}
عروض

"عشاءٌ متأخرٌ تحت جلدي".. بوح شعري ينحاز للحزن

راسم المدهون

25 أغسطس 2021

 

 

تبدو الشاعرة السورية علا حسامو في مجموعتها الجديدة "عشاءٌ متأخرٌ تحت جلدي" مسكونة بالتجول في تفاصيل الحياة اليومية وتجلياتها العميقة في الروح والمشاعر. هي تجربة شعرية تجتهد لاستقصاء المديات البعيدة للحدث الجزئي، الصغير، والذي يبدو عابرًا أو مألوفًا، فيما هو يشكل صورة العيش كله ويصبح رؤية الحياة وقوامها.

"عشاءٌ متأخرٌ تحت جلدي" (منشورات دار كنعان، دمشق، 2019) سرديات شعرية تغامر بالتوغل في قراءة فنية لاستعادات الذاكرة حينًا، ومشاهدات العين اليقظة المحدقة في الراهن وتحولاته وهمومه. هي قصائد تبني مشاهدها من حالات حزن تتشكل أمام أعيننا وتظهر لنا فجأة مكتملة بوصفها واقعًا جديدًا:

"أفتح عينيَ كلَ صباح وأفكر بعشاء يليق بالحب، لكن لا موائد في بيتي../ في هذه البلاد الواسعة كجرح/ لا بيت لي ولا حب../ ولأنك فكرةٌ جميلةٌ دائمة الجوع/ أدعوك لعشاء متأخر/ تحت  جلدي".

اللغة الشعرية لدى علا حسامو تبدو أقرب إلى لغة الحياة اليومية، بمألوفها وعاديتها، وهي لذلك تنجح في تقديم سرديات بوح شعرية عالية وحميمة، وتحمل الكثير من شجنها الخاص حيث الحزن "حالة" أكثر منه شكوى، وحيث هو أيضًا جموحُ الفكرة المجرَدة في بحثها عن تجسُدها على نحو يليق بالشعر ويكتمل به ومعه. إنها قصائد تبتني بيوتًا من الصور الشعرية التي تبرق في عتمة الواقع وسواده، ولكنه برقٌ يؤثث الحياة ذاتها بما هو جميل وبما يحمل خصوصيته وجدته:

"أكاد أكون/ حجرًا راود البحر عن نفسه/ فاستجاب/ ولما خطا خارج الموج يزبد بالرغبة اللاهثة/ تفتَح في أفقي ألف باب".

القصائد هنا تتنقل بين قصيدة النثر مرَة وإيقاعات قصيدة التفعيلة مرَة أخرى، وفي الحالتين نرى الانتقائية تلقائية تنساق لها سطور القصيدة وتفترضها. لا تشبه القصيدة سوى نفسها كأنها ترسم ملامحها من "فقه" اللحظة الشعرية ذاتها، ومن وقعها في الروح فهي قصائد كل تلك الحالات المتغيرة، القريبة والبعيدة في لحظات تشكلها في الوعي والبصر على نحو مختلف يكتمل بسعيه الحثيث نحو التفاعل مع مخيلة القارئ ووعيها:

"لأبي وجهٌ دائريٌ/ كالصمت/ يحيطني باتزان مذهل/ أنا زحلٌ صغيرٌ/ كلما أتعبني ثقلي/ صخبي/ وانهماكي في الرقص/ كلما تعثرت في رقصي/ أسندني برقة وأعادني".

في "الحالات" الشعرية كلها تذهب القصائد عمومًا نحو نوع خاص من البوح لا يهتم بالتقليدي من البوح العاطفي أو حتى الحسي الذي اعتدناه من تجارب شعرية نسائية لا تحصى، بل هو يستلهم التفاعل المرهف مع قضايا وأحداث ومفاهيم لا حصر لها، وهي تشكل مجتمعة ومتفاعلة قوام العيش الراهن وصور الحياة فيه. هي قصائد تستعيد الحياة بتراكمات حزنها من خلال استعادة لحظة أو مشهد واحد، والقصيدة في هذه الحالة أقرب إلى مونولوج داخلي يؤلف هتافه العاطفي حيث اللغة ذاتها تنحدر من تخوم فردية تحمل ألوان حزنها وتفاصيله وتجتهد لرسمها على الورق بالكلمات كما بالمشاهد.

في "عشاءٌ متأخرٌ تحت جلدي" يشي العنوان بلون من الندم أو إذا شئنا الدقة الحسرة واللوعة على زمن فات لكنه لم يزل يسكن تحت الجلد ويسري في الروح والجسد. إنها قراءة الأمل في لحظة ضياعه وهي قراءة تستشرف الفائت وتحاول أن تتحصّن في دروبه وأزقته لرؤية الراهن والقادم بعين أخرى وحدقة مختلفة.

هي قصائد أهم ما فيها تلك الحميمية التي تنسج الكلمات والسطور وتؤلف وحدتها وخطابها الشعري، وهي تتكئ على اللوعة كبؤرة ضوء ساطعة خصوصًا وأن سياقات قصيدة النثر التي تكتبها علا حسامو تأتي على درجة عالية من السلاسة، فنحن إزاء مجموعة شعرية حارّة ومفعمة بنشوتها الخاصة وهتافها الحميم المتميز، وهي بهذا المعنى تنقل لقارئ الشعر ولعها ودفء كلماتها:

"يهرول الكأسُ إلى فراغه/ إذ لا يد تحمله وتسكب فيه ريقًا مرًّا كآخر الحب".

علا حسامو في "عشاءٌ متأخرٌ تحت جلدي" تكتب من لوعة الشعر وبلاغة الحزن فتضع القصيدة في أوج التفاعل مع قارئها وتفتح للقارئ باب المتعة.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.