}
عروض

شوقي بزيع يطوف بمسارات الحداثة.. حداثات مختلفة لا واحدة

دارين حوماني

16 سبتمبر 2021

 

إننا إزاء خريطة للشعر.. خريطة تعيد تركيب ذاكرتنا وترتيبها على مدار الضوء الذي تركه لنا أربعة وعشرون شاعرًا بعد ولوجهم مدائن الصمت، بقوا معنا أم ارتحلوا، لكنهم كفوا عن ترتيب خساراتهم شعرًا، عرف الشاعر شوقي بزيع كيف يملأ تفكيرنا من مناطقهم التي تخطت العتمة بسنين وتجاوزت معنى الوجود، فجاب بين أصقاعهم وقدّمهم لنا في كتابه الجديد "مسارات الحداثة- قراءة في تجارب الشعراء المؤسّسين" (دار الرافدين، 2021، 285 صفحة)، معترفًا بصعوبة تصدّي الشاعر لمهمة النقد، حيث يتصل الشعر بالكثافة والترميز والضربات الخاطفة، فيما يعمل النقد على البرهنة والتفكيك، لينشقّ الشاعر على ذاته ويصبح الوجه والمرآة في آن واحد.

الحداثة الغربية والمجتمعات العربيّة

لكن قبل فتحه أسوار مدينته على لاجئي الشعر، سيكتب بزيع مقدّمة مطوّلة من 73 صفحة تكاد تشكّل كتابًا آخر داخل كتابه، يبدأ فيها من ثنائية الشاعر والناقد، ليدخل في دينامية التجاوز والتباس المفهوم بين مصطلحي "الحديث" Modernity أي الجديد في مقابل القديم، و"الحداثة" Modernism التي تجسدت مع شارل بودلير حيث أضحت الحداثة تعني الانتماء إلى العصر والانخراط فيه، ولم يتوقف السجال بين القديم والجديد "فالعالم القديم قد رسخ حضوره في داخلنا كما تفعل الأديان، لا يمكن أن يخلي مكانه بسهولة لما يفد من جهة الحاضر، وسيبدي مقاومة غير عادية لكل ما يهدّده بالإلغاء والنفي والاقتلاع"، ولم يكن الانتقال نحو الحداثة في الغرب عملية سهلة خالية من الصراعات واتخذت طابع التنافس الثقافي على الصدارة.

وفي جردة استقصاء مكتملة يحيلنا صاحب "صراع الأشجار" إلى مقاربة موضوعية للحداثة بنماذجها الموازية في الغرب ابتداءً من المؤرخة الأميركية غيرترود هيملفارب التي لا تربط الحداثة بالعقل والتنوير فحسب بل بما تسميه "عادات القلب"، وتعتبر أن إفراط الدارسين في تقريظ حركة التنوير الفرنسية لا يعود إلى رجحان الإسهام الفكري والفلسفي الفرنسي على سواه من الإسهامات بل إلى الثورة الفرنسية التي نقلت الفلسفة من سماء التنظير إلى أرض الواقع المعاش ووضعت التاريخ العالمي على سكة جديدة، كما تؤكد على الأسبقية الزمنية للتنوير البريطاني. وفي المقابل فإن الناقد والمفكر الفرنسي هنري لوفيفر يرى أن بودلير هو رائد الحداثة الأبرز و"رسام الحياة الحديثة" التي بلغت ذروتها مع ماكس جاكوب وبيكاسو وأندريه بريتون، وأن ما هو جديد لا بد أن يصبح كلاسيكيًا، "وهذه العلاقة الجدلية بين الأضداد سنجد نظائرها في مقولات الحداثيين العرب حيث يعتبر أدونيس وكمال خير بك أن كل شعر عظيم يطمح إلى كلاسيكيته وأن لك ما يبدأ هامشيًا لا بد أن يصبح جزءًا من المتن إذا توفرت له أسباب الفراجة والجدة". ويتوافق رأي لوفيفر مع مالكم برادبري وجيمس ماكفارلن، في كتابهما المشترك "الحداثة 1890-1930"، اللذين يؤكدان أن مفهوم الحداثة ليس جامدًا بل يتطور مع الزمن وما كان حديثًا لا يعود كذلك بعدها، فالرومانسية كانت حديثة بالقياس إلى الكلاسيكية ثم باتت هي بدورها قديمة. ومن أهم ما طرحه الناقدان أن ما يجمع شعراء الحداثة هو تمجيد الغموض والإبهام وصولًا إلى التشكيك بكل قصيدة، وأن الحداثة الغربية هي الابنة الشرعية للحياة المدينية القلقة.

