}
عروض

"الساعات الأخيرة على الأرض".. بليز ساندرار شاعر اليد اليسرى


نقدم للقارئ العربي مختارات من شعر بليز ساندرار "الساعات الأخيرة على الأرض"، من خلال دار خطوط وظلال(*). وكنت سنة 2014 قد ترجمت مختارات لهذا الشاعر جاءت في كراس صغير، من أجل اختبار درجة استقبال القارئ العربي لساندرار، الذي يكاد يكون مجهولًا على الخارطة الشعرية الفرنسية، التي سادت فيها أسماء شعرية باتت معروفة، لكن بشكل جزئي، رغم كل شيء.. لكن يمكن الجزم بأن شعر ساندرار يُتَرجَم هاهنا، في هذه المختارات، لأول مرة إلى اللغة العربية، والهدف هو اكتشاف صوت شعري صاف، سيبرز أهميته الكاتب والدبلوماسي الفرنسي، بول موران، في المقدمة التي سيطلع عليها القارئ في التقديم الذي وضعته دار غاليمار للأعمال الشعرية الكاملة. كما سأحاول، بنفسي، أن أضيء جوانب من شخصيته، وشعره، والتطور الذي خضع له الشاعر وقصيدته، طيلة مراحل من خوض تجربة حياة صعبة واستثنائية.
امتلكتُ انطباعَ أن الفرنسيين لم يقولوا كل شيء عن ساندرار. أمام هذا الفراغ الهائل، أو الصمت، إن شئنا، لا بد من إخضاع شاعر اليد اليُسرى إلى منهج التحليل النفسي. لقد كان يتعفن. يرى الكوابيس باستمرار، من ذلك النوع الذي يفترس مبتوري الأعضاء. فمرة يشبه نفسه بدجاجة تفقد ريشها بسبب إصابتها بالجرب (هذا التهيؤ حاضرٌ عند لوتريامون، وأندريه جيد بعده)، ومرة يصف كيف كان ثملًا إلى درجة فقدان الكلام، ثم السقوط في الشارع. إن السقوط في الشارع لا يساوي شيئًا عند جندي فقد يده في ساحة المعركة. كيف تاه الفرنسيون عن كائن يرتجف دومًا، كائن سيبيري، خرج من معطف دوستويفسكي، ومات مبتور اليد، لا يمد للناس سوى يد وحيدة؟ فهل قرأتم، في مشارق الأرض ومغاربها، لشاعر قصيدة تحمل عنوان "؟"، وهل قرأتم لشاعر يكرر ثلاثة أبيات في قصيدتين؟ بل ويهدي القصيدة الواحدة لفنانين نحاتين، ليسا من فرنسا، بل روسيين من أشهر مؤسسي الفن التكعيبي؟ بليز ساندرار كان مهووسًا، مبتورًا، متعفنًا، ففضل الفرنسيون عليه أبولينير، وماكس جاكوب. ولمَ، وهذا الشاعر غائب عن وعيه الشعري، وعن محيطه الذي لا يعي به إلا حين يكون صاحيًا يدخن ويشرب ويتحسس يده اليُمنى المبتورة في ساحة شرف ما، فصعدت إلى السماء وبدأ يناجيها في نجمة "أوريون" الساطعة (اقرأ قصيدة "أوريون" في هذه المختارات).

ساندرار الذي رأى كل شيء، كما جاء في مقدمة بول موران، لماذا لا يرى سوى ذاته الداخلية؟ لماذا ينسحب إلى الأشياء الصادمة: جبين ابنه يشبه العضو التناسلي لوالدته؟ هو يشبه الدجاجة الفاقدة لريشها؟ مخاطبته لمتلق (قارئ) مفترض بالسب والشتم؟ ثم إن عناوين مجموعاته الشعرية هي شقيقة سيميائية للشقاء الأبدي؛ "في قلب العالم"، و"من العالم أجمع"، و"خارطة الطريق"، و"اليد المبتورة".... التيه، الساعات المتبقية على الأرض هي لوحة الشاعر الذي يملك لغة داخلية.
ما درجة الإحساس بالصدمة حين نسمع شخصًا يخاطب ذكاءه: إلى أين ذهبت يا ذكائي الجميل؟ اليدُ مبتورة، والذكاء أيضًا. إنها فاجعة داخلية تفجرها القصيدة.

