}
قراءات

حول "الصوت الآخر".. مبدع حرّ ساءل ما يريد

فيصل درّاج

18 يونيو 2021
عبد الرحيم الشيخ - حسين البرغوثي 


سألني محمود درويش مرة: هل قرأت حسين البرغوثي؟ قلتُ: اجتهادات له في الشعر العربي القديم، أجاب: لقد فاتك ما هو جدير بالقراءة. تابعت: إنه طليق يجرّب ما يريد: الشعر والمسرح والأغنية والنقد والكتابة الفولكلورية، كما لو كان مختصًا في كل شيء دون أن يختص بحقل محدّد. تابع درويش: عليك إذن أن تقرأ له: رواية وسيرة ذاتية في آن عنوانها: "الضوء الأزرق"، وبعض ما نشره في مجلة "الكرمل" التي تكتب فيها. إنه يكتب نثرًا يشعرني بالغيرة، إن لم يكن ناثرًا فريدًا هذه الأيام، لكنه مريض.

أدهشني بعد قراءة "الضوء الأزرق" بنثر شعري فلسفي متعدد المستويات، وقلتُ في حيرة وسألت: ما هو منظور هذا الفلسطيني الراحل للعالم؟ فعلى خلاف نصوص فلسطينية شفافة أحادية الأسلوب وخطية الكتابة ترصد تجربة الفسطينيين في مآسيها المتعددة، وجدت نصًا عن "الإنسان الكوني المغترب"، أفلسطينيًا كان أو غيره، ونظرًا مركّبًا واسع الآفاق يعبر من المنفى إلى الروح، ومن مساءلة المكان إلى "الفلسفات الشرقية"، ومن السرد المستسر إلى تأمل العالم. يمرّ على هذا كله شاعرًا يحمل فلسفة، ويدع الإجابة المحتملة معلقة في الهواء.

أضاء كتاب حسين البرغوثي: "الصوت الآخر ـ مقدمة إلى ظواهرية التحول" الصادر حديثًا (الأهلية للنشر والتوزيع، المملكة الأردنية ـ عمّان 2021، 250 صفحة)، صورة ذلك الفلسطيني البديع الذي رحل قبل الأوان في الأول من أيار/ مايو 2002. كان قد أسهم في مسرح "الحكواتي" إلى جانب الراحل فرنسوا أبو سالم، وعمل معيدًا في جامعة بير زيت وغادرها إلى جامعة واشنطن، في سياتل، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراة في الأدب المقارن بين الأعوام 1985 ـ 1992. درس قبل ذلك العلوم الاقتصادية في جامعة بودابست، وتعلم اللغة الهنغارية، وجمع ما تعلمه وعاد إلى فلسطين.

أذكره، دائمًا، بصور ثلاث: يسأل في بيروت عن بيت غسان كنفاني ويقع على جواب بارد الوقع: "في تلك البناية في واحد فلسطيني"، كما جاء في "الضوء الأزرق"، ويلقي عليَّ التحية في باريس مع أبو سالم، وسيمًا بسيط اللباس عفويّ الحركة والكلام. وأذكر غموضه الساحر في "سأكون بين اللوز"، حيث الأفاعي الطائرة ومواء حيوان صغير انقرض وتراب فلسطيني قوي الذاكرة ومناجاة طويلة لتحوّلات الليل والنهار.

