}
عروض

في "سِفر الوجوه".. عبدالهادي السعيد يكشف عن زيف العالم

عماد الدين موسى

22 فبراير 2021

من تمردٍ على عَروض "الفراهيدي"، جاءت قصيدة النثر العربية. جملة تحمل صورة، أو دلالة تشيع (معنى) ما، تذهب بالقارئ نحو التأمل، أو يحقق شيئًا من الإدهاش. قصيدة إيقاعاتها الموسيقية ليست من الوزن، أو التفعيلة، بل من الصورة التي فيها لمعة، أو برقة، أو ومضة، أو حكمة من تجربة مادية، أو حسية.



هذا ما حامت حوله قصيدة الشاعر المغربي، عبدالهادي السعيد، في ديوانه الجديد: "سِفر الوجوه"، الصادر مؤخرًا عن دار مرسم في الرباط 2021، بعد أربعة دواوين، هي: "تفاصيل السراب (1996)"، و"لا وأخواتها (2003)"، و"روتين الدهشة (2004)"، و"الحدائق ليست دائمًا على صواب (2015)". يكتب الشاعر رشيد المومني مُقدّمة الديوان بحماس، فيقول: "هكذا، وعبر أناقةِ ما تمارسه الحروف من خدش، من بتر، وشطح خبيرٍ باستراتيجيةِ كُلٍّ من نواياه الماكرة والطيبة في آن، تُشرق، أو تحتجب، مَلامحُ سَيّدةٍ لها ما للهوية من غموض، من شهوة، ومن كَلَفٍ بالتّلاشي. أقول ـ والقول ما يزال للشاعر رشيد المومني: أقول السيدة/ الهوية، على سبيل تأويل بريء، مستمد من فيزياء السِّفر، حيث الدّم المتفرقُ في قبائلِ الهُنا عبثًا يحاول أن يهتديَ إلى مَصَبٍّ دمّرتْهُ مكائدُ الكَونيّ. فأهلًا، إذن، بِسِفرٍ لا يكبو، مهما تنازعتْ خطواتِه شراسةُ الحَافات". المومني ينتصر لقصيدة النثر، وللقضايا الوجودية التي تحملها، إن في هذه الديوان للسعيد، أو لتجارب شعراء شاركوه هذا الفعل، نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر: حسن نجمي، ومبارك وساط، وأحمد بركات، وإدريس عيسى، ومحمد بنيس، وأحمد العمراوي، وصلاح بوسريف. ومن قبل، الشاعر إدريس الجاي، والشاعر محمد الصباغ (1930 ـ 2013)، الذي كان أول من أسس لقصيدة النثر في المغرب.
السعيد، في قصيدته، يعبر عن إحساسه بالوحدة والوحشة، ولكن في كتاب، في سِفر غير سِفر أولئك الذين يسقطون من سماوات الحماسة إلى حضيض الهزيمة. فأسفارهم التي يحملونها تهرب، تنهزم من (الكون).
يقول: "فيا أيها المُولولون/ ويا نائحَات/ يا أنبياءَ الفواجع الجددَ ويا كُتّابَ المرثيات/ يا مدوّني الدّواهي/ يا عمّالَ المطابعِ الجريحة/ ويا ذوي العيون الموجوعة/ أيها الأحياءُ جميعًا/ ضَلالٌ أن تضَعونا في سلّةٍ واحدة/ كلُّنا لم تُبْدِنَا القذائف/ بعضنا ماتَ من فرط السلام/ بعضنا لم يُرْدِه قتيلًا/ غيرُ الضّجر".

