}
عروض

رواية "أحجية إدمون عمران المالح".. أسلوب التشظي الحكائي

بهاء إيعالي

6 يوليه 2021

 

 

في روايته الثانية "أحجية إدمون عمران المالح" (هاشيت أنطوان- بيروت 2020) يتطرّق الروائي المغربي محمد سعيد احجيّوج (1982)، بلغةٍ تفتح الآفاق للخيال وعدم التلقائية، إلى قضايا ربّما أمكن اعتبارها راهنةً لدى كافّة أجيال الكتاب والقرّاء والبشر عامةً، فيستهلّها بتفخيخ عنوانها آخذًا القارئ نحو فكرةٍ مفادها أنّه أمام روايةٍ سيرية حول حياة الكاتب المغربي اليهودي إدمون عَمران المالح (1917-2010). لكن القارئ لا يلبث أن يصطدم بأحجيةٍ حقيقيّة حول شخصيّة الكاتب نفسه، والتي يجدها مجزّأةً إلى ثلاثة وجوهٍ مختلفةٍ داخل جسدٍ وروح واحدين: عمران المالح، الشاب المغربي اليهودي الحالم بـ"أرض الميعاد" والمتفاخر بانتصارات إسرائيل، والذي يصاب بالخيبة عند وصوله إليها ويهاجر إلى فرنسا محصّلًا إجازةً في الأدب الفرنسي ومشتغلًا كمحرّرٍ ثقافي في صحيفة "لوموند"؛ إدمون المالح الرافض لفكرة الكيان الصهيوني والمعلن ولاءه للمغرب، والذي يصل إلى مرحلةٍ يتعامل فيها مع المخابرات المصريّة لمنع اليهود من الهجرة؛ وأيضًا عيسى العبدي، الصحافي الشيوعي الماركسي المناهض للملكيّة في حكم المغرب. ربّما تكون هذه الوجوه الثلاثة لشخصيّة المالح في الرواية هي صورٌ طبق الأصل عن الأفراد المغاربة اليهود والطرق التي كانوا يفكّرون بها سياسيًّا واجتماعيًّا تجاه المغرب وإسرائيل.

هذه الرواية تسير في خطّين سرديين متوازيين يتشاركان بعض التفاصيل الحكائيّة الصغيرة، فيمشي الخط الأول في إحداثيات الخيبة اليهوديّة لدى يهود المغرب خاصّةً، والبلاد العربية عامّةً، عقب هجرتهم إلى إسرائيل، وذلك بتكشّف المعاناة التي يعيشها هؤلاء في تلك البلاد العنصريّة (اعتبارهم أرقامًا انتخابيّة وأيادي عاملة زراعية، تناقض نمط معيشتهم مع نمط العيش الإسرائيلي...) وأيضًا بتسليط الضوء على العلاقات المشتركة بين اليهود والمسلمين في المغرب (علاقة الحب بين عمران وإيمان، حال المغاربة اليهود خلال النكسة، الفصل الحاصل بين أبناء الطرفين في المدارس...)، يضاف إليهما الدعاية الصهيونيّة التي تبرز اليهود كضحايا دائمين (غرق سفينة إيجوز التي حامت الشكوك حول ضلوع الموساد في إغراقها). هذه الخيبة نفسها عاشها عمران في المقلب الآخر عندما صودرت روايته بسبب خلافه مع فرانز غولدشتاين، أي خيبته من عالم النشر الذي بات محكومًا من قبل رؤوس الأموال ورجال الأعمال.

أمّا الخطّ السردي الثاني فيمشي في سياقات التطرق إلى الأساليب المافياويّة التي باتت تحكم قطاع النشر وآليات تحكيم الجوائز الأدبية كواجهات شرعيّة لتبييض الأموال، وهو ما تجلّى في أسلوب الترغيب والترهيب الذي تعامل به فرانز غولدشتاين، المحرّر الرئيسي في دار إديسيو لو سابل، مع عمران المالح لقاء تمرير رواية "اليوم المقدّس" إلى القائمة القصيرة للجائزة التي يعمل عضوًا في لجنة تحكيمها، فنجده بادئ الأمر مرغّبًا إيّاه بعرضٍ مغرٍ قوامه شيك بقيمة 20 ألف فرنك فرنسي وعقدٍ فلكيّ لنشر روايته، ليلجأ بعدها إلى ترهيبه بالحديث عن ملكية دار إديسيو لو سابل التي تعود للمافيا الكورسيكيّة، وكذلك استحضاره لتاريخه وجريمته خلال فترة الهولوكوست في أوروبا. هذه المافياويّة أيضًا نجدها في الخيبة التي امتلكت عمران مع وصوله لإسرائيل، تحديدًا داخل قرية الشباب الدينيّة، حين اقتادته مجموعةٌ من الشبان مهدّدين إياه بالقتل حال فضح ممارساتهم.


