}
قراءات

"زاوية الشمس": الفلسطيني المغترب ورمزية القدس

فيصل درّاج

1 مايو 2021

صدرت في عمان حديثًا رواية "زاوية الشمس" لمؤلفيّها: ميّة شلبي/ كفري، وعزالدين الصغير، عن دار الفينيق ـ عمّان، 2021. تلفت الرواية، بداية، الانتباه بتأليف مشترك، وهو أمر غير مألوف في الكتابة الروائية، منذ أن تعاون الراحلان جبرا إبراهيم جبرا، وعبدالرحمن منيف، في تأليف "مدن بلا خرائط"؛ ذلك أن الرواية وحدة أسلوبية، ونظر للعالم، في آن. والمؤلفان لا يعيشان في مكان واحد، أحدهما من طولكرم/ فلسطين، وثانيهما تونسي، وللطرفين اختصاصان متغايران. فالسيدة الفلسطينية حصّلت ماجستير في الإدارة التربوية من جامعة بير زيت، ونشرت رواية "لست امرأة من ورق" عام 2018. والأستاذ التونسي حاصل على شهادة الدكتوراة في الفلسفة والآداب الفرنسية من جامعة بروكسل البلجيكية، انشغل بدراسات عن الحداثة وما بعد الحداثة، وتناول إشكالية "الماليخوليا"، أي الكآبة الجامحة في أشكالها المتحوّلة، وأصدر عنها أكثر من كتاب باللغة الفرنسية، وكتب الشعر وأصدر ديوان: وطن الظل أو حفريات في غرفة الله، صدر في غزة، فلسطين عام 2019. والسؤال: لماذا كتب مثقفان عربيان رواية عن فلسطين في زمن تنحسر فيه العروبة؟ لا تصدر الإجابة عن "الوحدة في العروبة"، بل عن انتماء إلى الضمير الأخلاقي والكرامة الذاتية ونزاهة الأحكام.




أهدى الروائيان عملهما إلى "المرأة المقاومة"، وجعلا من عناوين الفصول مرشدًا في القراءة: "ظل القدس بجناحي عقاب، تنّين بحائط البراق، توق حائر إلى حين لقاء...."، وأعطيا الشخصية الأساسية اسم: يافا. ومع أن الرواية في خطابها المباشر توحي بعمل تحريضي مهجوس بالأمل والمقاومة، فإن في عناوين الفصول القصيرة المتواترة، كما في المتن الروائي الذي يتلوها، ما يشير إلى عمل تجريبي، تكون فيه الحكاية، الموزعة على شخصيات مختلفة، خطابًا أيديولوجيًا، يدافع عن الحق الفلسطيني ويستنكر الجرائم الصهيونية، وتتعيّن الحكاية ـ الخطاب تذكيرًا تربويًا بما كانته فلسطين، وبالتاريخ العربي الذي هيمن على القدس، كما فلسطين كلها، في عصور متعاقبة كأن نقرأ عن التونسي لِزهر الشرايطي، الذي غادر تونس سنة 1947، والتحق بالمدافعين عن فلسطين، ونشيد إبراهيم طوقان: موطني موطني، وعبدالملك بن مروان وترميم قبة الصخرة، والصحابة الذين قاتلوا من أجل القدس، والرحالة الأوروبيين الذين اخترعوا إسرائيل قبل ميلادها المسلّح، وصولًا إلى "منظمة التحرير" التي "هندست شكلها ومضمونها الأنظمة العربية التي نسيت فلسطين..." ....



