}
عروض

"لا أحد ينصت للأغنيات".. آنا أخماتوفا إذ تُغنّي للحُبّ

عماد الدين موسى

23 أبريل 2021


تعتبر الشاعرة آنا أخماتوفا (1889- 1966)، من أكثر الأدباء الروس الذين أخذوا موقفًا نقديًا مناهضًا لثورة أكتوبر 1917، وقد كافحت طويلًا من أجل أناها الإنسانية الشاملة ضدَّ فكرة الجنون الشيوعي بنموذجه الستاليني الذي استبدَّ بالإنسان السوفياتي. وقد عبَّرت في سيرتها الذاتية عن ذلك بقولها: "أنا لم أكن وحدي، كنتُ مع بلدي كله الذي كان يقف في أرتالٍ طويلة جدًا أمام السجون".

في كتابها الشِعريّ الجديد "لا أحد ينصت للأغنيات"، الصادر حديثًا عن دار هنّ في القاهرة (2021، ترجمة: عبير الفقي)، نتعرّف على الوجه الآخر للشاعرة، حيثُ الرقّة والشاعريّة في أوجهما؛ إذْ تبدو العواطف الإنسانيّة والحبّ الأكثر سيطرةً على أجواء معظم قصائدها:
"أنا في الإجمال،
ولدتُ في الوقت المناسب
ذلك هو العصر الوحيد المبارك.
غير أن الربَّ العظيم لم يدَع روحي المسكينة
تعيش دون خديعة على هذه الأرض.
ولهذا، بيتي مظلم
ولهذا، كل أصِحابي،
مثل طيورٍ حزينةٍ، تنهضُ في المساء
وتغني للحب،
الحبُّ الذي لم يوجد مطلقًا على الأرض!".


ما بين الفنان والديكتاتور
أخماتوفا، التي كتبت الشعر وهي في سن الحادية عشرة، وصدر ديوانها الأوَّل عام 1912 بعنوان "أمسية"، كانت قد زارت باريس مرتين، الثانية في عام 1911، وخلال رحلتيها التقت بالفنان والرسام الإيطالي أميديو مودلياني، 1884-1920، الذي رسمها في 16 لوحة، بعضها بالألوان الزيتية وبعضها بالأسود. 

آنا أخماتوفا 

تقول أخماتوفا عن صداقتها بمودلياني بأنه يعيش في فقر مدقع، حتى أنه لم يكن قادرًا على دعوتها للجلوس في مقهى ودفع ثمن فنجانين من القهوة. وقد كتبت في مذكراتها عن تلك العلاقة به: كانت حياة مودلياني قصيرة، وحياتي طويلة. وفي مكان آخر كتبت عنه: كان يبدو أنه يعيش في حلقة من العزلة. لم يذكر أبدًا اسم صديق، لم يتفكه أبدًا. لم يتحدث أبدًا عن غراميات سابقة، أو عن أشياء دنيوية. كان مجاملًا بنبل، وكان ينحت تمثالًا في فناء ملحق بالأتيلييه.
وما بين الفنان والديكتاتور تكتبُ آنا أخماتوفا أشعارها بألمٍ حيوي عن حالة التوحش التي حكمت بها الدولة شعبها الذي كان في حالة ذهول روحي لما يجري له بين خوف هستيري من الموت إعدامًا؛ كما جرى حين أُعدِمَ زوجها الأول الشاعر نيقولاي غوميلوف بتهمة الاشتراك بمؤامرة معادية للدولة، والذي كان أحد أبرز أعضاء "ورشة الشعراء" الشهيرة، ومؤسِّس مدرسة "الذروة الروحية" في الأدب الروسي، وكذلك زوجها الثالث نيكولاي بونين الذي تمَّ اعتقاله لذات الأسباب، وابنها الوحيد ليف غوميلوف الذي حُكم عليه بالإعدام واستبدل بالسجن والنفي وأمضى في معسكرات الاعتقال 14 عامًا، وأيضًا صديقها الشاعر مندلشتام الذي لقي مصرعه في عام 1938 في معسكر اعتقال، ما أثار روعها فكتبت قصيدتها "النشيد الجنائزي" ما بين 1935 – 1943.
وبسخريةٍ شديدةٍ وقد أهينت إنسانيتها، وبكبرياء الشهيد، وبقلب طفولي، وبحسٍّ متوهج بالأمل غير آبهة بسوط الجلاد، تصفُ أخماتوفا في ذات القصيدة سجناء رأيٍ تبعث بهم الدولة القمعية إلى جحيم المعتقلات، ولكن في قدَّاسٍ: 
"لا نعرف كيف نقول وداعًا
نهيم على وجوهنا، كتفًا بكتفٍ
والشمس قد غابت بالفعل.
بمزاج متقلب أنت، وأنا أتبعك كظلك.
دعنا ندخل كنيسة لنشاهد،
تعميدًا، أو زواجًا، أو قداسًا من أجل الموتى.
لماذا نختلف عن البقية؟
في الخارج نجلس عند المقبرة فوق الأغصان المتجمدة
يتأسى كل منا على الآخر،
وتلك العصا التي بيدك تتبع القصور
سنكون بها دائمًا معًا!"