عهد الأستاذ الجامعي، الناقد والمثقف المتميّز عبد الرحيم الشيخ، إلى نفسه ترجمة أطروحة الدكتوراة التي وضعها حسين البرغوثي: "الصوت الآخر - مقدمة إلى ظواهرية التحول" ولكنه لم يترجِم، أعاد تكوين النص بلغة عربية، قرأه وتنفسّه وأوّله واحتضن روحه وأنتجه "بلغة مختارة"، كما لو كان حسين يعيد كتابته في لحظة مرتاحة التأمل واسعة الرضى، ولهذا نقرأ على غلاف الكتاب: "حوّله إلى العربية وقدّمه"، كما لو كان الشيخ يستبطن إبداع كاتبه ويكون مبدعًا. والمحصلة أن القارئ يجد نفسه أمام "ذاتين مبدعتين"، تتحاوران وتتكاملان، وتقدمان صورة مثقف متميز لا يزال بيننا وآخر قد رحل. والنص في شكليه صعب، بالغ الصعوبة، يُكمِله من لمح قيمته ويتابعه قارئ له دراية ـ بمكابدة الإبداع ومجاهدة توليد الجديد. ولعل هذه الصعوبة المتألقة هي التي تجعل "عرض الكتاب" قضية نافلة مرهقة: نافلة هي لأن في كل جملة منه ما يحتاج إلى جمل تفصح عن معناها، ومرهقة هي لأن الشيخ والبرغوثي وضعا في الكتاب ما يتيح الأدب قوله. وانتهيا إلى كتب في كتاب. ليس في ما سبق ما يحيل على قوله محاكاة أو تماهٍ وهو مستحيل على أية حال ـ أو على تقمصّ وهو من مفردات حسين، بل على اجتهاد نوعي لكاتبين يقصدان جديدًا كتابيًا يضيفان إبداعًا متميزًا إلى إبداعات سبقت.

الاستهلال الذي وضعه الشيخ يشكل كتابًا بذاته، وهو نص مكتمل يقع في أربعين صفحة، بمدخل نظري "يطول" يعرّف بمقولات البرغوثي النظرية ـ التطبيقية ويضيء دلالتها أوجزها، بدئيًا، بثلاث: لعبة المتاهة، واستئلاف الموحش، وتقطير الوجود. وما حاول عبد الرحيم إضافته يحتاج بدوره إلى إضاءة. نقرأ: "في لعبة المتاهة" لا أشرح "الصوت الآخر" عبر نتاج البرغوثي، بل أبيّن موقعيّته وحسب، وأمنح بعض المفاتيح. وفي "استئلاف الموحش"، أبث بعض الإضاءات التي أحاطت بإعادة "الصوت الآخر" من الإنكليزية إلى العربية، لا "ترجمة" ولا نقلًا، ولا استزراعًا، بل "تحويلًا" يبدو فيه كأنه صيغ بالعربية بيد البرغوثي، وبحس الفكاهة ذاته، بعد قرابة ثلاثة عقود على كتابته، وعقدين على وفاة كاتبه. وفي "تقطير الوجود" أوجز النص النظري العسير الذي كان البرغوثي، خلال كتابته، يفكر كفيلسوف ويكتب كشاعر، ويعيش كإنسان. ولكي أقدمه للقارئ اليوم، كان علي تعديل تلك السيرورة: بالتفكير كشاعر، والكتابة كفيلسوف، وتأجيل العيش، خارج الكتابة، إلى حين الانتهاء منها.

استهلال عبد الرحيم لا تعوزه الغرابة المثيرة للفضول، فالذي أضاء به نص غيره يحتاج بدوره إلى إضاءة موازية، والنص النظري العسير لم يسلّم بصعوبته، بقي فيه ما استسر. يقف القارئ، بسبب صعوبة الموضوع ونزاهة المبدعين وتوقهما إلى الجديد أمام الكتابة النظرية الاحترافية والتي تشرح المفهوم وتحتفظ لنفسها بمفهوم أنتجه يسأل عن شارح له. فالصوت الآخر موضوع متعدد الوجوه والمتعدد، نظريًا، يُلمح إلى يقين مؤجل ويعطي للأفكار صيغًا مختلفة.

ومع أن الشيخ أشار إلى كتابة يتكامل فيها الشعر والفلسفة وعوارض الحياة، فإن العسر آت من التكامل المفترض بين الشعر والفلسفة، الذي عالجه الفيلسوف الألماني هايدغر، المتهم بالنازية، غير مرة. فالشعر يسائل ولا يقرّر، يصدر عن الروح الموزعة على الزمن والموت واللانهائية، والفلسفة، وبعيدًا عن هايدغر والفرنسي جاك دريدا تكثف مقولاتها معنى الوجود، وتصدر عن تاريخ الفلسفة لا عن الروح، وتحاول أن تقبض على دلالة "المشروع الإنساني"، وتسبغ عليه معنى، وهي دائمًا بصيغة الجمع تتأبى الاختصار في صيغة واحدة.