في حدود رواية تربوية وَعْظية تحريضية، تجمع بين العروبي والإسلامي والتحرري، تكون الشخصيات الروائية مقولات ذهنية تجسد ما وصلت إليه فلسطين، وما يجب أن تكونه، أو شخصيات ـ أقنعة وجوهها فلسطين في أزمنتها الماضية والمستقبلية، إذ الماضي إسلامي ـ عربي والمستقبل عربي ـ إسلامي، أيضًا. فالشخصية الأولى "يافا" هي "ابنة فلسطين من القدس"، تتطلع إلى غزة وتحلم بالغد الآتي، ومفتونة بالكتب والآثار التي تسعف الذاكرة أن تظل صاحية ومقاتلة، و"ريّان" شبح أقرب إلى "الروح" يستنطق دقائق فلسطين الزمنية والمكانية، و"الشيخ المقدسي" ذاكرة جامعة يحفظ دقائق القدس ويقاتل من أجلها ويستنير "بآثار الصالحين"، صوفي مُتَدَرْوش يعيش "دَرَوَشَته" ثورة مستمرة،... ولن تكون الشخصيات المتبقيّة إلا قامات تقاوم الاحتلال الصهيوني وتؤمن بالنصر، وأشبه بالظلال.
تحقق الشخصيات المقولات فعلًا روائيًا رمزيًا بطيء الإيقاع، قوامه الحق والظلم والنكبة والعودة، توجد في أسمائها، الأقرب إلى المجاز، فهي ذرائع شكلانية يمليها شرح القول الروائي المأخوذ بمقولة: الحقيقة المتعددة الأجنحة. تشكل الشخصيات سطح القول الذي يحتضن أمكنة فلسطين ومدنها ومآسي الفلسطينيين و"الوعد الحق" الذي ينتظرهم في زمن قادم.
يحايث السطح الروائي بنية عميقة مطلقة السراح، تتضمن إشارات القول الروائي الأساسية الموزعة على بعدين أساسيين هما: القدس في تفاصيلها المتنوعة، والتاريخ القديم الحديث الذي يتحرك لا كما شاء له العدل الإلهي أن يكون، إنما تحركّه قوى الشر الأساسية والثانوية التي يندرج فيه خطأ هارون الرشيد الذي رضي أن يتواصل مع الفرنسي شارلمان "الصليبي"، وأخطاء العثمانيين اللذين تهاونوا مع المشروع الصهيوني، وصولًا إلى الانتداب الإنكليزي الذي نصر الصهاينة، واستأنف حربًا صليبية جديدة في زمن استعماري منتصر.
يتعدّد القول الروائي، ويتشجّر، وتظل "القدس" مركز الكلام، فهي فلسطينية وعربية ومقدسة، بل أن جميع صفحات الرواية وهي 317 محكومة بإيقاع "مقدسي"، وبإحالات تردّ إلى المسجد الأقصى، وإلى فلسطينيين يتطلعون إليه. فالاستهلال الروائي وعنوانه "هندسة خرائط وأصداء أشباح"، يقرّر في جملته الثالثة: "أصرّ على الصعود فوق سطح المسجد الأقصى"، ويؤكد القول في جملة لاحقة: "ظل القدس يفترسه القيظ"، يلحق به حديث عن "العلاقات بين الشمس والقدس والمسجد الأقصى". فإن تابع القارئ الاستهلال التقى "بجذور الشمس تمتزج بوجدان القدس"، و"أناشيد ظل القدس المنهوش"، تتبعها "القوافل الذاهبة إلى قلب القدس"، وتستمر في: ورّاق القدس، العودة إلى القدس، معبر الشمس إلى القدس، حكاية القدس المتصادية، عودة الطيور إلى القدس، ظل القدس، قوة القدس، عمق القدس، ظلمة القدس، الحياة التي تغمر القدس، وكل ما شكل "الخيال الجمعي، الذي رمى أسسه تاريخ عريق ووهب روحه الصامدة"، ص: 12.



