}
عروض

رواية "ملاذ العتمة".. لقطات سينمائية عن طبيعة الكائن البشري


روايةٌ، لوحةٌ، لقطات طويلة لفيلم سينمائي حملته رواية "ملاذ العتمة" (دار موزاييك للدراسات والنشر ـ إسطنبول 2020) للكاتب السوري ضاهر عيطة. لقطات متضامنة في ما بينها لا يمكن تجزيئها، وهي تصوّر المتضادات؛ الشيخ الدكتور عاطف، إمام مسجد زين العابدين بدمشق، الذي يمثل الموالاة ـ النظام، في الحراك السوري الذي بدأ عام 2011، ولم ينته بعد. شيخ، إمام مسجد، لا يتورع عن سفك وإهدار دم من يعارضه، حتى لو كان دم تلك الفتاة (غفران) ابنة الشاعر الذي اعتقل وتمت تصفيته بسبب مواقفه السياسية المعارضة لآلة الحرب التي طحنت البشر والحجر. غفران، هذه، يحبها هذا الشيخ الذي تصفه غفران لما ذاقت رعب الفرار في البحر: "يبتلعني البحرُ، لا لم يبتلعني، فقد استطعتُ النجاة منه، لكنه ابتلع من لم يعتد من قبل على الغوص في مياه مثل مياه بردى، ليتني أستطيع النوم، فلا أسمع صراخهم وهم يستغيثون، صراخهم يضنيني، وعاطف في المسجد يكبِّرُ باسم الله، ويعلن أمام المصلين أنَّ كل من تمردوا على النظام ليسوا إلا عصابات إرهابية". مثل هؤلاء المشايخ، الذين يتعاملون مع الدين بمثابة دريئة ومظلة لارتكاب وتبرير جرائمهم ضد الناس مستغلين إيمانهم بالرب الذي يوصيهم بطاعة أولي الأمر منهم لا عدَّ لهم، بعد أن كشفتهم هذه الحرب.

عاطف، ما إن تهرب غفران، التي تمثل المعارضة السلمية، التي كان قد اختلى بها وذاق حلاوة عسيلتها، حتى يضنيه عشقها وهو الذي كما تروي غفران: "وكما هو يؤذن للصلاة على الملأ، كان يؤذن في أذني، داعيًا إيَّاي إلى الجلوس في حضنه، وإخراج حلمتي صدري من فتحة الثوب ليتذوقهما، ويحثهما على النضوج أسرع. صدى الآذان المنبعث من المسجد يتردد في رأسي، أحس بدوار ينتابني، ثم يصبح هذا الإمام المسحور بتفتح براعم صدري سببًا في حصاري ومطاردتي، وتجويع وهلاك كثيرين". غفران تهرب إلى ألمانيا، إلى المنفى الأوروبي مرغمة، كونها صارت مطلوبة للقوى الأمنية التي قد تزهق روحها كما أزهقت روح والدها الشاعر، وأرواح كثير من السوريين. فتحل "سيلينا" الصحافية الألمانية التي جاءت إلى دمشق لتكتب عن أحداث ربيعها محلها، فتتعرف على الشيخ الدكتور عاطف، إمام المسجد، وترى فيه ذاك الفحل الشرقي، وتعتبره غنيمة ثمينة، وهو ما ييسِّر لعاطف الذي كان وقع في أسر حب غفران السفر إلى ألمانيا للحاق بها، لأن وسواس التجسس والتلصص على الضحايا، وغفران ضحية، كما غيرها، هو هاجسه. طبعًا، سفره إلى ألمانيا، وإن كان من أجل عشقه لغفران، فهو ليس نزهة، وليس مغامرة، وليس فضولًا سياحيًا، أو معرفيًا. بل هو سفر القاتل الذي يرسم وينفذ مصائر ضحاياه وقد أصيب بالهوس الجنسي، فكل ما يجذبه إلى غفران جسدها الفاتن، كما يروي، رغم أن سيلينا جاهدت أن تعوضه في الفراش بكل ما عندها من الشبق الأوروبي عن غفران، سيدة روحه، التي كان يدعو المولى في سريرته أن يهديها، ويجنبها المعاصي والفتن، لكنها كانت تضرب بكل أدعية الشيخ عاطف عرض الحائط، وتصرخ ملء صوتها في الشوارع (الشعب يريد إسقاط..)، فيما كان شقيقها "ملهم" قد أقسم على قتلها لو اجتمع بها كونها خائنة خرجت عن رأيه، تخالط الرجال المخربين، وتساعدهم على هذا التخريب، ولأنها تعادي "السلطة الشرعية".
الروائي ضاهر عيطة، وفي سرد أقرب إلى اللقطات السينمائية، يكشف لنا غاية الشيخ الدكتور عاطف وباعثه ومادته وشرهه وشبقه، نتانته، ظلمة أعماقه، تردداته، تشابكاته، توحشه، تغوله، ضعفه وخواره. وذلك في حكاية متلاحمة، حكاية عاطفية فكرية مؤثرة، من حوادث إنسانية تهز قارئها هزًا عنيفًا، لكأن الحياة في الرواية التي يحرك صراعها مدعي التدين المتأسلم عاطف تكشف غرائزه الشهوانية المتوحشة، والداعرة، وهو الإمام الخطيب الأستاذ الجامعي، وهذا ما أراد تحقيقه ضاهر عيطة، في سرد غير مصنوع، أو مصنَّع. غفران تذهب إلى اللذة المؤلمة للجنس، فيما سيلينا تعيش ألم اللذة في فراشها وفي بيتها الألماني مع الشيخ عاطف، الذي تجهد وهي تمثل دور غفران لإرضائه، فيكف عن البحث عنها، فهو دائمًا يتخيلها في فراشه، وإن كان يضاجع سيلينا، إذ وبغتةً كما تروي سيلينا: وفي أوج رحلة كنت أقضيها بين ذراعيه، أحسها عمرًا، وإذ بكائن ثانٍ يحتل مكاني في وجدانه، حتى أكتشف، أن كل هذا الهيام بروحي وجسدي لم يكن إلا هيامًا بغفران. فأسقط عن بساط الريح الذي حملني فوقه، ألمح سقوطي، وما من حبل نجاة أتمسك به لأحول دون ذلك، إلا حبالها، فأمسك بها، أشد عليها بقبضتي، أتوسل روحها أن تنقذني من السقوط.