***

تحل ذكرى ميلاد الشاعر بليز ساندرار يوم الفاتح من سبتمبر/ أيلول من كل عام. ولد في الفاتح من ذلك الشهر 1887 في "شو- دي - فوند" في سويسرا، وتوفي في باريس يوم 21 يناير/ كانون الثاني 1961. في بداية حياته الأدبية، كتب، لمدة قصيرة، بثلاثة أسماء مستعارة: فريدي سوزاي، وجاك لي، وديوجين. غادر سويسرا في السابعة عشرة من عمره ليقيم في روسيا، وفي 1911 أقام في نيويورك. في باريس، نشر تحت اسم بليز ساندرار، الذي يحيل، ولو عبر تحريف بسيط، إلى الجمر والرماد، والذي أيضًا يولد دوائر دلالية أسطورية لطائر الفينيق المنبعث من رماده. شارك كجندي متطوع في صفوف الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى. يوم 28 سبتمبر/ أيلول، بترت يده بعد إصابة خطيرة. عن هذه التجربة، كتب "اليد المبتورة"، و"شاعر اليد اليسرى". عاش هذا الشاعر العظيم تجربة غنية من السفر والترحال الدائمين ضمنها مجموعاته "في قلب العالم"، و"من العالم أجمع"، و"اكتشاف البرازيل".

"كتلة شعرية لامعة مهداة إلى أرخبيل الأرق"، هكذا وصف هنري ميلر في روايته "مدار الجدي" حياة وأثر بليز ساندارار. وفعلًا، حياة وأعمال هذا الشاعر مرتبطتان أشد ما يكون الارتباط. وقد قام بإبراز هذا الارتباط واحد من أكبر دارسي ساندرار، هو الناقد الفرنسي، لويس بارو، الذي قدم دراسة رائدة بالاعتماد على شعره ورواياته ويومياته التي هي في المجمل تعبير عن مضمون روحي، وفي الوقت نفسه  تأسيس لجنس أدبي جديد.
إن تاريخ هذه الأعمال الأدبية هو في الآن ذاته تاريخ لحياة متعددة الأشكال، فقط لهذا الشاعر الذي يتعاظم حجمه كلما توارى مع الزمن. أما تاريخ حياته فهو ماثل في كل تلك الأعمال، التي تسمح لبعض الكتاب بتقديم كثير من العواطف الخاصة بمسارهم. وقد انضم إلى دارسي ساندرار كاتب سيرته جاك ـ هنري لوفساك، الذي قدم مادة سيرية لا غنى عنها لكل دارس.
من القضايا التي ركز عليها هؤلاء الدارسون أن ساندرار لا يستطيع الثبات، فحياته مليئة بالمناسبات والمحطات التي كان يجدد فيها حركته منذ 1902، حين شعر بأنه مهدد في أغلى شيء يملكه في العالم، في تلك الحرية التي ألهمته أعذب صفحات كتابه "الإنسان المصعوق".
جاء ساندرار إلى باريس في ذلك السن الذي يتابع فيه الأدباء الشبان، وبكل حكمة، دراساتهم، ويبحثون عن مجلة أدبية يراسلونها، وينشرون نصوصهم فيها. لكن ساندرار، بخلاف هذه الفرضية، لم تكن في حوزته أي شهادة. وبين رحلتين، التحق بكلية الطب في "بيرن"، وسجل نفسه طامحًا في أن يكون بين طلبتها، وكانت تلك إشارة إلى أنه رجل يعرف قيمة الدراسة والعمل معًا، "فهو لم يتوقف يومًا واحدًا عن المواجهة. وعن بصيرة، يعرف استخدام المعارف المختلفة التي استجمعها، وينتهز كل فرصة سانحة لتوظيف مواطن القوة تلك. غير أنه لم يسجل ملاحظة واحدة خلال رحلاته، ولا كتب بيتًا شعريًا واحدًا، كل ما هنالك أنه كان شديد الاعتماد على ذاكرته، ويعرف أنه كانت وستبقى، دائمًا مخلصة إليه، وأن عليه واجبًا واحدًا تجاهها؛ أن يستمر طيلة سنين حياته وعيشه في إغنائها".

