}
عروض

"الخط الأبيض من الليل".. الصراع بين المثقّف والسلطة

بهاء إيعالي

11 سبتمبر 2021


في روايته السادسة، "الخط الأبيض من الليل" (دار الساقي ـ بيروت 2021)، يتطرّق الكاتب الكويتي خالد النصرالله إلى قضيّة الرقابة على المطبوعات والمنشورات بصورةٍ سوداويّةٍ معقّدة، وذلك كنوعٍ من الاستحضار والمزج النسبي بين تصوّرات جورج أورويل الديستوبيّة في روايته الشهيرة "1984"، وتصورات راي برادبوري لجهة إلغاء الكتاب من صيرورة الحياة البشريّة في روايته "فهرنهايت 451". غير أنّ الرواية ذات الـ270 صفحةً من القطع الوسط لا تنزلق في متاهات ديستوبيا أورويل، أو برادبوري، لجهة التقبيح المطلق للعالم، ورسمه بصورةٍ خربةٍ ومترهّلة، بل بدت رغبة النصرالله، بلغةٍ روائيّةٍ كلاسيكيّةٍ رصينةٍ متماهيةٍ مع الواقع، في أن يربط قضيته الإشكالية بالعالم الراهن، ودوائر أحكامه الطبيعية.
أتت الرواية بمثابة سردٍ لسيرة "المدقق"، وشخصيّة المدقق مرادفة، أو أقرب إلى الترادف، مع شخصيّة "الرقيب"، غير أنّ تسميتها هذه لم تأت عبثًا بقدر ما جاءت كتلطيفٍ لصورة الرقيب المظلمة والصارمة، والسبب في ذلك هو الجو الواقعي الذي أعطاه الكاتب للرواية، كما أسلفنا. أتت هذه الشخصيّة بمثابة الخيط الذي ينظم معطيات الرواية، فحولها تدور الأحداث والشخصيّات، ومن هنا جاءت تركيبتها الثنائية المتناقضة والمتصارعة في ما بينها، فكانت عبارةً عن خلطةٍ لامتجانسة بين المدقق الموظّف المتماهي مع السلطة، والمدقّق المثقّف المتمرّد عليها.




هذه الخلطة اللامتجانسة تأصلت في الأوجه الأربعة للمدقق: القارئ، الموظف الحكومي، والكاتب، وصاحب المطبعة:
1 ـ القارئ النهم المصاب بهوس القراءة (ما يعرف اصطلاحًا بالببلومانيا) في كافّة مراحل حياته، والذي لاحقته العلاقة الشائكة بين المثقف والسلطة خلالها، بدايةً مع فترة صباه حيث دخل في صراع مع أبيه الذي حاول منعه من القراءة للحدّ من تأصّل هذا الهوس لديه، وهو ما دعاه إلى اللجوء إلى جمع الكتب والمجلّات خلسةً، وقراءتها في السر (وجهٌ من أوجه القتل الفرويدي للأب بالتمرّد على سلطته)؛ وصولًا إلى مرحلة شبابه ورجولته، حيث يقوم بإخفاء الكتب الممنوعة في نفقٍ تحت الأرض هربًا من ملاحقة السلطات له وبطشها.
2 ـ الموظّف الحكومي الروتيني الذي يشتغل في "إدارة المدوّنات المنشورة"، حسب معايير وقواعد سطحيّةٍ معمولٌ بها، وبالاستعانة بها يعمل على كتابة التقارير حولها لأجل إجازة طرحها، أو منعها من التداول؛ لكنّه في المقابل لا يتوانى عن إبداء إعجابه السريّ بما يقرأه، وهو ما يدفعه إلى التواصل مع "الروائي الفارس"، كي يعدّل في كلمةٍ ممنوعةٍ وردت في روايته بغية السماح بتداولها. ومع اصطدامه برفض الفارس ومبدئيّته، يقرّر الدخول في علاقةٍ وديّةٍ معه أوصلته إلى تحالفٍ سريّ معه ومع جماعته. وهنا يتّخذ الصراع بعدًا داخليًا يوصله إلى نتيجةٍ مفادها أنّ عليه التوقّف عن العمل بسبب الإجراءات الصارمة والجامحة لمدير الإدارة في التدقيق.
3 ـ الكاتب الذي يعمل على كتابة روايته الخاصّة بشكلٍ سرّي قبل أن يجد نفسه يكتبها على جدار النفق، وهي الرواية التي كانت بمثابة إعادة تمثيلٍ للـ"أنا" لدى المدقق، وعلاقته بالسلطة، فروايته تلاقت مع واقعه بإبرازها للصراع بين المثقف المتمثّل بالصبي الراوي وأصدقائه من جهة المحبين لاقتناء الكتب، وبين السلطة المتمثّلة في "شيطان الكتب" الذي يقوم بإحراقها.
4 ـ صاحب المطبعة الذي يقرّر الوقوف إلى جانب أصدقائه المثقفين بفتح أبواب المطبعة لطباعة وتوزيع الكتب الممنوعة، وذلك بالتحايل على إدارة المنشورات، والعمل بصورةٍ سرّية للغاية، قبل أن تكتشف الإدارة امتلاكه لهذه المطبعة، فينساق عقب توقفه عن العمل في مبنى الإدارة إلى إخفاء هذه الكتب داخل مكتباتٍ سريّة، وذلك كنوعٍ من المواجهة مع التضييق والمطاردة التي تمارسها السلطة.