ويأخذ هايدغر على الحداثة أنها "وهي تقصي الحضور الديني في التاريخ والعالم تحولت بذاتها إلى ديانة جديدة"، ويرى أن الشعر لا ينبغي النظر إليه من زاوية الحداثة والقدم أو من زاوية اللسانيات الشكلية أو النقد المعياري، بل من المكان الأقرب إلى الكينونة، فهو ليس مجرد منظومة من الدلائل بل علاقة مع العالم من خلال توسط لساني، ما يحيلنا إلى غاستون باشلار، الذي ضيّق المسافة بين الشعر والفلسفة، ويرى في الشعر العودة إلى الفطرة الأولى. ويرى بزيع أن مقولات نيتشه وهايدغر وشوبنهاور وغيرهم لا يمكن النظر إليها إلا في إطار الاحتجاج على التصحّر الروحي الذي ضرب الحضارة الغربية في ظل استشراء المادة وطغيان الجشع ونظام السوق وتحوّل البشر إلى أرقام وقطع صغيرة في آلات التوحّش الرأسمالي، وهذا ما نجد ارتداداته في روايتي "التحول" و"المحاكمة" لكافكا وقصيدة "الأرض الخراب" لإليوت. وعلى الرغم من تبني قصيدة النثر في الغرب إلا أن الشعراء أنفسهم لم يهجروا الأوزان بالكامل ولم يتنكروا للإيقاع، كما أن الشعراء الألمان "لم يفتتنوا بالانفجار الحداثي في نسخته الفرنسية، إلا أن كلا من ريلكه وهولدرلين وغوته عملوا على خلق نموذج يجمع بين الانتشاء الأورفي- نسبة إلى أورفيوس- في العالم وبين القلق الوجودي والميتافيزيقي".




ما يؤكد عليه صاحب "ملكوت العزلة" أن الحداثة في جانبها الشعري لم تكن مجرد دعوة ضيقة للتمرد على الأشكال أو لإحلال النص المرسل على الموزون، بل هي دعوة لتحرير الشعر من المسبقات المرهقة ومن كافة الوظائف الأيديولوجية والدعائية والاجتماعية التي أنيطت به، وأن زمن الحداثة ليس هو الزمن الكرونولوجي، بل هو زمن متقطع ولولبي ومشظى، بحيث يكون فيه الوراء هو الأمام، والأمام هو الوراء، تبعًا لقدرة النص على التوهج والانبثاق. ويضع أمامنا بزيع إشكالية عميقة ينبغي برأينا قراءتها من زوايا متعددة، فهو يعتبر أنه إذا كانت الحداثة في الغرب قد دخلت في زمن مختلف وهو زمن ما بعد الحداثة، فإن "المجتمعات العربية لم تدخل بعد في حقبة الحداثة نفسها"، لا بل هي تستخدم التقنيات الحديثة التي ينتجها الغرب بروح تقليدية "متخلفة"، ودون أن تمتلك الآليات والوسائل العقلية التي تتيح لها الدخول في العصر الحديث. والسؤال الأهم الذي يطرحه بزيع هو إذا كان من الممكن إنتاج أدب وإبداع حديثين في مجتمعات العالم الثالث التي لا تمتلك من الحداثة إلا قشرتها السطحية، وفي الزمن الذي نعيشه، الذي يزال رهنًا لحقبة الانحطاط وما يرتبط بها من تقاليد الماضي ومفاهيمه البالية. وفي نقده لأولئك الذين اتخذوا موقفًا سلبيًا من الحداثة، يرى بزيع أن ذلك لم يكن مستغربًا من أولئك الذين يغلّفون موقفهم العدائي بشعارات تتعلق بالحفاظ على الدين القويم والقيم الأصيلة الموروثة ومحاربة الغزو الثقافي الغربي فيما هم يدافعون عن مصالحهم وحدها، "والطريف في الأمر أن الدلالات المعجمية للحداثة عند العرب منقسمة على ذاتها بشكل ملحوظ، بين ما هو إيجابي وما هو سلبي ونافر ومرذول".