في سنة 1907، بلغ ساندرار سن العشرين، في تلك السنة استقر في ضاحية باريس: بدأ المغامر الشاب في العمل في تربية النحل. "فأصبحت له عدة خلايا نحل في "مولتان". وكان يقضي أياما طويلة على ضفاف قناة أورك ممددًا على العشب رفقة بطلات يوميات أسفاره، وهو يستمع لأصوات طائر القُرْقُب والدُخّلة". وذلك ما جعل منه شخصًا غنيًا: "ثمانية آلاف فرنك من العسل في السنة، كنت غنيًا".
ارتبط ساندرار بعدة شعراء وكتاب فرنسيين، مقلدًا في ذلك النحلة التي تجمع رحيقها من كل زهور، وقد توقف الناقد البلجيكي، روبير غوفان، الذي يعرف شاعرنا معرفة تاريخية وشعرية عميقة، عند صداقته بشاعر فرنسا الكبير غيوم أبولينير، الذي ربطته به صداقة من أكثر الصداقات اكتمالًا، مدعمًا رصده لتلك العلاقة بالاستشهادات الأكثر غنى. وأجاب عن سؤال: إلى أي درجة كان غيوم أبولينير متأثرًا ببليز ساندرار؟ وقد كان عشاق صاحب ديوان "كحول" لا يحتملون هذا التلميح. فكانوا مخطئين حين اعتبروا أن ذلك يمس من قيمة وعبقرية أبولينير. لكن الحقيقة الأدبية، لنعترف بذلك، هي أن هذا الأخير عرف ببراعة كيف يوظف تلك الوصفة الأدبية الجديدة التي جاء بها هذا الشاعر المجهول الذي قدم إلى باريس سنة 1910.
بعد إقامة طويلة في عاصمة فرنسا، انتقل ساندرار إلى الولايات المتحدة، وبعد عودته التي بدت للجميع نهائية، في ربيع سنة 1912، التحق بمرسم "دولماي"، وكانت في جيبه قصيدة "أعياد الفصح في نيويورك"، فألح أصدقاؤه كي يقرأها عليهم. وذلك يعطي فكرة كيف كانت الأمور تجري شعريًا في فرنسا. لكن لننصت إلى روبير غوفان: "شحب وجه أبولينير... فقد بلبله شيء جديد. بقي صامتًا ينصت إليه، وعيناه مغمضتان. فشعر الجميع بأن ريح هذا العبقري عصفت بالمرسم. فهنأ أبولينير صديقه الشاعر، واعترف بتأثره الشديد، بل إنه طلب مخطوطة القصيدة التي قرأها، وبدأ يقرأها في صمت. "هذا رائع"، قال أبولينير، مقارنة بهذه القصيدة، ماذا يساوي الكتاب الذي أهيئه؟". ثم تحدثا عن أشياء أخرى، لكن الجميع شعر بأن أبولينير قد ارتج... وبعد بضعة أسابيع، كتب أبولينير قصيدته "منطقة". كان ذلك في سنة 1912، أو 1913. وقد اعترف الشاعر الدادائي، تريستيان تزارا، أن ساندرار حين قرأ مجموعة أبولينير "كحول"، لاحظ أن صديقه، عوض احترام التسلسل التاريخي الذي جاءت فيه قصائد المجموعة، بين 1808 و1913، وضع قصيدة "منطقة" على رأس قصائد المجموعة، كما لو أنها كتبت سنة 1898. وقد أكد روبير غوفان، مرة أخرى، أن" موركير" حين نشرت "كحول" سنة 1913، كان ساندرار قد نشر منذ سنة، أي في 1912، قصيدته "أعياد الفصح" في باريس وأميركا.
لكن ساندرار، ومثلما جاء في إحدى قصائده، كان كل يوم هو يوم جديد، وكل قصيدة لا تشبه نفسها: "هذا الصباح هو أول أيام العالم".
ساندرار، أيضًا، موسيقي كان يجهل قيمة ما يملك، ولا يعرف إلا بمحض الصدفة. ذات يوم، في أبريل/ نيسان 1912، كان تائها في شوارع نيويورك. لم يتناول الطعام طيلة اليوم. لكنه لم يكف عن السير. فانتابته نوبة هذيان من النوع التي يسببها التعب والجوع. وبينما هو مار من أمام كنيسة، رأى ملصقًا يعلن سهرة موسيقية في تلك الليلة  (لهايدن).
تذكر ساندرار بأنه كان موسيقيًا لامعًا. منذ أشهر لم يستمع لموسيقى أخرى غير تلك التي يعزفها المهاجرون الليتوانيون. في "نوشاتيل" كان يعزف على آلة الأرغن والبيانو، فاكتشف فيه أستاذه آنذاك نوعًا من الإبداع الباروكي، ومن السخرية، وهو أمر نادر في الموسيقى (متعلق بأسلوب موسيقي ساد في القرن السابع عشر، من مميزاته الحركية والحرية في الشكل الفني وفي العزف الموسيقي). استمر ساندرار في السير على الطرقات. كان الثلج يسقط. وقد وجد لويس بارّو أن هنري ميلر استلهم هذا اليوم البائس في روايته "مدار الجدي": الليل، شوارع نيويورك تذكر بصورة صلب وموت المسيح. عندما يصل الثلج إلى الأرض، ويسود الصمت المطلق، تنبعث من شناعة عمارات نيويورك موسيقى احتفالية لحزن، ويأس وإفلاس تجعل الجلد يتقلص. سمع ساندرار تلك الموسيقى التي كانت أليفة لديه. واتبع نغمها كأنها أول موسيقى في العالم.