آنا أخماتوفا 


وبين الخوف من الحياة؛ الحياة التي يعيشها الإنسان السوفياتي الذي كما تقول آنا أخماتوفا: لقد نُهب وبيع كل شيء، ويعاني الجميع من الأسى والجوع؛ يؤلمها مشهد البشر وهم في هذه المعاناة وقد قُتل البطل في أعماقهم، وصاروا في حالة خمول روحي كأنهم ديدان أو حشرات، وقد خٌدعوا:
"أشربُ نخب البيت الخرب.
ولشرور حياتي،
ولوحدتنا التي نحياها معًا.
ولأجلك أشرب نخبًا...
للشفاه الكاذبة التي خانتني،
ولعينيك الباردتين كالموت،
ولحقيقة أن العالم قاس ولئيم
وأن الله لم ينقذنا".

"ملكة ذات طابع مأساوي"
آنا أخماتوفا ترثي الإنسان النقي الكامن في أعماقنا، ويخاف من أن يُضبط نقيًا من قِبَلِ أولئك الباردين الذين تجمَّد الضمير في صدورهم، أولئك الذين يقتلون ضحاياهم، ولكن؛ وقد لبسوا ثياب القديسين، ليقهروا ذاك البطل العظيم في قلوب الضحايا. آنا في مواقفها كما في أشعارها تعيش نوبات تشنجية لما يلقاه الإنسان من جحود الدولة المستبدة، وهو يعيش في بؤس ويأس وغربة، بلا رحمة أو عدالة. لذا لم تكن تكترث لردود الدولة على سلوكها، فنور الفكر عندها يخترق بشعاعه ظلمة نفس ذاك المتوحش الذي يحكم والذي أثارت غضبه- غضب ستالين- عام 1945 بعد أن زارها المؤرِّخ والمفكر والدبلوماسي البريطاني إشعيا برلين، 1909-1997، في منزلها بمدينة لينينغراد، عندما كان سكرتيرًا أول في سفارة بلاده لدى موسكو والذي وصفها بعد لقائه بها بأنها "ملكة ذات طابع مأساوي". لقد كان عليها بحسب قوانين الدولة البوليسية أن تطرده أو ترفض لقاءه، فأطلق عليها في إحدى المجلات صفة "البنت الضالة" وعلى شِعْرِها شِعر السيدة المجنونة، وتمَّ فصلها من اتحاد الكتاب السوفيات، غير أنها لم تكن لتخشاه وهي التي تقول دون خوف: لماذا احتاجت الدولة العظمى لتمرير الدبابات على صدر عجوز مريضة. ولم يسمح بطباعة أعمالها طيلة عشرين عامًا وعاشت من بعض ترجماتها.
آنا أخماتوفا قاومت الديكتاتور في مداره الجنوني؛ هو بسيفه؛ وهي بقلمها، وكذلك بإحساسٍ نبوي بأولئك الذين قضوا صرعى الحريِّة. تقول:
"أحجار كثيرة رميت بها،
حتى أنني لم أعد خائفة منها بعد الآن،
الحفرة صارت برجًا صلبًا،
شاهقًا بين الأبراج الشاهقة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.