وفي مقدمته المعمقة يذهب بزيع إلى التغييرات العميقة التي أحدثها الشعراء المجدّدون في العصر العباسي في بنية القصيدة العربية دون أن يخرجوا على البحور التقليدية، متسائلًا عن أسباب عدم خروجهم عنها، فما حققه أبو تمام على مستوى البلاغة والتخييل حققه أبو نواس على صعيد الرفض الاجتماعي وانتهاك القيم السائدة واستبدال الجسد الديني بالجسد الدنيوي، وحيث "بدا الاحتفاء بالخمرة طريقة الشاعر لرفض الواقع الزائف وللانفصال عنه"، وتخفّف ابن الرومي من فائض البلاغة مقتربًا من رشاقة النثر وبساطته. أما التغيير الأهم برأي بزيع فكان مع أبي العلاء المعري الذي عمل بعناد لإخراج الشعر من دائرة الوصف الإنشائي والبوح العاطفي ليصبح على يديه مشروعًا رؤيويًا وطريقة لفهم العالم واستكناهًا عميق الغور لمعنى الوجود الإنساني ومآلاته المأساوية. ويستشهد بزيع برأي أدونيس في ذلك، الذي لا يرى في وجود الوزن أو انعدامه المعيار الذي تتحدّد بواسطته القيمة الجوهرية للنصوص، ويرى أن أبا نواس واحدٌ من أهم الحداثيين العرب.

أما في عصرنا الحديث فيعتبر بزيع أن أدباء المهجر أمثال أمين الريحاني وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي قصّروا المسافة بين الشعر والنثر وأن نصوصهم كانت إيذانًا مبكرًا بإمكانية التوأمة بين الشعر والنثر في الكتابة العربية اللاحقة، ثم الطروحات النقدية لشعراء "مدرسة الديوان" أمثال محمود عباس العقاد وعبد الرحمن شكري، و"مدرسة أبولو" التي أطلقها أحمد زكي أبو شادي، حيث لعبت السجالات الفكرية والثقافية الحادة بين هاتين المدرستين دورًا في خلق ديناميات فكرية ومعرفية لنظرية الشعر عند العرب. وابتداءً من أربعينيات القرن الفائت، فإن ثالوث الحركة الشعرية، السياب ونازك الملائكة والبياتي، أطلق الحداثة الشعرية الأولى ضمن سياقات متعلقة بالإخفاق المأساوي للثورة العربية الكبرى، فترافقت المقاومتان العسكرية والسياسية مع حركة نهوض ثقافي ومعرفي تمثلت في ازدهار الصحف والمجلات وحركة الطباعة والأهم منذ ذلك الانفتاح على الثقافات الوافدة، وهذا ما أدى إلى نوع من "التشابك الفصامي" بين النزوع إلى حماية الهوي القومية وبين الافتنان بمصدر التجديد نفسه.

يستعرض بزيع دور مجلة "الرسالة" بإعادة الاعتبار للأدب الذي عملت السياسة على تهميشه، ويناقش تأكيد نازك الملائكة أسبقيتها الزمنية على السياب في حركة الشعر الحر وتوقعها لـ"نهاية مبتذلة" لهذا المشروع، فهي نفسها وبعد عدد من السنوات أصابها الارتباك وتراجعت عن دعوتها الرائدة إلى التجديد. ويشرّح الحائز على جائزة عكاظ (2010) الصورة الجماعية لزمن الحداثة منذ إرهاصاتها الأولى إلى زمن الحداثة الأول في العراق ثم زمن الحداثة الثاني في بيروت مع مجلة "الآداب" و"شعر" و"مواقف"، حيث عمل سهيل إدريس العائد من فرنسا أول الخمسينيات ومتأثرًا بالثقافة الفرنكفونية وبالفلسفة الوجودية، على وضع مشروعه الثقافي في خدمة قضايا الأمة واجتذب عشرات الأسماء المجدّدة في مجلته "الآداب" واتسع صدرها لعشرات السجالات الفكرية "قبل أن يصبح العالم العربي برمته مساحة للتصحر والقنوط والظلام التكفيري". كما أطلق يوسف الخال بيانه الشعري الذي "ذهب في قراءته للشعر اللبناني إلى أقصى حدود القسوة، حيث لم يرَ فيما أنتجه الشعر اللبناني غير المراوحة النمطية بين الكلاسيكية والانفعال الرومانسي، مضيفًا أن الشعر اللبناني هو شعر عربي تقليدي متخلف عن العصر وغير حديث". وفي موضع آخر، وبرغم تبني جماعة مجلة شعر لقصيدة النثر إلا أن الخال يؤكد أنهم ليسوا منبتّين أبدًا عن التراث بل من ورثته الحقيقيين، فاحتضنت المجلة الشعر الخليلي بموازاة الشعر الحر، كل ذلك قبل أن يعلن الخال بعد سنوات عن نهاية مشروعه، ما حدا بأدونيس إلى إطلاق مجلة "مواقف" التي كان منبرًا هامًا لكافة الأصوات الجريئة على مدى ربع قرن.