الشيخ عاطف، الذي انشغل في ممارسة الجنس مع سيلينا وهو يتخيل أنه في حضن غفران كان في دمشق، أو ألمانيا، كان يعرف ويرى أن الناس في سورية يستيقظون صباحًا على رائحة الجثث، أو على جثة مكوَّمة في حاوية القمامة، والقمامة تملأ الأزقة والأحياء، وما من أحد يجرؤ أن يصلي على جثة، حتى الأهل يتنكرون لها، ويتمنون على الأقارب والجيران ألا يعلنوا عن أهل القتيل، أو القتيلة، فكل قتيل، أو قتيلة، كل مذبوح ومذبوحة، كل مهجر ومهجرة، وكل جائع وجائعة، هم خونة في وطني. هكذا تصف غفران حالة الرعب والخوف التي عاشتها في سورية. وتزيد بأن رائحة الموت كانت تستجر الكلاب وهي تتعارك على جثة، على ساق فتاة ملقاة في مكب القمامة، على رأس رجل وجد في كيس بلاستيكي أسود مرميًا على قارعة رصيف، بل وتم تقطيع الأشجار المحيطة بنهر بردى، وبيعت أخشابًا من قبل ضابط كبير، وبإشراف الإمام عاطف، بحجة أنه يمكن أن تكون مأوى للإرهابيين.
الروائي ضاهر عيطة يدرس في "ملاذ العتمة" حالات قضائية لجرائم حقيقية، ولا أحد يهتز له وجدان، أو ضمير، عمليات قتل تتم بلا شفقة، وبمنتهى الشراسة. وبدفق، سردٍ سيال ساخط، ينهي الروائي حياة الشيخ الإمام عاطف وقد شنق نفسه في غابة ألمانية، حيث كان يبحث فيها عن غفران. وعلى الشجرة التي كانت تقف قربها، حيث كان عاطف يتدلى من أعلاها، وبثيابه التي كان يطاردها بها، وقد تداخلت صورة هدى وهي تشنق نفسها في دمشق مع صورة عاطف الذي كان وراء انتحارها.
ضاهر عيطة في "ملاذ العتمة" قدم بحثًا، دراسة، فيلما سينمائيًا عن طبيعة الكائن البشري وهو يصرخ، ينبح. وهو يعيش حياة رخوة، وقد صارت روحه تتفسخ بعد أن تأكد أنه خان إنسانيته، فيدخل في لحظة مكاشفة يعاقب فيها نفسه بالعدم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.