وهو في هذا المقطع الهازئ من ميزان القوي المستبد الذي يستغفل البشر يعكس فلسفته تجاه ما يجري من عمليات قتل للآدمية المتبقية في الوجود، أو الوجوه، فيُصعِّد نزقه وبرمه من عالم ممزق مات الجمال فيه، وقد فقدَ التضحية والسمو الجليل، ولكن في سخرية: "مدنٌ هذه أم مرامد؟/ هل أنتم حضارةٌ من قَشّ/ أكلَتْها النّارُ بلا عَناء؟/ من أحرق أنسالَكم بعود ثقاب واحد؟/ من أطلق السّهم المشتعل على خيامكم؟/ من طلب منكم هذه الكومةَ من الجماجم والعظام/ ليجلس فوقها ويقهقه؟".
الشاعر السعيد يرسل ومضات تفصل ما بين الواقعي الذي يكونْ - القتلُ بلا مبالاة وبدم بارد، وما بين الخيالي المثالي الذي كان في الضمير الإنساني في مهده، في جماله الفطري، ما هذا القتل التقتيل، التخلص من الحياة! تجريد العالم من روحه بهذه العداوة، وبهذا التهتك.
الشاعر السعيد في حالة دهشة وفزع من هذا الفعل المتوحش للإنسان الذي أوصله إلى أن يكتب قصيدته ممزوجة بالألم والتألم، وقد فقدَ، أو كادَ أن يفقد، الأمل، فلا أحد يخدعه: "هذا كتاب الوجوه/ وفي بالي كلُّ الذين غَرِقوا، لأن البحر لم ينشَقّ، لأن/ العصا ما عادت سحرية، لم يستصعبوا الصعود، لم/ يتباطؤوا، ولا تَراخَوا، لكنّ أحدًا لم يَهُشَّ على الفرحِ/ ليدخلَ إلى أوردتهم".
عالمٌ خالٍ من الرحمة وهو يخرق قواعد الطبيعة الإنسانية، فيقتل البشر، ويسحق قلوبهم ورغائبهم الطفولية، لِمَ كل هذا التعطش للدم، لإراقة الدماء، ما هذا السباق الجنوني ليعيش البشر في حمىَّ، في حمىَّ التشنج والنوبات.
الشاعر يمضي، هنا، في طرح أسئلته العصيانية ساخرًا متهكمًا من الحقيقي والمحتمل، من المنطقي والميتافيزيقي، من التجربة والفطرة، فلا يضحك أحد على وعيه السببي، ولا على حضوره الكينوني: "هذا كتاب الوجوه/ وأنت أيّتها النوافِذ القصية/ التي على أطرافِ الكون/ تعاليْ/ اجلسي هنا في دواخلنا/ نريد أن نطِلَّ منكِ على/ أيّامنا المكسورة/ الهاربة".
والسعيد يحب ليس كأيِّ مُحب، فهو يحب ملابس حبيبته وعظامها!، والموسيقى. يسمع موسيقى في صورة تبدو سوريالية، موسيقى يبثها، ينشرها دم حبيبته، ينشرها في العالمين. لكن لا أحد سواه يسمع هذه الموسيقى، صار مُريدها، مريد حبيبته، هذا جنونه: "لقد أحببتُ كلّ ألبسَتِكِ الغريبة، ومن تحتها أحببت/ عظامَكِ، وتلك الموسيقى الخافتة التي يبثها دمك في/ العَالَمِينَ وهو يجول فيكِ ويتفسّح، ولا يسمعها أحدٌ/ سواي".

غارق في تأملاته، في حالة ذهول روحي، صورته، تصوراته كما لو أنها أدوات جراح أعصاب وأحاسيس، لتبيد الاكتئاب والتوحش واللامبالاة، شاعر مجنون بحبيبته ليس كأولئك الشعراء العذريين، إنما مجنون مثل جنون نابليون بالعالم، فالشاعر لما يحب، لما يعشق، لا يملك إلا قول الشعر، ولا أحد مثله يجيد فعل هذين الفعلين: "هو شعر لا يولد ليُطبع في الكتب، بل ليُنقشَ على/ مَخَانِقِك ومَفَارِقك، في مغابنك وباطن تَرقُوَتَيك، داخل/ نومك واستيقاظك".
يكشف السعيد في قصيدته (سفر الوجوه) زيف العالم حين يتعرى أمام الحقيقة، وعندما يحب كما في هذه القصيدة سنتألم، لأن الألم ضروري عندما يُهان الشاعر العاشق، عندما تُطعن كبرياءه ولا يستطيع الرد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.