حين يمر ساندرار من شارع، في نيويورك، أو باريس، في الصباح، أو في منتصف اليوم، وهو يشير إلى الزمن، مثل كل رحالة، أو عابر في الأمكنة، كان يصيخ السمع إلى موسيقاه. غالبًا ما كان يكتب هذه العبارة الشجية "ذات صباح جميل"، لنقرأ قصيدة "الزنبقة الحمراء" من مجموعة "اليد المبتورة": "أوه، أوه، أنظروا... أي فظاعة... أوه، أوه ، أوه ... لقد وثبنا ونظرنا في سبات، على بعد ثلاث خطوات من "نافال"، واقفة وسط العشب مثل زهرة كبيرة متفتحة، زنبقة حمراء، يد إنسان تسيل دمًا، يد يمنى مبتورة من أسفل المرفق...". إنها يد ساندرار التي بترت في الحرب، ورآها في قصيدة أخرى تصعد إلى السماء وتتخذ شكل نجمة لامعة. أين اختفت تلك اليد التي كان يكتب ويأكل ويحارب بها؟ هذا ما يؤرق الشاعر، فتارة يراها تقطف زنبقة، وتارة أخرى تصعد إلى السماء بين النجوم. لعل مجمل شعره ينتمي إلى ذلك النوع من الهذيان الذي يقض مضجع مبتوري الأطراف ويقلق لياليهم.


(*) نص مقدمة كتاب "الساعات الأخيرة على الأرض" لبليز ساندرار الصادر مؤخرًا في الأردن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.