}
عروض

في "سخافيا".. عبد الحليم حمود يسرد طفولتنا وتفاهة العالم

دارين حوماني

14 مارس 2021

"في جمهورية سخافيا الديمقراطية، الحكم مداولة.. عن دين دولتنا العتيدة أجمعنا على العودة إلى الوثنية. فتشنا في الغرفة ـ الدولة عن طوطم نعبده، أو صنم نبجّله، فلم نجد سوى مرآة مستديرة.. لن نعبد المرآة، بل وجوهنا فيها. نحن آلهتنا، بهذه العبارات يبني الروائي، والفنان التشكيلي، عبد الحليم حمود، جمهوريته التي يحلم بها، ورسالته الفلسفية التي بناها على دفعات منذ أولى رواياته "دفاتر نوح" (2016)، وحتى روايته الخامسة الصادرة مؤخرًا "سخافيا 2.77" (دار رواة، 2021) التي يدخل فيها مرة أخرى في متاهات الذات، مقتطعًا من سيرته الذاتية ما أمكن، حتى لنظن أنه يكتب رواية أوتوبيوغرافية، فنجد أنفسنا أمام عمل فلسفي تأملي في النفس الإنسانية يبحث فيه الراوي عن ذاته النافرة من كل الأفكار الكبيرة، ما استدعاه ليسمّي دولته الجديدة "سخافيا".



"سخافيا.. من السخف، العمل يستبطل كل العناوين الكبرى وقوانين الحياة التافهة"، يقول عبدالحليم حمود، و2.77 هو الوقت الذي احتاجه سقوط الرسام إدغار آحو إلى الأرض من الطبقة الحادية عشرة للمبنى المجاور لشقة الراوي، بعد قراره الانتحار، والتبرّع بقلبه عند الموت. سينتقل القلب إلى جسد الراوي، وستكون الرواية جزءًا من عالم نصفه متخيّل، ونصفه واقعي، حين كان الراوي بين الحياة والموت في الغرفة الطبية المجهّزة للحكاية. ستكون فصول الرواية معنونة بالثواني من النصف الأول للثانية، إلى الثانيتين وسبعة وسبعين جزءًا من الثانية. وعند مدخل كل جزء من الرواية، سيرافقنا أحد الذين شكّلوا أجزاء عالم عبدالحليم حمود: نيتشه، سيوران، تولستوي، رولان بارت، برتراند راسل، كونديرا، دوستويفسكي وآخرون.. سنعثر على عباراتهم التي شكّلت البورتريه الخاص برواية عبدالحليم حمود.



الزمن الأول والذاكرة
ذاكرة عبدالحليم حمود مثل إبرة بوصلة موجّهة بدقة نحو الزمن الأول للطفولة، حيث كان يقيم وأهله على خط "التّماس" بين البيروتيتين الشرقية والغربية وسط الحرب الأهلية. ألعاب الطفولة التي لن تتكرّر في أي زمن قادم، "غطاء علبة الحليب الذي كان لنا مقود سيارة، الزيز الملوّن المربوط بخيط، علب الكبريت مخازن القبابيط، الاختباء في الخزائن في لعبة الغمّيضة، لغز الغياب ونشوة الاختفاء، جرائم الطفولة الصغيرة، نحبس رؤوسنا بجراب نسائي شفاف، صفعات مس نجاة والدوموازيل هدى، البارجة الأميركية، بحقّ العرش والكرسي دمّر يا رب نيوجرسي، صاروخ فوق مطبخنا، نعدّ القذائف مثلما نعدّ النجوم، كنيسة مار مخايل المهجورة، غرفة الخشخاش، العظام والجمجمة المتشقّقة.."؛ يسعى حمود إلى التخفّف من ذاكرته، والذهاب إلى الهامش، والتخفّف من وعيه أيضًا "كيف أكون في منتصف مركز الوعي، وأسعى بكل طاقتي حتى أرتمي على شاطئ الهامش، وأسوأ ما في هامشيّتي أنني أعيها.. كل وعي اغتصاب لجوهر الأشياء.. تنمّطت حالات الغثيان عندي، تجتاحني في لحظات الصفو التي تسمح لدماغي بإدراك أدق الشواذات". يُفرغ ذاكرته كلها على طاولتنا، ويسترجع معها مراهقته في ثمانينيات القرن الماضي، حين بدأت الشرائع الدينية تدخل في تفاصيل الحياة اليومية بشكل مخيف، "منذ عرفتُ أن الأغاني حرام صرتُ أصنّف الطيبين والأشرار بناءً على علاقتهم بالغناء، فهو يقسّي القلوب ويمنع الملائكة من دخول البيت.. الإيشارب الصغير على رأس أمي بدأ يكبر ويتمدّد مخفيًا غرّتها السوداء، وبالفحم صرنا نكتب على الجدران إسرائيل شر مطلق".