الاحتفاء بالجديد والمغاير

"بدا سعيد عقل كما الأعمدة بقامته الفارغة وعينيه المسدّدتين نحو المجهول وجبهته المرفوعة وشعره المبعثر وكأنه أحد أبطال الأساطير الذين جاؤوا ليتفقدوا الأرض عند نهايات الأزمنة قبل أن يعودوا ثانية إلى ممالكهم" هكذا يبدأ شوقي بزيع بالحديث عن سعيد عقل، مستهلًا به شعراءه، وواصفًا إياه بشاعر الأنا المتعالية والبلاغة القصوى، فالتضخيم المفرط لصورة لبنان وحجمه ليس سوى تضخيم للأنا الفردية التي حاول الشاعر مماهاتها مع أنا الجماعة، ولأنه كان مهجوسًا بالفخامة فإن ما يخلفه في دواخل قرائه وسامعيه هو الشعور بالنشوة والذهول ليصبح شعر عقل رديفًا للهندسة والنمنمة اللفظية، ويرد بزيع على دعوته إلى التخلي عن العربية الفصحى لمصلحة المحكية أو الحرف اللاتيني "فأبلغ رد عليها هو شعره الفصيح الذي يتجاوز بأشواط نماذجه المحكية"، وهو إذ يفترق عن الحداثة في احتفائها بنثرية التفاصيل كما باليومي والهامشي يلتقي معها في الخروج عن رتابة القول الشعري المستهلك وفي البحث عن منظور للكتابة يحتفي بالجديد والمغاير. وفي الخانة المضادة لما يمثله سعيد عقل، فقد اجترح نزار قباني حداثته الخاصة التي لا تمتح من مياه الآخرين وتقوم على خطين متوازيين هما تحرير الشعر من صنميته وتحرير الجسد من مكبوتاته، كما "بدا الخطاب النزاري بمثابة رد رمزي على خطاب القسوة والعنف الذي أنتجته الحروب المدمرة بشقيها القومي والعالمي، ولعل الثورة النزارية الجسدية تتصادى مع ما حدث في الغرب من تحولات في نظام القيم وإعلاء للشهوة الجسدية". ويوغل بزيع في شعر نزار قباني ليتبنى بعض النقاط السلبية فيه، منها التماهي مع ذائقة الحشود والإفراط في استخدام الصورة النمطية التي تفقد بفعل التكرار وإعادة الصياغة قدرتها على الإدهاش، إضافة إلى شعره السياسي الذي يقع بمعظمه تحت عنوان تبكيت الذات الجمعية ويشكّل استمرارًا لفن الهجاء عن العرب.  

أما قدر بدر شاكر السياب المأساوي، فقيرًا مشلولًا وحيدًا في أحد مستشفيات الكويت، فما يزال يرمز للكثيرين، برأي شوقي بزيع، إلى غربة المبدعين العرب الكبار وعزلتهم العميقة في مجتمع لا تكف قيمه وتقاليده الثقافية عن التقهقر، وإذا كان الشاعر قد بدّل مواقفه مرارًا وولاءاته العقائدية فإن ما لم يتبدل هو ولاءه للشرط الإبداعي، والذين أخذوا عليه استمراءه للإفاضة والإسهاب لم يبتعدوا عن الحقيقة لكنه لم يأسر نفسه داخل نمط واحد من الكتابة. ويعتبر بزيع أن الجدال حول الأسبقية الزمنية لريادة الشعر الحر بين قصيدته "هل كان حبًا" وقصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة ليس مهمًا بقدر أهمية حاجة الشعرية العربية إلى الخروج من شرنقتها المغلقة التي أحدثتها قصائد بدر شاكر السياب في تربة الآخرين.

