}
عروض

"شبهات".. الشعر محاولة يائسة لترميم الكون

عماد الدين موسى

19 يوليه 2021


تكادُ قصيدة الشاعرة اللبنانية، فيوليت أبو الجلد، أن تكون مرآة لروحها؛ ثمّة جُمَل شفيفة، محبوكة بمنتهى الدقّة والأناة، تتسلل من بين جنباتها صورٌ شِعريّة غايةً في البساطة والإدهاش، بينما تطغى اللغة المشهديّة على أجوائها، سواء من حيثُ التكثيف اللغوي الشديد، وذلك باستخدام أقلّ قدر من المفردات، أو من حيثُ الانتقال بالقصيدة من كونها "مدوَّنة" إلى الصيغة "البصريّة"، لتبدو وكأنّها لوحة فنّية، أو صورة فوتوغرافيّة.
في كتابها الشِعري الجديد "شبهات"، الصادر أخيرًا عن الدار الأهلية في عَمّان (2020)، تواصل الشاعرة فيوليت أبو الجلد الكتابة بحبر الروح، تلك القريبة من البوح وحده، وذلك عبر 62 قصيدة متحررة من أسر العنونة، إذ تكتفي الشاعرة بترقيم القصائد فحسب.




قصائدٌ تقودُ "القارئ" إلى الحيّز الحميم من الحياة، حيثُ الأبوابُ مشرّعة على الحريّة، ومحاكاة الذات والآخر، جنبًا إلى جنب مع الالتقاط اللا مرئي للجوانب المهمّشة من التفاصيل اليوميّة، حتى تلك المتناهية في الصغر. تقول: "علينا أن نحيا على سكك القطارات المستعجلة،/ أن نموت في غفلة عن الطريق./ نكافئ السفر بأجسادنا،/ نصفر مبتعدين/ كي نعود بأشكال جديدة./ هكذا أحبك كما لو أنك رجل آخر/ سقط سهوًا من فيلم قديم".



قصائد مفعمة بالحبّ

ما نجده في المقطع السابق من تناقض محبّب، أو تضاد، يضفي مزيدًا من الغنائيّة على قصائد هذا الكتاب، حيثُ الموت والحب معًا، وفي درفةٍ واحدةٍ.
لكأنّها صورةٌ عن تلك التناقضات الوجوديّة التي تزخر بها الحياة، حياتنا، تقول: "معي ما ليس معي،/ ما سيأتي وما سيُكتَب،/ ما سيذوي وما سيُزهر،/ من يموت بي ومن أحيا به،/ معي رهان الريح في مهب النعاس،/ معي النوم في إغفاءة أعين تنتظر،/ أنا شهوة البائع للتجوال/ أنادي على الريح تحت الشبابيك،/ أنادي على الحب/ نار تكفي ولا تكفي".
في قصيدة أخرى، تأتي في السياقِ ذاته، تقول: "لا تلمسني/ حين أبكي،/ أنا بكيت لأن أحدهم لمسني./ لأني خلف الأعين السرية لأبواب الجحيم ترددت طويلًا،/ وحين مسّني الحب تداعيت وانهمرت".
الحبّ، وحده الحب، ما نجده بين جنبات قصائد فيوليت أبو الجلد، حتى تلك التي تتناول فيها مواضيع وجوانب حياتيّة غايةً في القسوة.



الأبواب مواربة
تكتب فيوليت أبو الجلد وكأنّها في حلمٍ لا نهائي أنى لها أن تفيق منه. تكتب بهدوئها المعهود أناشيد الوحدة والهجران، بنبرةٍ خافتة تقترب من الهمس الصامت والصادم في الآنِ معًا، بينما الآخر/ الند، أو المحبوب يكادُ أن يكون "الأنا" الشاعرة نفسها. لعلّها تقنيّة التقابل، أو ما يسمّى بلعبة المرايا، تتقنها الشاعرة، وتحسن توظيفها في بنية قصيدتها، حيثُ تقول: "مفتاح السفر معي/ لكني وحيدة كقارب في لوحة معلّقة/ فقيرة كأميرة في قصص الصغار/ وفي ألعاب الكبار/ مفتاح الضحك معي/ لكني أبكي في الممرّ الطويل/ أخاف من خشخشة المفاتيح في هذا الليل/ وأخاف من هسيس الإنس/ حيث الأبواب مواربة/ حيث القلوب مشرّعة/ حتى إشعار آخر".




كتاب "شبهات" جاء في 74 صفحة من القطع المتوسط، وهو الإصدار السابع للشاعرة فيوليت أبو الجلد (من مواليد 1974)، إذ سبقَ لها أنْ أصدرتْ الكتب الشِعريّة التالية: "همس ممنوع (1997)"؛ "صيّاد النوم (2004)"؛ "بنفسج أخير (2010)"؛ "أوان النصّ أوان الجسد (2012)"؛ "أرافق المجانين إلى عقولهم (2015)"؛ و"لا أحياء على هذا الكوكب سواي (2017)".
في هذا الكتاب؛ لا تقف الشاعرة على الحياد من كل ما يحيطُ بها، بل تشاهد وتراقب عن كثب، وتحاول أن تقترح ما يشبه الحلول لما يجري من حولها، وأن تنقده، وذلك من خلال طرحها مزيدًا من الأسئلة الوجوديّة القلقة، سؤالًا إثر آخر، طالما أنّ "الشعر ثورة، ورفض، وأسئلة، وبحث، وتنقيب، وانقلاب، وإعادة خلق. الشعر محاولة يائسة لترميم الكون، لكنها محاولة دائمة ومستمرة"، على حدّ تعبير الشاعرة أبو الجلد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.