كان للفرنسي ديكارت قوله الشهير "أنا أفكر إذًا أنا موجود"، وكان للفيلسوف الألماني وازعه الأخلاقي، وللإنكليزي جون لوك اجتهاده عن "فردية التملّك". كل منهم كان يحاور آخر ويستأنفه. فما هو الفيلسوف الذي أراد الفلسطيني حسين البرغوثي أن يستأنفه؟ الجواب لا أحد. ولهذا جمع بين الشعري والفلسفي والحياتي والذاتي والفلسطيني والشرقي والغربي وانتهى إلى تحول يسمح بأكثر من تأويل. أنجز حسين، كما يقول الشيخ: "كتابة لاهثة، لأنها كتابة فلسطينية واضحة البداية، قلقة المسار، مبتورة النهاية...".

من المحقق أيضًا أن الأستاذ الشيخ أنجز كتابة لاهثة أخرى، لا بسبب قصر الوقت ولكن لأن "لكل مقام مقال". والبرغوثي جدير بقراءة على مستوى تجربته. كتب الشيخ: "بعد عقدين من القراءة و"استئلاف الموحش"، تمكنّت من تحويل هذا النص الكثيف إلى العربية في العام 2016. وقد رغبت في كتابة مقدمة "أطول" تطوّرت لتصبح كتابًا موازيًا للنص الأصلي يتابع ظاهرة "التحوّل" في الأنواع الأدبية المختلفة التي أنجزها البرغوثي. وقد كتب الفصل الأول حول التحوّل في الشعر....". ولأنّ الرحلة الصعبة تلزم بطرق صعبة تؤدي إليها، تابع الشيخ: "لكنني كلما أعدت قراءة النص أحسست بأن تقديمه على هذا النحو سيقتله، حتى مضت أكثر من أربع سنوات دون أن ينشر. أما الآن، فهناك أربعة احتمالات لقراءاته...".

أدرج الشيخ، وهو شاعر، في تأويلاته متواليات من المقولات: إنقاذ النص: شعرية التجريب، إماتة النص: شعرية التشريح، إحياء النص: شعرية الإتاحة، محاورة النص: شعرية التشتيت، الترجمة والتحويل، وتقطير الوجود.... استرجع في تأويله مراجع نظرية "غربية" متعددة: موريس بلانشو، الفرنسي الذي ينوس بين النظرية والرواية، ورلان بارت وما قال به عن "موت المؤلف" والإيطالي الشهير إمبرتو إيكو الذي لا تقل "السيميولوجيا"، التي يقول بها، اتساقا عن موقفه الصهيوني، وفالتر بنيامين الذي تحدث عن "الشعري الذي لا يستطيع اقتناصه إلا المترجم الشاعر"...

أخذ الشيخ بجهازه المفهومي وقرأ طرائق البرغوثي في التركيب الكتابي التي تتضمن: الإلهام، الوثنيات الكونية (؟)، علاقة الذات بالموضوع..... ربما تفسّر مقولة الإلهام الغموضَ الذي يلف "الصوت الآخر"، ففيها ما يمتد من الشعراء إلى المتصوفة، ومن الطرفين إلى الأنبياء. لذلك يقول البرغوثي في الفصل الأول عن الإلهام: "الإبداع، سواء كان بشريًا أم إلهيًا موضوع من طبيعته أنه لا يسمح بكثير من الدقة. ينبغي القول إن مصطلح الإبداع لا يزال غامضًا، على الرغم من مرور قرون من النقد، ... بالإضافة إلى ذلك فإنَّ الإبداع الأدبي لم يُعْزَ للأنا المبدعة للشاعر، بل إلى قوة ما ورائية." ص 79. أنجز الشاعر حسين نصه الإبداعي تحت راية "الإلهام"، الذي يسفر عن شيء من وجهه في حال الشعر ويحجبه في حال الفلسفة، التي لم تعرف فيلسوفًا ملهمًا... وهل هذا الاعتراف، الذي يقول به مؤلف الكتاب بلا غموض هو ما يفسّر صعوبـة نص يتضمن "أبعـادًا ما ورائيـة". والأرجـح أن في "الصـوت الآخر" ما يقول: كل مبدع ـ ملهم يستأنف غيره، وهو ما يتجلّى في المرجعية الأدبية الواسعة التي يحيل عليها، بدءًا من "ملحمة جلجامش" وصولًا إلى الشاعر الألماني ريلكه، ومن تأملات نيتشه إلى أفكار هايدغر. والمبدع، في التحديد الأخير، صورة في صور بمعنى مزدوج: يستلهم مبدعًا استلهم من مبدع آخر، وتقوده "القوة الماورائية" من صورة إلى أخرى، أكانت ماء جمّده تبدْل الفصول، أم وطنًا أُفرغت أرجاؤه من ساكنيه. ومع أن الإبداع فضاء يبنيه المبدعون فهو لا يعرف المحاكاة، أو التقليد الذي ينقض معناه، ذلك أن في كل مبدع صوتًا داخليًا يقوده يكتنفه الغموض.