ويحتفي شوقي بزيع بتجربة نازك الملائكة ودورها في عملية التحديث الشعري ويورد ردة فعل والدها إزاء قصيدة "الكوليرا": "لكل جديد لذة غير أنني/ وجدت جديد الموت غير لذيذ"، وهو التعبير الفوري عن "صدمة الحداثة" التي احتاج استيعابها وقتًا طويلًا من قبل المحيطين بنازك، وهي نفسها ستبدي فيما بعد توجسًا شديدًا إزاء قصيدة النثر والنموذج التحديثي الجذري لمجلة "شعر"، ويتساءل بزيع عن سبب ارتدادها عن الكثير من طروحاتها التجديدية، ويرى أن ذلك يعود إلى نفور نازك مما آل إليه وضع الشعر الحر من تسيّب واستباحة واستسهال كما إلى نشأتها المحافظة فظلت أسيرة تمزقها بين تشبثها بالتقاليد الموروثة وبين الانقلاب عليها.

أما عبد الوهاب البياتي فلم يرتضِ الإقامة في الظل، ولشدة إحساسه بالتميز جنّد نفسه لخدمة شعره، ورغم أنه يدين بنجاحه إلى الأحزاب الشيوعية العربية ومنظومة اليسار الدولي التي طوّبته على سدّة الشعر الملتزم إلا أن بعض نجاحه متصل بثراء تجربته وبقدرته الماكرة على الخروج من نفق المباشرة، على حدّ قول بزيع، ويتساءل شاعرنا "هل كان البياتي ظاهرة إعلامية تراجع وهجها بتراجع الأيديولوجيا التي تبنتها؟"، ورغم أن بزيع يتساءل إذا كان من الإنصاف وضع البياتي في سلة اليقين العقائدي ونتناسى أعماله الأخرى، إلا أنه يعود إلى القول إن الكثير من نتاج البياتي المبكر أشبه بتعميمات عقائدية وكليشيهات سياسية يغلب فيها الوظيفي على الجمالي، لذلك سقطت بسقوط المناسبة. ويعتبر بزيع أن المشكلة الحقيقية في شعر البياتي ليست فقط أنه ينحصر في السياسة بل أن ثمة تغييبًا للذات الفردية في هواجسها ومشاعرها الحميمة، مضيفًا أنه لا يمكن أن نستثني ديوانه المبكر "أباريق مهشمة" و"كتاب البحر" الذي صدر قبيل رحيله لما يملكان من مساحات تأويلية وتبصرّ حدسي قادر على مقارعة النسيان والصمود في وجه الزمن. وفي مقابل البياتي كان بلند الحيدري يدفع ثمن تواضعه وتواريه وعدم تسويق صورته في الإعلام فيغيب عن بال الكثيرين رغم أنه ينتمي إلى نفس جيل الأضلاع الثلاثة للحداثة الأولى ويبدو أكثر اقترابًا في شعره من هواجس الحداثة وقضايا الإنسان المعاصر.




"مشروع تغيير العالم"

"الشعر تسمية للأشياء ومشروع لتغيير العالم"- بهذه الكلمات يعنون شوقي بزيع حديثه عن أدونيس الذي "تمكن منذ اللحظة الأولى أن ينقلنا من زمن إلى زمن". يحيك بزيع لأدونيس بورتريه مكثّفا، يدفعنا إلى أن ننصت إليه تمامًا، منذ طفولته والمصادفة التي جعلته يتلقى منحة للدراسة في مدرسة "اللاييك الفرنسية" فيتعرّف مبكرًا على بودلير ورامبو ونيتشه، ثم تدريسه لبزيع في الجامعة اللبنانية حيث كان معلمًا له خارج الصف بموازاة ما هو في الصف، ثم محاربة "حراس هيكل البلادة" له، ووصولًا إلى تأسيس مجلة "مواقف" التي بدت ترجمة ملموسة لمشروعه الفكري الأوسع الذي أراد من خلاله الانتصار للحرية لمستوياتها الثقافية والفكرية والسياسية. ويرى بزيع أن الأرضية الغنية التي اكتسبها أدونيس منذ طفولته وفّرت له كل الشروط لإخراج الشعر من دائرة الانفعال العاطفي والغنائية الرخوة وتحويله إلى مشروع رؤيوي يسهم في تقويض المفاهيم والبنى السائدة، حيث بدت التجربة الأدونيسية منذ "قصائد أولى" مختلفة عن سواها، لا من حيث الأدوات الفنية والجمالية، بل من حيث النظر إلى الشعر بوصفه مساءلة للوجود ومشروعًا لتغيير العالم، وهو لم يربط الحداثة بالتأخر الزمني ولم يرها رديفًا للمعاصرة بل ربطها بالمغايرة والتجديد، ويعتبر شوقي بزيع أن هذا الإعلاء الاستثنائي لمعنى الشعر يضع أدونيس على الضفة المقابلة لأفلاطون، الذي أراد أن يطرد الشعراء من جمهوريته بدعوى كونهم هامشيين ومزورين للحقيقة.

