}
عروض

"جيزابيل".. الخوف من الشيخوخة

في رواية "جيزابيل"، الصادرة بترجمة عربية لإينانة الصالح عن الدار الأهلية للنشر في عمَّان 2021، للكاتبة الروسية من أصول أوكرانية، إيرين نيميروفسكي، والتي ولدت عام 1903 في كييف، وتوفيت في معسكر الاعتقال والإبادة النازي "أوشفيتز" عام 1942 في بولندا متأثرة بمرض التيفوس، وهي الكاتبة الوحيدة التي توجت بجائزة "بريكس رينو" الأدبية بعد مماتها سنة 2004 عن روايتها "جناح فرانسيز"، تَضعُنا كقرَّاء مع حبكة عقلانية، مع غلاديس إيزناش، وهي امرأة مُسنَّة تدافع عن جمالها، وتريد أن تحتفظ به كما لو كانت في عمر الصبا. هي المرأة الجميلة وما دونها من نساء هنَّ قبيحات. لا شيء موضوعيًا، غلاديس تصرخ من أعماق روحها بأنها ما تزال في غاية الفتنة والإثارة، لكنَّها صرخة غير ثاقبة، فتضعنا المؤلفة أمام جريمة قتل تقترفها بطلتها غلاديس، تقتل رميًا بالرصاص شابًا جامعيًا "برنارد مارتان"، طالب في كلية الآداب في باريس، يسكن في شارع دي فوسي سانت 6، عمره عشرون عامًا، من أسرة فقيرة، من أصل متواضع جدًا، ابن غير شرعي لمدير فندق سابق، فيما هي الغنية ذات الثراء "امرأةٌ في غاية الثراء وتعود ثروتها إلى أمِّها من جهة، وإلى زوجها المتوفى من جهة أخرى، عاشت في فرنسا مرارًا قبل الحرب، واستقرت فيها منذ عام 1928"، تقتله بعد أن أقامت معه علاقة جنسية في منزله، وكان المحققون قد وجدوا شيكًا بقيمة ألف فرنك باسمه موقعًا من قبل غلاديس بتاريخ 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1934، وقد صرفه ضحيتها برنارد مارتان في اليوم التالي. غلاديس هي كمن أُصيب بالذعر، وقد فقدت شبابها الذي كان مضرب مَثَل، الأمر الذي خلق عندها صدمة متولدة، صدمات، أين ذهب العمر، أين ذهب الشباب، أين ولىَّ الجمال؟



حوارات ساخنة
ثمة مونولوغات، حوارات ساخنة من جلسات المحكمة التي كان يقاضيها فيها قاضٍ، وهو يستثير مكامن القوة فيها، ويستعرض من خلال استجواباته لغلاديس، وللشهود الذين باغتوا القاتلة: آنسة لاريفيير رئيسة الخدم عند السيدة إيزناش، الكونت مونتي، سوزان بيرسييه، باتريس بوشامب، كونستانتان سلوتيس.




تحيلنا المؤلفة إلى رواية من حوادث وبيانات عملية لقاتلة تُقرُّ بجريمتها، ولكن القاضي ـ الراوي لا يزال يندفع قبل أن ينطق بالحكم خمس سنوات سجن على غلاديس العجوز المهزومة التي ما زالت جميلة، والتي كان الزمن قد خدشها على مضض، بيدٍ ناعمة وحريصة، وقد تنبَّه للتو لرسمِ وجهٍ كان كل تفصيل فيه يبدو مصاغًا بحب، ومشغولًا بعناية، يمطرها بالأسئلة الاستفزازية ليزيل عن وجهها ذاك القناع الثابت، الذي تخفي خلفه غرورها وبؤسها ونرجسيتها، فتبدو وجهًا عاريًا من دون مساحيق وألوان.



رواية شبه بوليسية
المؤلفة، وإن كانت تكتب عن جريمة قتل، القاتلة فيها سيدة مجتمع، وليست مجرمة، أو مجرمة محترفة، تقتل بقصد الانتقام، أو السرقة، أو قاتلة لم تشغِّل القاضي ومختبره الجنائي في البحث وفك الألغاز لنعرف من القاتل بعد أن عرفنا الضحية، فنبقى مع رواية بوليسية فعلت العكس؛ فمنذ اللحظات الأولى للزمن الروائي تقر غلاديس بجريمتها: "لا أطلب المغفرة... أنا اقترفتُ جريمةً مريعة...". وكأن المؤلفة تعرض مسألة من مسائل الفكر (الفرويدي) لنبحث عن الدوافع النفسية لقاتل، لقاتلة من مجتمع خمس نجوم، فيما الضحية من الطبقة السفلى من المجتمع، فلا يشعر القارئ بمأساوية الفعل، فعل القتل. بل هناك سعي عند المؤلفة لامتصاص غضب القارئ وتحييده أمام الاهتياج الناعم للقاتلة، قاتلة تخاف من الشيخوخة، فتقتل الشباب، تقتل شابًا في العشرين من عمره. كيف سرت، أو كانت تسري في شرايين غلاديس تلك الفظاظة والخشونة والرعونة والسوقية والاستخفاف بحياة الآخرين. بل كيف تفقد مثل هذه المرأة رعشتها الروحية والحسية كأنثى كانت جميلة، فيصدر عنها فعل قبيح وشنيع هو فعل القتل العمد، كما أقرت أمام القاضي وهيئة المحلفين؟