لعلّ أبرز نقطةٍ أضاءت عليها الرواية هي عرضها لتناقض وجهات النظر بين الطائفتين اليهوديّتين الأساسيّتين (السفاراديم والأشكناز) تجاه العرب، والذي تجسّد في أبرز شخصيّتين فيها: عمران المالح وفرانز غولدشتاين. فعمران يمثّل اليهود السفارديم الذين عاشوا قرونًا مديدة في بلاد المغرب والأندلس متجاورين مع العرب واتّسمت علاقاتهم بالتعايش السلمي وانعدام خطاب الكراهية بين الطرفين، ولو أنّ هذه العلاقات باتت مشوبة بالحذر عقب قيام دولة إسرائيل. أمّا فرانز فيمثّل اليهود الأشكناز الذين ينظرون للعرب على أنّهم شعبٌ متخلّفٌ وممعنٌ في إيذائهم، وهو ما يستغلّونه في الدعاية لأجل إسرائيل ولتبرير عنصريّتهم، حيث تجلّى ذلك في غضب غولدشتاين من كتاب "قصص أمازيغية" الذي رأى في قصصه أمثالًا على كراهية العرب لليهود.

كما أشرنا سابقًا، لم تأتِ هذه الرواية ضمن التقنيات الكلاسيكيّة المسلّم بها في الكتابة الروائية، بل أخذت منعطفًا كتابيًّا مغايرًا تمثّل بالاشتغال على أسلوبٍ تجريبي حديث نسبيًّا، ألا وهو أسلوب التشظّي الحكائي، وهو اشتغالٌ صعبٌ مهّد لشبكة علاقاتٍ سرديّةٍ معقّدةٍ وجعل من النص الروائي نصًّا جماعيًّا، والمقصود بالجماعيّة هنا انصهار الروائي والشخصيّة والقارئ في بوتقةٍ سرديّةٍ واحدة، كأنّ الكاتب اشتغل أثناء عمليّة الكتابة على قراءة وجهات نظر القارئ وتحليلها، وكذلك بنية الشخصيّة الرئيسيّة في النص وملامحها. من هنا أخذت الرواية أبعادًا تبادليّة بين عناصرها الثلاثة: الكاتب – الشخصيّة – القارئ، فيظهر في سياق النص وكأنّ هؤلاء يتبادلون أدوارهم في إنجاز العمل، وبالتالي لم يعد كلّ منهم آتيًا إليها بقالبه الجامد المحدود بقدر ما أخذ هيكلًا هلاميًّا مكّنه من مداورة دوره مع بقيّة العناصر.

شاء الكاتب ألا يعطي أبعادًا تضخّميّة للرواية ذات الـ 94 صفحة من القطع الوسط، فلجأ إلى التكثيف الشديد لمجراها السردي، وذلك حسب نظريّة قالب الجليد، أي باتت الفكرة تصل إلى القارئ بكامل انضغاطها ومن بعدها تأخذ تمدّدها في عقله حسبما يمكنها من ذلك. بالتالي جعلت هذه اللعبة الذهنية من الرواية قابلةً للقراءة من غالبية شرائح القراء وإن لامست حدّ عدم إشباع القارئ من فحواها عبر قراءةٍ واحدة، ولربّما كانت الرواية تحتملُ المزيد من الاتساع على صعيد الأفكار والإشكالات المطروحة عبرها دون أن يقلّص ذلك من اللغة التكثيفيّة المضغوطة فيها، غير أنّ الكاتب شاء ألا يورّطها في تضخّمٍ غير محمودٍ يدفعها نحو حافة الملل القاسي.

في كتابه "في الرواية الجديدة – بحثٌ في تقنيات السرد" يضع عبد الملك مرتاض سمات الثورة الكتابيّة للرواية الجديدة من خلال تنكّرها لأصول الكتابة التقليديّة والتمرّد على كلّ القيم والجماليات التي كانت سائدة في الكتابة الروائية التقليدية، فلا الشخصيّة شخصيّة ولا الحدث حدث، ولا المكان مكانٌ ولا الزمان زمان ولا اللغة لغة، وكل ما كان متعارفًا في الرواية التقليدية لم يعد مقبولًا في الرواية الجديدة. وهو ما يمكن القول إنّه جرى تطبيقه شبه حرفيًّا في رواية "أحجية إدمون عمران المالح".

إدمون عمران المالح 


بدايةً على صعيد بناء الشخصيّة، فالشخصيّة الرئيسية في الرواية (المالح) لا تحملُ سمات معيّنة ركّز الروائي على تشكيلها وتوصيفها، بل جنحت نحو شيءٍ من الضبابيّة حينما وجدت نفسها حاملةً لثلاثة أوجهٍ متداولة بين الصفحات، كذلك عدم واقعيّتها المطلقة بحيث استعارت بعض سمات الروائي المغربي إدمون عمران المالح دون أن تسقط شخصيته بصورتها التفصيليّة التامة في النص. وبالتالي تنتمي هذه الشخصيّة إلى ما يعرف بالشخصيات المدوّرة المركّبة، فأثناء تنقّلات احجيوج النصيّة نلمح هذا التفاجؤ الغريب من عدم استقرارها على حالٍ وعدم القدرة على التنبّؤ بمصيرها.