ليس التكرار إلا الإجلال، وإيقاظًا للذاكرة، وإعلانًا أن القدس هي فلسطين، وأن معنى الثانية من رمزية الأولى. لذا يمر السارد، أو الساردان، على معالم القدس، بدءًا من باب العمود، الذي له تاريخ خاص به، انتهاء بكنيسة القيامة، مرورًا بجامع الصخرة و"خان الزيت". وواقع الأمر أن رواية "زاوية الشمس" تتحدث عن شغف فلسطيني بمدينة مقدسة، وعن فلسطينيين يستقون منها صفاتهم ونظرهم وأشواقهم، ويقع عليهم في البعد عنها الضياع وانشطار الروح، ولا يعصم وجودهم إلا انتسابهم إليها. للقدس بذاتها هوية خاصة بها، أكان ذلك في آمالها، أم في آلامها، هوية كفاها بها الله، ولا تحتاج إلى أحد على خلاف أهلها الفلسطينيين الذين هويتهم منها، فمن دون القدس العربية المسلمة، لا هوية للفلسطينيين، ولا استقرار، كما يذهب المؤلفان.
ولعل رمزية القدس الدنيوية والسماوية معًا، هي التي تبرهن أن التاريخ الإنساني، في لحظات ظلمه وظلامه، زمن بلا كرامة، ذلك أنه سمح لعابثين أشرار أن يدنسوا المدينة الكريمة. حين تمر الرواية على "خيوط الشمس المطلّة على حارة المغاربة"، في فصل عنوانه: "لهيب ظلام من رماد التاريخ" تتحدث عن "التاريخ المظلم، بؤر التاريخ الغاشمة، التاريخ اللقيط...". فالتاريخ تطامن متساقطًا حين سمح للصليبيين بالدخول إلى المدينة المقدسة، وبلغ "ذروة شرّه" باحتلال اليهود لفلسطين، كأن نقرأ: "كيف يمكن لهذا الشعب المنبوذ من الله أن يعيش على سفك الدماء، وعلى عاتقه عبء كل هذا الذنب، الذي جعل منه هوية لنفسه وتعِلّة لوجوده الإرهابي"، ص: 234. يكمن الجواب، في تصور المؤلفين، في الشر اليهودي وسقم التاريخ ونقص الانتباه الفلسطيني وتساقط الأنظمة العربية.... ومع أنني أعتقد أن الله لا ينبذ أحدًا، وإلا تأنْسن، فالسؤال الذي تبعث عليه قراءة الرواية: هل التاريخ هو الذي أنتج اليهود أم أنهم هم الذي خلقوا التاريخ؟ وهل ما أبلسهم هو احتلالهم لفلسطين، أم نشرهم جزءًا من العنف الاستعماري المتعدد الجنسيات الذي وقع على فلسطين، ولا يزال مستمرًا؟ هل واقع القدس من رمزيتها الدينية، أم أنه جزء من فلسطين التاريخية التي احتلها اليهود؟ وهل عملقة الوجود اليهودي من قدراتهم الشريرة، أم من التخاذل العربي وتساقطه؟ وهل وضع القدس الحزين من بؤس الفلسطينيين، أم من سبات "المسلمين" المستديم وسيطرة الغرب؟ تبعث رواية "زاوية الشمس" على أسئلة حاشدة، لكونها خطابًا أخلاقيًا عن الحق والباطل، يمتد من القدس إلى تكساس ومن زمن هارون الرشيد إلى غزو القمر؟



يقال في العربية: "كل تعميم تجهيل". لا ينطبق هذا على رواية ميّة شلبي، وعزالدين الصغير، ذلك أن تعميمها آية على طموح كتابيٌ كبير غايته رسم صراع الشرق والغرب منذ زمن بعيد، ورصد تحوّلات فلسطين من ما قبل الحروب الصليبية إلى اليوم. كما لو كان النص المكتوب يضيق بطموحه. وهذا الطموح الغريب عن الجنس الروائي، المشدود عادة إلى سؤال الزمن في القدر الإنساني، هو ما جعلني أشير في البداية إلى رواية تجريبية تكتمل فعليًا، بصفة: الرواية الإيمانية أي رواية دينية المنظور، إن كان التعبير صحيحًا، ذلك أن الرواية بالمعنى النظري سردٌ علماني لوقائع العالم. ولهذا تولد شخصيات "زاوية الشمس" دفعة واحدة، وتكاد أن تماثل وتكون شخصية واحدة، ويطغى خطاب الأفكار على تفاصيل الوقائع الاجتماعية.
نقطتان تفرضهما الرواية على القارئ.. القدرية التي تلازم منظورها، كأن ترى أن إسرائيل ستسقط لأن التاريخ الذي كتبه "ابن خلدون" يقول بذلك، فالدنيا أحوال، وأن يسقط الغرب الاستعماري لأن شبنجلر أشار إلى ذلك. ولأن القدرية قائمة، مهما تكن مبرراتها، فهنالك: التبشير الذي يحذف الزمن، ويجعل انتصار الإنسان الذي لا زمن له ممكنًا. تنتهي الرواية بإيحاء متفائل مشبع بالإيمان: "هيا لنسرع إلى الزاوية، حيث الشمس تنمو بإيقاع الأناشيد ورقص الدّراويش"..
تُسَجَّل لرواية شلبي، وعزالدين الصغير، أربع نقاط إيجابية: كتابة رواية متداخلة الحدود تحتقب التاريخ والسياسة والأيديولوجيا وتحوّلات العالم، التبعيد اللغوي القائم على لغة مجازية شعرية الإيحاء، إكبارًا لموضوعها المتميّز المتمحور حول القدس، تماهي فلسطين بالقدس، وتماهي الطرفين بالحق والعدالة، وذلك الشغف الذي يترجم دلالة القدس روحًا وثقافة ومركزًا فلسطينيًا مهيمنًا، ومدينة قديمة ـ جديدة تقاوم كيانًا صهيونيًا شرسًا ويردّ عليه أهلها "العزّل" بإرادة مؤمنة و"برضا الدراويش" الناظرين إلى قلوبهم وإلى حقهم في الحياة.
قال عز الدين المناصرة: القدس بوّابة السماء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.