}
عروض

"نيافة الراعي والنساء".. ديستوبيا أوطان تتداعى

سوسن جميل حسن

21 سبتمبر 2021

 

في مجموعته القصصية الصادرة حديثًا عن دار روافد، تحت عنوان "نيافة الراعي والنساء"، يضع الكاتب المصري روبير الفارس القارئ في جو سوداوي يشعر معه بأن الأفق مغلق، ولا أمل في الشفاء ممّا يلتهم حياة الإنسان العادي في مجتمع يتهالك، من دون أن يقوى على الخروج مما أزمن فيه من مشاكل تجعل الذرائعية مبرّرة في السلوك انطلاقًا من مقولة: على الممثل أن يلعبَ كلّ الأدوار ما دام لها معادل موضوعي في المجتمع. تأتي على لسان الممثل الراحل يوسف شعبان في مقابلة قديمة، وقع عليها بالمصادفة، الصيدلي الذي أمضى سنوات الدراسة يحلم في فتح صيدلية ومناداته بلقب دكتور، فكان جلّ ما حصل عليه أن يصبح مندوب مبيعات لشركات الأدوية، ويرعى والدته المريضة، بينما غالبية زملائه في المهنة تحوّلوا إلى باعة مواد تجميل وشامبو متنازلين عن الدور الاجتماعي والعلمي للمهنة، منساقين للجنوح الذي انزلق إليه المجتمع نحو الحياة الاستهلاكية وما يرافقها من قيم أيضًا، فصارت مكافآت الترويج والبيع للمنتج من قبل الشركات هي توفير النساء للمتحكمين الكبار بالسوق تحت عنوان: الزبون دائمًا على حق. هذه كانت القصة الأولى "دور يوسف شعبان" في المجموعة المؤلفة من ست عشرة قصّة، يجمعها خيط متين يتشكل من مزدوجة تتحكّم في أجواء القصص كلها، وتشكّل العنوان العريض والفكرة الماثلة، السيد القوي في كل تجليّاته في مجتمع بطريركي سلطوي، والشريحة المستضعفة، جموع العامة، تمثلها بؤرة الاستغلال: المرأة.

إذا تناولنا المجموعة من عتبتها الأولى، العنوان (نيافة الراعي والنساء)، فلا بدّ من الوقوف إلى ما يحيل إليه، فالنيافة عادة لقب يُسبغ على رجل الدين، وهي تنطوي على معان قيَميّة رفيعة، من السمو والرفعة والنزاهة والسيادة والمسؤولية، وهي بمثابة العربون الذي يُقدّم للجماعة المستهدفة من أجل ولائها والاعتراف بهذه المكانة الرفيعة التي تصل حدّ القداسة لهذه الشخصية، أمّا الراعي فهو يحمل معنى ظاهريًّا وآخر مواربًا، لكنه في الحالتين يتطلّب وجود قطيع، والقطيع هنا، هو مجموعة من الكائنات الإنسانية في ما تتناوله القصص، أو فيما هو ميدان اشتغالها. أمّا النساء فهنّ الضحيّة على شكل سلعة رخيصة مستعبدة لهذه السلطة المتغوّلة التي تتنقل في مواقعها على طول القص، بين شركات ربحية تفرض أسلوب التداول في السوق وأدواته، وبين الإعلام متمثلًا في عتاة الصحافيين، أو رجال الدين في موقع المسؤولية، أو الضابط الكبير، أو المسؤول الكبير. كل هذا يحدث أمام عيني المواطن العادي المغلوب على أمره، الغارق في مشاكله الحياتية وأوهامه من دون أن يكون له رأي أو تأثير فيما يحدث أو في القرارات، بل هو المنتهك الأول وربما الوحيد، بالرغم من إحساسه بالكارثة، وإدراكه وإشارته إلى أماكن الخلل أو الشقوق في البنى المجتمعية وبنى الدولة التي ستوصل إلى الانهيار والسقوط المدوّي. وهذا ما يظهر كفكرة لها دور البطولة في قصة "التكرار في قصّة المزّة والحمار"، كما في قصة "حاسّة مرذولة".

