواتف النقالة، والبريد الإلكتروني، ومواقع التواصل الاجتماعي، على حياة أحدنا الجسدية والنفسية والعقلية، ويقدم تجربته الخاصة في كثير من المحاور. وفي الوقت الذي يُخصص أقسامًا للنصح في كل تجربة من تلك التجارب، يقدم أيضًا نتائج استطلاعات لمراكز بحث مرموقة، وكذلك اقتباسات لعلماء ومؤلفين، وبعض المديرين المستقيلين من شركات الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي.
اعتمد مات هيغ، إذًا، ليس على تجربته الشخصيّة فحسب، في كتابة هذا الكتاب الأحدث له، فهو وجد، خلال بحثه في الأخبار، العديد من العناوين المثيرة أدت إلى تثبيت فكرة الكتابة والشروع
فيها. هذه العناوين كانت مثل: التوتر ووسائل التواصل الاجتماعي تسبب في أزمة نفسية لدى الفتيات (صحيفة الغارديان). الوحدة المزمنة هي وباء هذا العصر (فوربس). القلق في أماكن العمل ينال 73 في المئة من الموظفين (صحيفة ذا أستراليان). ارتفاع معدلات مشاكل التغذية بسبب الرؤية الدائمة لأجساد المشاهير (صحيفة الغارديان). الانتحار في الحرم الجامعي وضغوطات البحث عن الكمال (ذا نيويورك تايمز). القلق في أماكن العمل يرتفع بمعدلات كبيرة (راديو نيوزلامد). هل ستأخذ الروبوتات وظائف أبنائنا (ذا نيويورك تايمز).
هذه الموضوعات، وغيرها، يقدم تفاصيل مشاكلها هيغ ببساطة للقارئ. مع مقارنات بين الماضي البطيء والحاضر السريع، أو مع الماضي الطويل والحاضر القصير والمقلق. وقد يجد القارئ كثيرًا من التفاصيل حول مشكلته الشخصية، وقد يجد الحلول لها في فصول يقدم من خلالها هيغ العون له.
ما يميز هذا الكتاب، وهذا الوصف ينطبق على كثير من الكتب من هذا الصنف، هو الصدق والشفافية والبساطة في الكتابة والتفكير، وبالتالي محاورة شريحة واسعة لا تخص بريطانيا فحسب، بل هو يكتب كأنه يفكر في قرائه في أميركا واليابان وتايلاند وأوروبا. ومثل هذه الكتب، الخفيفة منها والعميقة، التي تدعى كتبًا "غير روائية" وفق المصطلح الإنكليزي، والتي تهتم بها شريحة واسعة من القراء حول العالم، نفتقدها في العالم العربي، مثلما نفتقد ربما كتب السيرة الحقيقية، وغيرها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.