}
قراءات

جيوكوندا بيلي بسيرتها الذاتية.. شاهدة عيان على تاريخ نيكاراغوا

أحمد عبد اللطيف

18 يوليه 2021
جيوكوندا بيلي تحمل كتابها "بلدي تحت جلدي: مذكرات الحب والحرب" في مدريد/ إسبانيا (22/ 10/ 2018/Getty)


يُعرف عن جيوكوندا بيلي (نيكاراغوا، 1949) أنها شاعرة وروائية كبيرة، أحد أكبر الأسماء الأدبية في أميركا اللاتينية، وأنها فازت بجوائز كبرى مستحقة في الأدب، وتُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة، من بينها العربية، وحققت شهرة عالمية لم تحققها كاتبة نيكاراغوية. لكن لا يُعرف كثيرًا عن وجهها الآخر: جيوكوندا المناضلة ضد ديكتاتورية سوموثا.
ثمة معلومات منثورة عن أنها أيدت الثورة الساندينية التي أسقطت الديكتاتورية، لكن إلى أي مدى أيدت؟ وهل شاركت في الثورة؟ هل كانت مشاركتها نزولًا في الميادين والوجود في المظاهرات؟ هل تحركت من مكانها الملتزم ككاتبة ومثقفة لتؤيد ثورة ضد الطاغية سوموثا؟ كل هذه الأسئلة ظلت مطروحة حول حياة جيوكوندا السرية، والأهم منها: ما دور الشاعرة والروائية في التخطيط للثورة؟ لم يستطع أحد أن يكشف وجه جيوكوندا الآخر، ولا حياتها السرية الغامضة، لأن طبيعة عملها كانت السرية. حتى قررت هي أن تكتب سيرتها الذاتية وعنونتها "بلدي تحت جلدي: مذكرات الحب والحرب".



غراميات ونضال
تعتمد سيرة جيوكوندا على محورين أساسيين: حياتها الشخصية والعائلية، قصص الغرام المتعددة والزواج، وحياتها الأخرى كمناضلة في صفوف الجبهة الساندينية، منذ كانت في التاسعة عشرة تقريبًا. في المحور الأول، تشير كاتبة نيكاراغوا إلى أسرتها البرجوازية، زبدة المجتمع النيكاراغوي، وتعليمها في إسبانيا كميزة لا تتوافر إلا للأسر الثرية. هذه الخلفية هامة جدًا لفهم ما سيحدث في حياتها بعد ذلك، إذ لم يكن دفاعها عن الحرية، ولا نضالها ضد عائلة سوموثا، مبنيًا على مصالح شخصية، أو لتحسين أوضاعها الاقتصادية، وإنما خالصًا لمبادئ العدل والمساواة، وتضامنًا بلا حدود مع فقراء بلدها، واستفزازها العارم من أفعال سوموثا. في المحور الأول، تشير لزواجها المبكر، وإنجابها لبنتين من زواج فاشل وتعيس، حاولت بكل طاقتها إصلاحه بلا فائدة. من هذه الحياة التعيسة، اتجهت إلى تبني القضية النسوية، وأصرت على ألا ينتهي بها المطاف كربة منزل تطمح لإرضاء زوجها وتحافظ على تعاستها لإرضاء المجتمع. لم تنفصل قضية جيوكوندا النسوية عن قضيتها ضد الطاغية، وإن كان الهم الأكبر والمستحق للنضال والتضحية بالحياة والأصعب هو إسقاط النظام.




في التاسعة عشرة، عملت جيوكوندا بيلي في وكالة إعلانات، وهناك تعرفت على "الشاعر"، وهو الشخص الوحيد الذي لم تذكر اسمه في مذكراتها، واكتفت بوصفه. ومن خلال "الشاعر"، دخلت الوسط الثقافي، ثم انضمت إلى الجبهة الساندينية الوطنية، وهي جبهة مسلحة مناهضة للديكتاتورية لم تكن حسنة السمعة في البداية، لخلو تمردها من خطاب سياسي معتدل، ولغياب أصوات تبلور أفكارها الثورية، وشخصيات مثقفة وعامة تحسّن صورة حرب العصابات. عمل المثقفون النيكاراغويون، ومنهم جيوكوندا، وسيرخيو راميريث، وإرنستو كاردينال، بالإضافة إلى شخصيات عامة معروف عنها النزاهة، ومناضلون سياسيون كانوا كوادر رئيسية في الجبهة، وإن لم ينالوا شهرة، على بلورة أفكار الجبهة، وتطويرها سياسيًا، وكسب متعاطفين معها، وتجنيد أفراد من الشعب والسكان الأصليين، وحشدهم ضد الديكتاتورية السوموثية.