ينادي حمود أجزاءه الدفينة، يعلّقها حتى تجفّ من أنينها العميق. ثمة مكان آخر للسينما الإباحية، وللشهوة، والتجربة الأولى في بار فاروق، وللشعور بالذنب أثناء الصلاة، وفي "الحوزة الدينية" تعرّف الراوي على إميل سيوران، فلاحق شطحاته، ومسح ذاكرته "تركتُ الدروس الدينية، وكل ما فيها من حور عين وعسل ولبن وخمر، وتبعتُ ذلك العدميّ الذي لا يملك شيئًا، ولا يملكه شيء.. لقد كتب أورويل في مزرعته لن يثوروا حتى يعوا، ولن يعوا حتى يثوروا.. وأنا ثرتُ ووعيتُ في الوقت نفسه.. بدأتُ بكتابة "صدمة الوعي" وأنا في الثالثة والعشرين، وها أنا في السادسة والأربعين، ولم يكتمل معي الكتاب".
في الثانية الأولى للسقوط، تصل رسالة إلى الراوي من شقيقه أسامة المتورّط في قضايا الآثار المهرّبة، واللوحات المزيّفة، في بلغاريا، يستعجله فيها للسفر إليه قبيل موته. وفي بيت أسامة في بلغاريا، سيجد الراوي هرة وأربع لوحات مزيفة لموديلياني، وحجاب تعويذة من الطفولة، ولكنه لن يجد أسامة. تأتي نرجس، صديقة أسامة، فتشاركه المكان والسرير، بعد أن تبلغه باختفاء أخيه. سيعرّفنا صاحب "وهم الأنا" في رحلة البحث عن الأخ الغائب على شوارع بلغاريا وأسواقها، وعلى الغجر المقيمين هناك، وعلى علاقة الشعوب بالأشياء التي تظن أنها متصلة بالله مقارنًا بين أشيائهم وأشياء أمه ومحيطه في بيروت. لقاء مع أحد معارف نرجس يطلب منه عملة نقدية نادرة من زمن الخلافة الأول للمسلمين كانت في حوزة أخيه، ستكون كافية لبثّ الرعب في نفسه، سينفصل عن العالم مع نرجس في شقة أخيه، خائفًا من الذين يفتشون عن العملة النادرة، فهم "لن يصبروا كثيرًا".
في المكان المغلق، سيخبر الراوي صديقته المفترضة عن "صدمة الوعي" التي شكّلت إدراكه اليقيني بانفلاته عن طفولته، وعن القرف الذي بدأ يتسلّل مبكرًا إلى طباعه، وعن إنجازات الإنسانية التي ستنتهي بـ"الخيبة الكبرى التي ستصدم الإنسان بمقدرته على إدراك كل شيء.

إنه الوعي الصادم بعد تفكيك الضباب". في منتصف الخوف من الشخص الذي يحاول خلع باب الشقة، يسترجع صاحب "يوري إله السمكة السوداء" أجزاءً أخرى من العالم الذي صار بعيدًا جدًا، "كانت الجدران في حيّنا مقابر للشهداء الذين يراقبوننا عبر بوستراتهم، بدورنا كنا نرسم لهم الشوارب، ونضع الأسود على أحد الأسنان ليبدو مسوّسًا".. يحكي حمود كأنه يؤرشف حوارات الأطفال مع الموت، أولئك الذين ألفوا الحرب، فكان احتمال الموت متواصلًا، "وقعت الحرب.. كيف لأولاد في الحرب أن تكون لعبتهم بهذا الاسم: وقعت الحرب.. جميع تداعيات أفكاري تؤكّد أننا كلنا ضحايا، حتى لو كبرنا وغدونا وحوشًا. دائمًا علينا تقفّي مسار تطوّر الوحش فينا".