هذه الشخصيّة المركّبة والمضطربة شاء صاحب "الدرك الأعلى" أن يفصلها عن أناه بشكلٍ مطلق، وبالتالي أصبح بمثابة متفرّجٍ على الحكاية، وليس جزءًا منها، ومن هنا جاء استخدامه لضمير الغائب كي يعطي للإشكاليّة المطروحة بعدًا موضوعيًّا شموليًّا، ويخفي انطباعاته كليًّا. وحتى مع استخدامه لضمير المتكلّم، خلال نص رواية المدقق، فإنّه يتماشى مع شخصيّته ويروي عنه قصّته، أي ما يمكن تسميته عربيًا برواية الحديث.
هذا الصراع الحاد المتجلّي في شخصيّة المدقّق داخليًا اتّخذ تجلياتٍ خارجيّةٍ من خلال إعادة إنتاج صورة المثقف والسلطة والصراع بينهما، والأخيرة جاء رسمها متطرّفًا بصورةٍ كاريكاتورية بطريركيّة صارمة، وذلك في استخدامها للتقنيات التقليديّة والأساليب القمعيّة الجائرة في تعاملها مع الكتب والكتّاب، وأيضًا تصرّفاتها الغريبة وقواعدها ومبادئها في العمل وحظر الكتب تحت شعار الحفاظ على الاستقرار والقيم الأخلاقية. غير أنّ رسم صورة المثقّف لم يكن أقلّ تطرّفًا ومبدئيّةً من تلك التي لدى السلطة، فأيضًا كان لهم آراؤهم الشديدة والقويّة في مواجهة السلطة والتمرّد عليها، مثالٌ على ذلك رفض "الروائي الفارس" تغيير كلمةٍ واحدةٍ في روايته، لما تمثّله من تحدّ لقانون الرقابة، كذلك جرأة "الروائية المغامرة" على إبداء رأيها بصراحةٍ وجرأةٍ من دون خوفٍ من اعتقالها. ومع هاتين الصورتين المتباينتين، ينشأ الصراع بين السلطة والمثقّف، والأخير يتّخذ أساليب تتجاذبها ثنائيّة التماهي والتمرّد كما يحصل مع شخصيّة المدقق، فتراه يواجهها تارّةً بأسلوبٍ صريحٍ من خلال الانخراط في الاحتجاجات وإبداء رأيه بصراحةٍ مطلقة، ويواجهها طورًا بأسلوبٍ مواربٍ احتيالي من خلال تقديمه لكتبٍ تستوفي شروط الإدارة وطباعة غيرها.
لم يقتصر هذا الصراع على الشخصيّات، بل امتدّ إلى الحيّز المكاني، فثمّة ثلاثة أماكن لجأ إليها الكاتب، وأعطاها أبعادًا رمزيّةً تتخطّى وظيفتها المكانيّة، بدايةً بمكانين متصارعين هما: مبنى الإدارة والمطبعة. أما مبنى الإدارة فهو تجسيدٌ فعليّ للسلطة، وقد لجأ النصرالله إلى توصيفه بصورةٍ دقيقةٍ بأقسامه وهيئته، بأقسامه الأشبه بالمتاهة وهيئته البالية الرثة، وبالتالي أعطى السلطة أبعادها التقليدية العفنة في تفسيرها للأمور والأشياء والأساليب المتبعة في تطبيق آلية عملها. أمّا المطبعة فهي التجسيد المكاني للمثقف المتمرّد على الأحكام السلطوية، وأيضًا ثمّة توصيفٌ دقيقٌ لتفاصيل هذه المطبعة، بآلياتها المستحدثة وحجمها الصغير وطاقم عملها، أي أنّها تلعب دور المجدّد في المفاهيم والمعطيات المجتمعيّة من خلال عملها على طباعة الكتب الممنوعة. وما بين هذين المكانين مكانٌ ثالثٌ يمثّل شخصيّة المدقّق والانفصام الشخصي الذي يعيشه، ألا وهو النفق الذي لجأ إليه هربًا من ملاحقته، وهو نفقٌ لم يحمل تفاصيل دقيقةٍ بقدر ما حمل أبعادًا صراعية، فعلى جداره كتب المدقق روايته متحدّيًا السلطة، وفيه أخفى الكتب واختفى عن الأنظار.