المؤلفة تشتغل في روايتها بعين مجهرية، وليس بعين الساحر، فترى من خلالها الوجود الإنساني والمآسي التي تحيق بالإنسان، كانت الدوافع غريزية أو عاطفية، أو تخضع لنوعٍ من الغضب والعجز، فتعيدنا إلى فرويد الذي يرى في جانب من فلسفته أن الإنسان يدين بعدم تلاحمه مع المجتمع، أو سويته الإنسانية إلى قوى غامضة في ذاته. والقاتلة تقتل وتعترف بجريمتها، ولا حاجة للشهود إلا لتكمل الروائية التحليل الفرويدي، ومن دون أن تحس بالندم، وكأن غلاديس مجرم سيكولوجي، وهي التي عاشت حتى الثامنة عشرة من عمرها بالقرب من أمٍّ باردة، صارمة، نصف مجنونة، دمية عجوز مخضَّبة، طائشة ومخيفة بالتناوب، كانت تجرُّ ضجرها وابنتها وقططها الفارسية في كل أرجاء العالم.



رائحة الموت
ثمة ماضٍ تبحث فيه المؤلفة وهي تستعيد صورة بطلتها منذ كانت طفلة حتى شبابها فشيخوختها، فحين قتلت معشوقها الشاب، كانت لا ترى إلا نفسها، ولم تكن تصغي إلا لصوتٍ "داخلي قوي ووحشيٌّ ومشتعل في قلبها، يتصاعد، صوت قوي وشرس كان يصيح: اتركيني!...أريد سعادتي!... إذا كنت عائقًا لإحدى ملذاتي، سأكرهك!... وإن أفسدت لحظة واحدة من لحظات هذا النعيم الذي منحني إياه الرب، سأتمنى موتك...".
غلاديس امرأة لا تخفي غطرستها وتسلطها واحتكارها للحياة، وأكثر ما كان يخيفها أن يذهب الشباب الذي يعني الحياة، وهذا ما ولَّد عندها الرغبة في الدفاع عن شبابها، ولعل ما قالته المرأة العجوز لغلاديس في إحدى السهرات: "لا توجد إلا حقيقة واحدة، إلا سعادة واحدة في العالم، إنها الشباب. كم عمرك؟ بالكاد ثلاثين عامًا من دون شك؟... حسنًا، لقد تبقى لديك عشر سنوات من السعادة. سن الأربعين، إنه سن مرعب، لكن في الأربعين من العمر، لا نرى أنفسنا نشيخ، نعيش في وهم أننا ما زلنا في العشرين، أن عمرنا عشرين عامًا للأبد وفجأة، صدمة ما، أيًا تكن، ربما كلمة، أو نظرة من عيني رجل، أو طفل يريد الزواج، آه، هذا مخيف...".




الشيخوخة شكَّلت رهابًا وموتًا في الحياة لغلاديس، هي تدافع عن شبابها فيما كانت في الواقع تحتضر وتختنق من الناحية السيكولوجية، فهي بائسة ومهتاجة ومتألمة وعابثة ووسواسة وملتهبة ومقهورة، وما تفتأ تردد قائلة: أنا جميلة، رغم ذلك، أنا جميلة... أين كان سيجد جسدًا أكثر جمالًا؟... عمري ليس ستون عامًا، هذا ليس صحيحًا! هذا مستحيل!... إنه خطأ فادح!... لماذا أذهب لرؤية هذا الفتى؟... لقد عاش عشرين عامًا من دون أن أهتم لوجوده!... سيتوجب عليَّ الرحيل، الذهاب إلى نهاية العالم.
رواية "جيزابيل" هي عن عجوز متصابية لا تريد أن يذكرها أحد بشيخوختها، فتجتاحها مشاعر عنيفة، وبرنارد مارتان يؤنبها محقرًا: هل تظنين أنك قهرت الشيخوخة. إنها في داخلك. يمكنك أن تظهري جسدًا ما زال رشيقًا، وظهرًا يشبه ظهر فتاة شابة، وتصبغي شعرك، وترقصي، لكن روحك عجوز. إنها سيئة، فاسدة، ولها رائحة الموت. وهذا ما دفعها لتقوم بقتله برصاصة من مسدسها، وكأن الإنسان هو أكثر من حيوان سيكولوجي، بل هو حيوان ميتافيزيقي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.