في غالبية القصص تبدو البطولة للحدث، أو الفكرة التي تنضوي في سياق السرد، إلا أن ما يجمع بينها هو المزدوجة التي تحدثنا عنها، سلطوي مستبد وإنسان منتهك، والجوّ المشحون بالانفعالات العاتية التي تأخذ بالروح إلى أقاصي المشاعر الضاغطة الموجعة، بما تكشف عن واقع ديستوبي يرخي بخيمته الثقيلة على الحياة، فتصير الغالبية عبارة عن جموع تمشي كالمسرنمة، لكنها تشعر بآلام عميقة في منطقة ما من كيانها من دون أن تقوى على أن تكون غير دريئة تُسدَّد باتجاهها السهام، أو حقل تجارب للنيافات بكل أنماطها وفضاءات سطوتها.

لا تغيب الأسطورة أو الحكاية التاريخية عن القصص، بما يحيل إلى الواقع الراهن ويسلّط الضوء على بنية صلدة متحكّمة بالوعي العام لا بدّ من تفتيتها، كما في القصة الأخيرة "قبل اللعنة بمحطة" حيث يستدعي السارد من تاريخ مصر ومن حقب متباينة شخصيات يضعها في حدث مقابل بعضها بعضًا، ويدير بينها السجالات ليصل إلى نتيجة أن التاريخ لا يُقرأ كما يجدر بشعب يعرف كيف يستنبط قيامته من حيثياته، بل بما يعزز الفرقة والتبعية والجمود، أبطالها أخناتون وإريوس الهرطوقي وهيباتيا، والجدل اللاهوتي والديني فيما بينهم.

 


السارد/ ظل المؤلف

العتبة الثانية التي تستدعي الوقوف عندها هي الإهداء الذي دوّنه المؤلف في مقدمة العمل: إلى شهر فبراير/ شباط... المضطهد... المتردّد... قصير الأيّام... كم أشبهك يا مسكين. فهل المسكين هو هذا الشهر الذي يسترضونه كل أربع سنوات بمنحه يومًا يزيد في طوله لكنه لا يصل إلى الموازاة والتساوي مع باقي أشهر السنة التي يلقبونها بالكبيسة، الذي يحكمه جوّ متقلّب لا حرفة له أمامه، ولا يستطيع التخلّص من التهمة الملتصقة به، بأن شمسه لا يؤتمن جانبها وأنه، كما يقول المثل في بلاد الشام: شمس شباط ما لها رباط. لذلك لا يُمنح الثقة مثل المواطن العربي في هذه المجتمعات المنكوبة بطغيانها المتعدّد، يبقى خارج القرار وفي دائرة الاستهداف؟ يبدو السارد في المجموعة القصصية ظلّ المؤلف، يواكب الأحداث ويمعن في تسليط فلاشاته على الزوايا المعتمة، حيث دائمًا هناك إنسان منتهك تئن روحه من ألمها وجروح كرامتها، فتستحيل حياتها، على قصرها، إلى كتلة تنسّ باحتراق ناقص، فلا هي تموت، ولا هي تحيا كما يليق بإنسان في العصر الحالي، عصر الحقوق الإنسانية، حيث يحاصر الفكر قبل غيره، وتلفّق لصاحب الرأي أو المثقف أو المبدع التهم التي توصله إلى حبل المشنقة أو التهديد الوجودي بأبشع أشكاله، كما حصل مع الأستاذ الجامعي "يونان"، في قصة "لا أريد معجزة يا بابا (كيرلس)"، إذ يتهمه المحقق بأنه يتطاول على الرموز القومية للبلاد متمثلة بشخصية جمال عبد الناصر، بادعائهم بأن الأستاذ يضمّن أسطورة اغتصاب "ست" لـ "حورس" تلميحًا إلى عبد الناصر، والتهمة جاهزة: التآمر مع العدو الصهيوني، أو الانتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين، مع أن الأستاذ مسيحي قبطي، فتتحوّل التهمة إلى "كافر". تذكّر هذه الحكاية برواية "القوقعة" للسوري مصطفي خليفة، واتهامه باعتباره معارضًا للنظام بأنه إخواني واعتقاله لسنوات طويلة مع أنه مسيحي. في غرفة التعذيب الذي يفوق تصور العقل، يستعيد تجربة إيمانه، ينتظر المعجزة من صاحب المعجزات البابا كيرلس، ويسأل أين الله؟ لكن الصوت الذي يصحو عليه من غيبوبته، يقول على لسان مدير السجن: إن الله يحكم كل الأرض، إلّا السجن أنا حاكمه، فأي ظلام يفوق هذا؟ وعندما تذهب جدته لطلب بركة كيرلس ومعجزته كي يشفيه بعد خروجه معطوبًا، كان لديه الرئيس ليشفيه، وعندما قالت له جدته اذهب إليه، أجابها: هل يشفي الضارب والمضروب يا جدتي؟