أسئلة لانهائية
"حين تطلب من الله فكن مثل ألان شستوف الذي طالبه بما يفوق المستحيل، أن يعود بالزمن ليلغي حدثًا عرفته البشرية، أن يحمل ممحاة ويلغي الأمر، أن يخرق قوانين لا يستطيعها.. أن تجيب الإله كما أجابه غلغامش حين سأله: لماذا رغبتك في محاولة المستحيل؟ فقال: طالما هذه الرغبة ممنوعة عليّ فلماذا خلقتها فيّ؟"، هكذا يدخل حمود في الأسئلة اللانهائية، ويتابع توغلّه في مسار البشرية. تبدو الرواية مثل وثيقة بمشهديات سيكولوجية تفحص خراب الإنسان منذ الطفولة "أزمة بعض المجتمعات أنها تورث أبناءها البطولات القديمة والأساطير الدينية البعيدة والأحلام اليوتوبية المؤجّلة، فتقضي على المسار الإنساني الفطري، ليصبح الفرد إبن البيئة العامة مجرد امتداد لتوليف اجتماعي بنيوي قديم، وبذلك يولد الأطفال في هذا المكان كبارًا يتكلّمون بصيغ الماضي، مثل سيارات لا تتحرّك سوى للخلف.. في الغالب، يرث الإنسان أكياسًا ضخمة من الكلام، بعضه عفن، والبعض ليس له جدوى". وفي الشقة المغلقة على الخوف، سيبني حمود مع رفيقته جمهوريته التي يحلم بها "سخافيا"، وسيضعان لها شعارًا "بلا سماء بلا شرفة/ لا سجادة للعبادة/ قدح عرق وقهوة سادة"، وسيخترع معها طقسًا للمواساة ككل الشعوب "مثل خيبة اليهود عند حائط المبكى، أو قيامة المسيح بعد صلبه، أو قطع رأس الحسين"، وسيُجمعان على العودة إلى الوثنية.

في مركز الشرطة، سيعرف الراوي أن أسامة قد قُتل بحادث سير مدبّر، وأن صديقته كانت تعلم بذلك، لكنها كذبت. يعود حمود بنفسه إلى نقطة البداية، إلى طفولته مع أسامة في المكان الذي وُلدا فيه، هناك حيث يبكي المرء الغياب قبل الغياب "لا يحتاج سببًا ليبكي، الوجود بعينه فناء عزاء".. حمل أسامة السلاح مبكرًا، انتمى إلى الجبهة الديمقراطية، ثم إلى الحزب الشيوعي، ثم عاش صدمة انهيار المنظومة الاشتراكية وهو في بلغاريا، فراح يتاجر باللوحات المزيّفة، "وكأنه ينتقم من سنوات الصدق الثوري، وخدمة الفقراء، وتوزيع جريدة الحزب"، لقد توقف الزمن هناك. بحث الراوي عن أي شيوعي قديم في بلغاريا ليخبره شيئًا عن أخيه بعدما تبيّن له أن صديقته كتبت رسالة أسامة الأخيرة له لتستدرجه ليأتي إلى بلغاريا. وسيتبيّن له في ما بعد أنها وقعت في حب هذياناته التي وصلت إلى أخيه في بلغاريا على شكل قصاصات ورقية بخط يد مريض في فترة العلاج في المصحّ، فقرّرت ممارسة "العلاج بالمعنى" عليه، وكأنها تستدعيه للحياة، ليجد سببًا للحياة ومعنىً لها. كانت نرجس تفكّك قصاصات الورق بكل عذابات كاتبها الداخلية، وتسأله: "ماذا تفعل أغراض رجل الدين في حقيبة رجل لاديني؟" هي طفولته التي يحمله على ظهره، يكتبها عبد الحليم حمود لكي يتخفّف منها، لكي لا يعيشها مرة أخرى.
"لم يزرعوا لي قلب إدغار، بل أحزانه، قلقه، ونظراته المسخّفة للنظام الكوني.. في وطننا العبثي، يستحق بعض الموتى بطاقات انتماء للأماكن التي تقدّر جرأتهم على الصراخ.. من شروط الكرامة أن تحجز لكيانك مطرحًا في مكانين معًا.. تستطيع اللعب في فراغ ما بين النقطتين.."، يكتب حمود هذه الكلمات في الجزء السابع والسبعين من الثانية الأخيرة كأنه يوزّع علينا أساه الداخلي من العالم بأسره، وشعوره بتفاهة العالم، ويلقي علينا مهمّة رسم نهاية عن أولئك الذين يبحثون عن ذواتهم، أولئك الذين بدّلهم الوعي تمامًا. لا ندري هل كانت الرواية جزءًا من هذيانات الرسام إدغار آحو أثناء سقوطه من الطبقة الحادية عشرة، أم هي هذيانات أسامة أثناء عملية نقل القلب؟ الراوي هو نفسه أسامة، لم يكن يبحث عن أخيه، كان فقط يبحث عن ذاته، وعن معنى للحياة، "هل أنا وأنتِ حقيقة؟ يكاد السياق يفلت مني فلا ألتقط الجزء المتخيّل من الجزء الذي عشته"..
"تنتمي الرواية إلى ما بعد الحداثة، إلى النهايات المفتوحة على عدة سياقات وعدة مخارج، إلى استفزاز الدماغ والوعي".. سيخبرنا حمود بهذه الكلمات عند حديثنا معه عن الرواية التي ستحاصرنا بذكرياتنا وتشوّهاتنا، بنظرات خاطفة من زمن لا يزال عالقًا داخل جيوب معاطفنا يأخذ مقاسنا للموت كل مرة، فنحوّله دائمًا إلى وعي آخر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.