يمكن أن نقول إن كل شيء بدأ من زلزال 71، الذي عرّى سوموثا. لقد استأثر الطاغية، ليس فقط بميزانية الدولة، وإنما أيضًا بالمساعدات الخارجية، لنفسه ولعائلته وأقاربه، وكانوا يشكّلون النخبة الأرستقراطية، أصحاب الأراضي، والبيزنس الكبير، حد أن الأدوية التي جاءت من الخارج للسكان المتضررين من الزلزال كان يبيعها في الصيدليات، وبدلًا من توفير مساكن بديلة لهم بعد أن تهدمت بيوتهم، أقام لهم هناجر من البلاستيك عانوا فيها الفقر المدقع، وانتهاك خصوصية الأفراد والعائلات. ترصد جيوكوندا هذه المشاهد، وتحكي عن المساعدات التي جمعتها لهم لإنقاذ حيواتهم وحيوات أطفالهم، وهي اللحظة التي أدركت فيها بقوة أن حربها ضد الديكتاتورية لن تنتهي إلا بإسقاطها.



وكالة الإعلانات: مكتب بريد

جيوكوندا بيلي تزور نعش إرنستو كاردينال، الشاعر والكاهن والسياسي الكاثوليكي، في ماناغوا/ نيكاراغوا (2/ 3/ 2020/ فرانس برس)


كانت القبضة الحديدية والبوليسية التي فرضها سوموثا على المعارضة، وسيطرته على الصحافة والإعلام، تصعّب من حركة أفراد الجبهة والاتصالات بينهم. من هنا بدأ دور جيوكوندا كساعي بريد ينقل الخطابات بين القيادات وبعضهم، وكانت وكالة الإعلانات، حيث تعمل، مكتب تلقي هذه الخطابات ولقاءاتها بالأعضاء. كانت جيوكوندا بعيدة عن الشبهات، لوضع عائلتها، ولكونها فتاة برجوازية تهتم بجمالها وبالموضة وبالشعر، وهو القناع الذي اتخذته للمداراة على نشاطها السياسي. لنفس السبب، استغلت بيتها في اجتماعات سرية. بالإضافة لهذا الدور، عملت جيوكوندا كمسؤولة عن العلاقات الخارجية للجبهة، مكلفة بالتواصل مع الصحافيين الأجانب المتواجدين في نيكاراغوا، وإرسال تقارير صحافية لهم عن الأوضاع في بلدها في ظل صمت الصحافة، وغياب المعارضة العلنية. ساهم هذا الدور في تدويل القضية النيكاراغوية، إذ كشف فساد الطاغية وعائلته، وعَكَس الصورة الحقيقة للفقر المدقع الذي يعانيه المواطنون.



يعقوب يختار الموت وماركوس ينتظره

جيوكوندا بيلي  أثناء تقديم كتاب LAS FEBRES DE LA MEMORIA في مدريد (22/ 10/ 2018/Getty)


تحاول جيوكوندا بيلي على طول الكتاب الاحتفاظ بصوت محايد وموضوعي، تحكي من موقع الراوي الذي شاهد وعاش، شهادة كبيرة على تاريخ هام. لكن هذه المحاولة تنهار مع كثرة الموت، موت الرفاق الذين صاروا أهلًا وأصدقاء. واحدة من القصص التي أصرت جيوكوندا على تخليدها قصة يعقوب، وهو طبيب نفسي نيكاراغوي من أصول فلسطينية. كان يعقوب أحد الكوادر الهامة في الساندينية، ويستغل عيادته أيضًا لإرسال رسائل لأفراد الجبهة، ومنهم جيوكوندا. بزيارة أسبوعية لعيادته، كانت جيوكوندا تتلقى منه وتوصّل له رسائل. أفاضت الكاتبة النيكاراغوية في حكاية يعقوب، خاصةً أنهم اعتقلوه، وبسبب هذا الاعتقال اضطرت هي للهروب من نيكاراغوا إلى المنفى، في المكسيك، ثم كوستاريكا.




بحسب الاحتياطات الساندينية، لم يكن أحد يعرف اسم أحد، وكان واجبًا على أي فرد يسقط أن يلتزم الصمت التام لمدة أسبوع، يتحمل فيه أي نوع من العذاب. وبعد الأسبوع، يجب أن يتكلم ويكشف أسماء من يتعامل معهم في حدود إنقاذ حياته من الموت. مدة الأسبوع تمنح إتاحة الفرصة لبقية الأعضاء للسفر، أو الاختفاء التام. لذلك، يوم ألقوا القبض على يعقوب تلقت هي أوامر من القادة بتجهيز نفسها للسفر. عاشت الشاعرة أيامًا صعبة من الرعب، كانت انفصلت عن زوجها، وترعى بنتيها بمفردها، وكانت حياتهن جميعًا معرضة للخطر. سريعًا ما رصدت أنها مراقبة، وأن المراقبين سيستغلون الفرصة لاغتيالها، أو على الأقل إلقاء القبض عليها. قبل سقوط يعقوب بفترة، زارها أفراد من الأمن في الوكالة ليسألوها عن علاقتها بالجبهة، فأنكرت.
هاجرت جيوكوندا إلى كوستاريكا، ثم عرفت بعد ذلك ما حدث ليعقوب. لقد دفنوه حيًا لمدة أسبوع، جسد تحت التراب ورأسًا فوقه، تبولوا وتغوطوا عليه طوال هذه الأيام. وبعد الأسبوع كان يجب أن يقدم اعترافات تنقذ حياته، لكنه التزم الصمت، ومات مقتولًا.
وإذا كان يعقوب اختار الموت فداءً لرفاقه، فماركوس يرى أن الإنسان خُلِق ليموت. وماركوس هو حب جيوكوندا الكبير، المحفور في قلبها على مدار سنوات طوال. كان رئيسها المباشر في الجبهة، وكادرًا تعده جيوكوندا مؤسسًا وسببًا رئيسيًا في نجاح الثورة، رغم موته قبل نشوبها. تعرض ماركوس للتصفية على يد نظام سوموثا، لكنه قبل ذلك كان مؤيدًا لنقل العمليات العسكرية إلى المدينة، والمواجهة المباشرة مع قوات سوموثا، وتوسيع القواعد.