من الواضح أن "الخط الأبيض من الليل" لم تحمل اشتغالًا على اللعبة الزمانيّة بقدر ما أعطتها تخفّيًا شبه تام، أي لم يكن للحيّز الزماني وظيفته الروائيّة، شأنه شأن المكان، بل أعطى دلالةً على تسلسل الحدث المروي ليس أكثر. ومن هنا لا نجدُ اشتغالًا على حقبةٍ زمنيّةٍ محدّدةٍ، أو فترةٍ تاريخيّةٍ معيّنة، وهو ما يعطي لإشكاليّة الرقابة أبعادًا سرمديّة، فتتواجدُ في الماضي، وتحضر في الراهن، ولا بدّ لها من ترك بصمتها وحضورها في المستقبل.
وحملت الرواية تركيبة تقنيّة معقّدةً تقوم على ثلاثة تكنيكات:
1 ـ الرواية الديستوبية وعالمها السوداويّ الخرب، حيث نجد النصّ جانحًا نحو واقعٍ مريرٍ متمثّلٍ بفكرة الرقابة الصارمة على المطبوعات والجهة التي تناوئها، وكذلك موقف المدقق من كلّ ما يحصل، بحيث أنّه يناقض طبيعته الروتينية كأحد القائمين على هذه المسألة ويميل صوب الكتاب والمثقّفين المتمرّدين والرافضين.
2 ـ الرواية الوجوديّة، وذلك في اتباعها لفكرة حريّة الإبداع والكتابة وتبنيها لها، فالصراع الذي يخوضه المثقفون الرافضون لسلطة مبنى إدارة التدقيق، وعلى رأسهم الروائي الفارس، والروائية المغامرة، وإلى جانبهما المدقق، كصاحب المطبعة والمتمظهر كشخصيّةٍ اشكاليّةٍ تحوم حولها الأسئلة وتعيش حياتين متناقضتين؛ كلّ هذا يضع الرواية وداخلها أسئلة متكرّرة حول الحياة الأدبية في ظلّ الرقابة الصارمة للمطبوعات والمنشورات.
3 ـ الرواية الواقعيّة واهتمامها الدقيق بتفاصيل لعبة إثارة الحواس وتشويقها، وكذلك بتصويرها الحدث تصويرًا حياديًا خارجًا عن ذات كاتبه، وهو ما أضفى على عالم الرواية المرير وجهًا واقعيًّا ملموسًا، وبالتالي لم يعد القارئ أمام مناخٍ متخيّلٍ للنصّ بقدر ما أصبح أمام آخر حقيقي يعايشه بشكلٍ يومي.
ينبغي الإشارة إلى أن نص الرواية لا يحاول أن يتّخذ مستوياتٍ ذهنيّةً صرفة، بل يلجأ لمضمونٍ حسّيّ يجعله قريبًا من المقروئيّة الشاملة. وبسبب ذلك كان للأسلوب الكلاسيكيّ السيطرة المطلقة على النص، وهو ما تجلّى باشتغال الكاتب على سرد الأحداث والتتابعات بصورةٍ تفصيليّةٍ متلاحقة توخّى عبره إكساب القارئ المتعة، بحيث يقرأ الرواية من دون أن يدع لنفسه الفرصة لإفلاتها، أو إيجاد حاجزٍ بينه وبين بنيتها.
ما يؤخذ على الرواية هو معضلة الاشتغال اللغوي في صفحاتها، فخالد النصرالله لم يستطع أن يتجاوزها تمامًا، جراء التباين الإتقاني على مستويي السرد والحوار، ففي البناء على المستوى السردي نجح في تقديمه متراصًّا من دون أن يدع ثغرةً في المسار الحكائي تجعل القارئ يتيه عن تلاحق النص، بل أجاد حياكة البنية السرديّة، وأعطاها حركةً تكتيكيّة ذكيّة. فيما كان البناء على المستوى الحواري ناقصًا لجهة الأبعاد اللازمة لتكامله، أي الإيحاءات المحسوسة للشخصيّات المتحاورة. كذلك نلاحظ تخفي نصوص الحوار بين طيّات الكتلة السردية، وهو ما أدى إلى تبهيت الحالات النفسيّة والفيزيولوجيّة للشخوص.
ليست مسألة الصراع بين المثقف والسلطة بجديدةٍ على الأعمال الأدبيّة، فلطالما صدرت أعمالٌ تتناولها من زوايا مختلفة، غير أن "الخط الأبيض من الليل" تجاوزت هذه المسألة بمشهدياتها الملموسة، ودخلت في عالم الصراع السري بين المؤلف والرقيب، مما يجعلها بمثابة فصلٍ جديدٍ من فصول صراعٍ عمره عمر الكتابة، ومشاهده تعيد إنتاج نفسها في كلّ حقبةٍ وزمن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.