في الزمن نفسه كان خليل حاوي يؤمن بمنظومة من القيم مفرطة في مثاليتها شكّلت نقطة ضعفه وقوته في آن، برأي شوقي بزيع، وجعلت منه شخصًا عصاميًا ودائم البحث عن معنى للحياة، ومن جهة ثانية أوقفته عند التخوم الأخيرة للإحباط وخيبات الأمل. ولن يبذل قارئه كبير جهد ليكتشف أن شعره كان ترجمة أمينة لأفكاره المتعلقة بالموت والبحث عن البراءة الأولى وأن هذا الشعر خالٍ من أحوال العيش ويومياته، ولا صدى للذة حسية أو إخفاق عاطفي.



وعلى خط الموت والحزن نفسه كان صلاح عبد الصبور يكتب شعرًا شديد الانسياب كما لو أنه مكتوب بروح النثر، ومؤثرًا الإقامة في الظل لم يكتب عبد الصبور شعرًا للمنابر وللتصفيق. ويشبّه شوقي بزيع مأساة عبد الصبور بمأساة الحلاج الذي قُتل بسبب مواقفه الدينية أما عبد الصبور فقد توقف قلبه إثر محاكمته القاسية وتوجيه اتهمات له من أصدقائه بالتطبيع مع إسرائيل عند موافقة السلطة المصرية على المشاركة الإسرائيلية في معرض القاهرة الدولي للكتاب في الوقت الذي كان عبد الصبور رئيسًا للهيئة المصرية العامة للكتاب.

ويعود شوقي بزيع إلى العراق ليحكي عن قصيدة سعدي يوسف التي كلما كبرت كلما اتجهت نحو التكثيف والتحليق حول بؤرة المعنى؛ خائفًا من الموت وفوات الحياة بدا نزوعه الأبيقوري العارم إلى الملذات وافتنانه الشهواني بالمرأة واحتفاؤه بالصعلكة والتسكع في المنافي. ويرى بزيع في شعر سعدي يوسف سجلًا تفصيليًا لروح العصر وأحداثه وعلاقة عضوية بين حياته وشعره الذي بدا نوعًا من السيرة الذاتية، ويأخذ بزيع على يوسف تحوّل الكثير من نصوصه إلى إعادة صياغة لما سبق أن كتبه. أما قصيدة محمد الماغوط فلم تكن وحدها المتمردة، فقد كان هو نفسه متمردًا على منظومة القيم السائدة منذ كان طفلًا، وكان من الصعب "تدجين الماغوط وترويضه"، فقد عانى من بطريركية الأب والفقر والسجن السياسي والمنفى وقساوة الحياة منذ شبابه، وقد كان شعره انعكاسًا لتجربته القاسية وهو يخرج من القاع الأخير للألم الإنساني وفيه ما يؤجج الإحساس بوحشة الكائن. ويستعيد بزيع حديثًا للماغوط حين سُئل عن سبب انخراطه في صفوف الحزب القومي السوري الاجتماعي لا في صفوف البعث، فقد عزا الماغوط السبب إلى كون الأول قد جهز مقرّه بمدفأة فيما أخفق الثاني في تحقيق ذلك.