مهام في المنفى
لجأت جيوكوندا إلى المكسيك أولًا، قبل أن تتلقى تعليمات بالسفر إلى كوستاريكا. هناك واصلت العمل كمكتب صحافي لكشف فظائع الديكتاتورية، وكسب متعاطفين جدد. وفي كوستاريكا التقت بالكاتب النيكاراغوي الشهير، سيرخيو راميريث، كادر كبير في الساندينية، لتعمل معه في دعم الجبهة خارجيًا. مهمتها الجديدة كانت نقل الأسلحة من كوستاريكا إلى الحدود مع نيكاراغوا لتوصيلها بعد ذلك للمحاربين.

دانييل أورتيغا رئيس نيكاراغوا خلال الاحتفال بالذكرى 51 للثورة الساندينية في ماناغوا (29/ 8/ 2018/ فرانس برس)


تحكي جيوكوندا عن الانقسامات التي حدثت في الساندينية من قبل الثورة، ما بين تيار يؤيد استمرار حرب العصابات في الجبال، وتيار آخر يدعو لحمل الصراع إلى المدينة. أثناء ذلك، تحكي عن علاقتها بعائلة دانييل أورتيغا، رئيس نيكاراغوا الحالي، والذي كان كادرًا مع أخويه في الجبهة الساندينية. في الوقت نفسه، تحكي عن الغليان الشعبي ضد الطاغية، وعمل الجبهة في القرى والمدن لتجنيد أعضاء جدد. الفقر المتزايد، المستشفيات التابعة للحاكم التي تشتري لتر الدم مقابل دولارين، الحياة الرثة للشعب، في مقابل ثراء الطبقة الحاكمة، كلها كانت أرضًا خصبة تسهل عمل الجبهة الثورية. وفي النهاية قامت الثورة مع وجود الانقسامات.



سقوط رأس النظام والثورة المضادة
بعد سنوات في المنفى، عادت جيوكوندا إلى نيكاراغوا مع الثورة الساندينية التي أطاحت بأناستاسيو سوموثا. لكن نجاح الثورة وسقوط الطاغية لم يكن نهاية المطاف. تحكي جيوكوندا عن استياء الولايات المتحدة من الثورة، ودعمها للثورة المضادة المكونة من أذيال سوموثا. لكن فشل الثورة في الحكم، رغم التحريضات الخارجية عليها، يرجع لأسباب أخرى توردها جيوكوندا بمنتهى الموضوعية.




لقد حمّلت الحكومة الساندينية الشعب فاتورة الحرب الأهلية، ورغم البرنامج الاقتصادي الاجتماعي، واشتراكية الحكومة، إلا أن فواتير الحرب كانت باهظة. مع الوقت، فقدت جيوكوندا حماسها للحكومة، وأدركت أن مكانها، باعتبارها المتحدثة الرسمية والمسؤولة عن تنظيم أوراق الانتخابات في الحزب، مهام يجب أن تتخلى عنها. هكذا في 86، بعد 7 سنوات من الثورة، تبددت أحلامها. لقد أسس النظام السانديني للقمع والسيطرة على الإعلام على خلاف مبادئه، وبالنظر بدقة لم يختلف كثيرًا عن نظام سوموثا بالنسبة للمواطن العادي: الفقر مستمر، والقمع كذلك، حتى لو اختلفت الأسباب.
الآن، لا يزال دانييل أورتيغا في سدة الحكم، وقد غدا ديكتاتورًا جديدًا يقتل شعبه، لتنتهي الثورة الساندينية لنظام سوموثي آخر. تقول جيوكوندا إن هذه ليست الساندينية، إنها ضلت طريقها. لكن الحال يطرح سؤالًا: كيف يتحول الثوري إلى ديكتاتور؟ وهل يصاب الثوري ببارانويا عند وصوله للحكم تجعله يعتقد أن الكل أعداؤه؟
قراءة "بلدي تحت جلدي" هامة جدًا لفهم تاريخ نيكاراغوا، لفهم تاريخ أميركا اللاتينية، وفهم تاريخنا أيضًا. فالأشياء ليست بعيدة جدًا كما نظن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.