هذه الشخصيّة المركّبة لجأ احجيّوج للتماهي معها من خلال استخدامه لضمير المتكلّم، والسبب ربّما يعود إلى توافق آرائها في الجوائز الأدبية مع آراء الكاتب نفسه، وعبر ضمير المتكلّم أذاب الروائي الحواجز الزمنية بينه وبينها فظهر وكأنّه يتبنّى المالح وشخصيّته كمرآةٍ متخيّلة له أو كمتكلّمٍ عنه وعن آرائه الخاصة، مما يحيل الأنا ومرجعيّتها الجوانيّة إلى الكاتب الذي يشتغل على تعرية نفس شخصيّته البشريّة بصدقٍ ويتوغّل في مجاهلها الذاتية، فيقدّمها كما هي، لا كما يريدها القارئ. وبالتالي يتعارض هذا مع رأي رولان بارت الذي يتبنّى الرأي المنادي بأفضلية ضمير الغائب على صعيد الحكائية، فالرواية لا تحتمل فكرة تغييب ذات كاتبها عن مجراها وإلا فقدت قدرتها على مماهاة الواقع الحاضر فيما تطرحه.

ثانيًا على صعيد الزمان والمكان، فإنّ الحيّز المكاني في الرواية يميل إلى التقطيع، وذلك بفعل الأسلوب التجريبي القائم على تشظّي السرد ودور الذاكرة في مسار النص المكتوب، لكنّه رغم ذلك حافظ على واقعه الجغرافي ولم يخرج عن إطاره الطبيعي منسجمًا مع الأسطرة والأنسنة الكتابية. ولعلّ الدلالة الخلفية الإيحائية للمكان لم تتجلّ بوضوحٍ إلا في مكانٍ واحد: الغرفة البيضاء التي قبع عمران المالح داخلها، وهو بياض حمل دلالةً واضحةً لانتهاء حيزي المكان والزمان وانعدامهما، وحدها الشخصيّة، شخصيّة المالح، هي المتبقّية.

أمّا الزمان فحاله حال المكان، إذ يتجزّأ إلى خيوطٍ متشابكةٍ داخل الدائرة الزمنيّة الواحدة، فيبدأ بتواجد المالح في الغرفة البيضاء وينتهي به، وفي داخل هذه الدائرة الزمنية تتشعّب الخيوط وتتشابك بصورةٍ عشوائيّةٍ حسبما تقتضي ذاكرته المستعادة. ومع انعدام الحدث الواحد وتجزّئته نجد أنّ الزمن يتّخذ دلالةً سحريّة ليتحصص في اللحظة المتبلورة فتنتفي أهميّته وتتضاءل، ومع ذلك لا بدّ من حضوره للتدليل على استعادات ذاكرة المالح المتشعّبة والمتضاربة دون أن يعطي حضوره دورًا محوريًّا في حركة النص وتبدّلاته.

وينبغي الإشارة أخيرًا إلى ابداع احجيّوج اللغوي الذي ظهر على مستويي السرد والحوار، فسرديًّا اجتهد في خلق لغةٍ ذكيّةٍ ومتسارعة، فكان السرد المتلاحق سمة النص، ولم يحمل توصيفًا مشهديًّا صاخبًا بقدر ما ترك اللغة الحكائية تأخذ ملامح سردانية شبه مطلقة، وإن شابتها بعض الالتماعات الجماليّة الوصفيّة الشاعريّة. أمّا حواريًّا فجنح احجيّوج نحو جعل الحوار جزءًا من تركيبة النص ودمجه بها، فلم يتح مساحةً كبيرةً لتسلسل المحاورات وجرّب عدم إعطائها طبقات صوتيّة متعدّدة، بل ما أراده منها هو عروضٌ سريعةٌ لما جرى بين شخوص الرواية مخفيًا لكثيرٍ من صوره في طيات السرد، أي أمرٌ مكمّلٌ لها، وربّما لو أراد إخفاءه تمامًا لما شعر القارئ بشيءٍ من الخلل في بنية النص.

لعلّ "أحجية إدمون عمران المالح" واحدةً من التجارب الراهنة التي يمكن التعويل عليها كمقدّمةٍ لسلسلةٍ من الأعمال التجريبيّة الجديدة في الكتابة الروائيّة القادمة، وهي وغيرها من هذه التجارب تمهّد الطريق لمسارٍ روائيّ عربيّ تصبح فيه الرواية القصيرة (ما يعرف اصطلاحًا بالنوفيلا) هي أساس السرد وبنيته، وبالتالي تجعل من الكلاسيكيّة التفصيليّة جنوحًا مرجعيًّا ثقافيًّا ليس أكثر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.