وإلى مؤسسي مجلة "شعر" وأعمدتها، يوسف الخال، أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، يتجه شوقي بزيع، فيوسف الخال هو بطريرك الحداثة المثقف التنويري والمترجم المنحاز إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي الذي أسّس مجلة "شعر" التي اعتُبرت راعية الحداثة الثانية بعد الحداثة الأولى في العراق، وخاضت أشرس المعارك مع مجلة "الآداب" التي انتصرت للمشروع القومي العربي في مواجهة القومية اللبنانية. ويضع بزيع مقارنة بين مقولات يوسف الخال وتنظيراته حول الشعر مع عمله الإبداعي الشعري، ليجد أنها غير متجانسة وأن شعره لا ينسجم مع طروحاته النظرية المتقدمة، "لا بل إن قصائده لا ترقى إلى المستويات التي بلغتها القصيدة العربية، بل هي تدور في فلك القصيدة المهجرية والنماذج العاطفية الرومانسية"، وهذا ما تؤكده الناقدة خالدة سعيد التي لم تتردّد في وصف بعض قصائد الشاعر بالجفاف وانعدام الحرارة وغياب التجربة الذاتية. ورغم ذلك فإن بزيع يعترف للخال بدوره الريادي كمترجم ومثقف ومؤسس مجلة "شعر" في تجديد الثقافة العربية، ويشبّه تجربته بتجربة أندريه بريتون في إطار الحركة السوريالية، فهذا الأخير لم يكن الأكثر موهبة لكنه كان الأفعل والأكثر دينامية. أما أنسي الحاج فحين "نستعيد الصورة شبه اليوتوبية للبنان ما قبل الحرب يبدو حضوره فريدًا وشديد السطوع داخل تلك الصورة التي تكاد أن تضمحل بفعل التصحر والعقم الفكري وتفريغ الكيان من معناه".. ويرى بزيع أن أنسي الحاج حذا حذو سوزان برنار في اعتبار الإيجاز والتوهج والمجانية الشروط الثلاثة الأهم لكتابة قصيدة النثر، فعمل منذ ديوان الأول على تقويض البنية النحوية، وراح ينطلق من شاعرية التقويض والهدم إلى شاعرية الانبثاق والشغف بالجمال. ويشبّه بزيع شوقي أبي شقرا بـ"صياد الدهشة وشاعر العبث الطفولي"، الذي عُرف عنه تنقيح كل النصوص التي تصل إلى مجلة "شعر" ثم إلى الملحق الثقافي لجريدة "النهار" على مدى أربعين عامًا. ويرى بزيع أن البورتريهات التي قدّمها أبي شقرا عن أصدقائه المشتغلين في حرفة الكتابة أقرب إلى الانطباعات والمجاملات منها إلى التقصي النقدي والقراءة المعمقة. كما يُحسب لأبي شقرا، الذي كان يسعى لإظهار "نزوعه الطفولي السوريالي"، إثراؤه اللافت للمعجم الشعري التقليدي ولغته الخاصة التي لا تمتح من مياه الآخرين، برأي بزيع، ومعتبرًا أن بعض نصوصه تفتقر إلى الكهرباء التي تمس الشغاف، وثمة نصوص لا تتعدى كونها تمارين لغوية مجانية وألعابًا ذهنية لا تجد ما يسوغها.

ثمة حديث آخر عن أحمد عبد المعطي حجازي "شاعر الغنائية المتوترة والجمال الآفل"، ومظفر النواب الذي تنقّل من "الهجاء السافر إلى التطريب الصوتي"، ومحمد الفيتوري "الساحر الذي انقلب على سحره"، وتوفيق صايغ "شاعر العراك الضاري مع اللغة والحياة"، وعصام محفوظ "المثقف الذي خذله الشعر وربحه المسرح"، ومحمد عفيفي مطر "شاعر الأساطير السلالية واللاوعي الجمعي"، ومحمود درويش "المتحالف مع الخلود منقبًا عن فلسطين الأعماق"، وأمل دنقل "الذي استنطق التراث وتوهج بلغة ماكرة"، وحسب الشيخ جعفر "شاعر المكان المنفي والأزمنة المطمورة"، وسركون بولص التي كانت "اللغة وطنه والحياة منفاه"، ولكل شاعر منهم بحره الخاص الذي كلّمنا شوقي بزيع عن مياهه وأشيائه، فكنا إزاء مكتبة تكاد لا تجف يحملها على أكتافه ويمشي صوبنا ربما لإثراء معرفتنا بهم، وربما لتحريرهم من وحدتهم. 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.