الاستهلال الذي وضعه عبد الرحيم الشيخ يشكل كتابًا بذاته


ليس "الصوت الآخر" إلا ذات المبدع السائرة من صورة إلى أخرى، تخترقه وتنقله من شكل إلى آخر، تحوّله وتتحوّل حتى يصبح قائمًا في ذاته وفي غيره، كما لو كان موزعًا على أكثر من مكان وزمان. ففي كل شاعر أطياف من شاعر آخر، وفي المكان الذي سكنه الشاعر شيء منه، يمتد كل منهما في الآخر. وقد يمتد الأب في ابنه والابن في أبيه، "كما يمتد الزيت في زيتونه". والمحصلة أن كل شيء، في هذا الكون الموّحد علاقة ترتبط بعلاقة أخرى، ما يجعل من "ظواهرية التحوّل" ظواهرية العلاقات، ما يحدد اجتهاد حسين البرغوثي في التحديد الأخير، مساهمة في جمالية العلاقة وتوالد الصورة وجماليات الآخر... طالما أن في كل إنسانٍ بعدًا من آخر، لا فرق إن كان إلهيًا أو شيطانيًا، أو أي شيء آخر، "أنظر ص 146". ذلك أن الشاعر يحتج على صورة علاقة الأنا ـ الآخر، وليس على العلاقة ذاتها.

في تصوّر حسين البرغوثي ما يقرّر أن الكون واحد موحّد، وأن الآخر جزء من الأنا، وأن التحوّل ليس فعلًا تطوّعيًا، فهناك غموض الإلهام والإبداع، وأن "المتاهة" وهي ما يحث الوجود "صورة داخل صورة"، مثلما أن في كل مدينة مدينة غيرها، وفي كل حلم أحلام تناثرت فيه، سابقة أو لاحقة.

الإبداع غموض في ذاته، علاقة في علاقات وصور في صور... إنه متعدد ولا يُقبض على سره يستدعي، لزومًا، طبقات من التأويل. ومع أن الأمر يتراءى منطقيًا في التصور "البنيوي"، فإن "الصوت الداخلي للمبدع"، الذي يحتفي به البرغوثي، نصه خارج المألوف، يقاوم العادي ويعبث بالأحكام الجاهزة و"يبصر" ولادة ضرورية "متجددة" في أرجاء الوجود.

"الصوت الآخر" حوار واسع في "ملكوت الإبداع"، صاغه نثر شعري، تلوذ منه الفلسفة، ويعلن عن مبدع فلسطيني غريب، رحل قبل الأوان، يدعى: حسين البرغوثي، كان فيه شوق إلى احتضان المعارف الإنسانية كلها، بدءًا بأساطير يونانية انتهاءً بعالم الأرقام والسلع في النظام الرأسمالي.

أعلن عبد الرحيم الشيخ عن دلالة الإبداع في نزاهة المقاربة، إذ في صفحاته الأربعين نص نظري متعدد المراجع، وشغف بالإتقان يتاخم "شقاء الكمال"، ولغة متألقة تستولد ذاتها، بلا "قابلة خارجية"، وفيه ما يؤكد: أن معنى الكتابة من ممارسة الكاتب، التي تصعد عاليًا إن كان الكاتب ناقدًا مثقفًا وشاعرًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.