قصص تتلقفك كل واحدة وتسلمك للتي بعدها، فإذا بها تفتح لك أبوابًا على كل ما تمور به الحياة السفلية في قاعها الموحل من سفالات السلوك البشري، عندما تستبيح كيانه غرائز الشبق الأعمى لشهوة وحشية ومتع رخيصة يحصل عليها القوي بكل الطرق، لا تعييه الوسائل طالما هو الحاكم بأمره، إن كان مسؤولًا أمنيًا أو ضابطًا كبيرًا أو سياسيًّا في موقع القرار، أو رجل دين، وهذا سلطته أكثر خبثًا ودهاء، باتكاله على الدين والله والكتب ومعجزات القديسين، نراه في قصة  "صندوق العطاء" التي يقدم لها على أنها مستوحاة من "أحداث حقيقية"، فيمتنع راعي الكنيسة عن مدّ يد العون لشاب من رعاياها لإتمام زواجه، بالرغم من غنى الكنيسة وصندوقها الذي يجمع التبرعات، بينما تحصد روحه مع أرواح الكثيرين عملية إرهابية، وهم في طريقهم إلى دير العذراء لأخذ البركة والدعاء له من رهبانها من أجل إتمام زواجه. أو في "نهارات البطريق الحزين"، فيصل الصراع بين الشهوة والبتولية حدًّا يُقمع معه الجسد لتفقد الروح اتقادها، يصبح شبه ميّت في حياة وُهبت للرهبنة من أجل السموّ فوق نزعات البشر، لكنها لا تموت، بل يحيا صاحبها في شبه كفن وهو حيّ.

أما قصة "يصفف شعر الشر" فتُقتل فيها أي محاولة للفضيلة، عندما يقوم أحدهم في سوق شعبي بقتل ثعبان سام خرج من قفصه، عمل بطولي يحمي الجموع، لكنه يدفع ثمن الثعبان لصاحبه في النهاية.


عالم منحلّ

عالم غارق في البؤس، مخنوق بالممنوعات والتابوات، مقموع الرغبة والاشتهاء، مصلوب تحت مقصلة الدين والأعراف والطبقة السياسية الفاسدة، عالم ينحلّ ويتحلّل، جموع من البشر المتشابهين في بؤسهم وأحلامهم التي تصطدم بسقف منخفض مهما كانت قزمة وممسوخة، أكثر حقوقهم بديهيّة محرومون منها، ينزلقون إلى الشعور بالإثم والخطيئة بمجرد التفكير بملامسة حق من حقوقهم الطبيعية الممنوعة عليهم، مثلما حدث لبطل قصة "بكارة مبتلّة"، الجامعي المهزوم في حياته، فينهزم أمام مومس لا يملك ما يدفع لها، وتخونه رجولته لينتهي في المسجد ويصطاده الإمام أبو الهدى، يؤهّله ليكون انتحاريًّا، وقبل أن يسحب الحزام ليفجّر نفسه ويقتل الآمنين، كان يحلم بالحوريات، لتأتي الأدلة الجنائية في تقريرها أنهم وجدوا حيوانات منوية غزيرة على سيقانه، صورة بالغة الدلالة عن الانمساخ الآدمي.

هذا هو فضاء المجموعة القصصية "نيافة الراعي والنساء"، الفضاء المُقتطع من حياة بؤساء هذه الأوطان، حتى لو كانت معظم قصصها على علاقة برجال دين مسيحيين، أو رعايا الكنيسة، لكن في النتيجة فإن أشخاصها وأمكنتها وفضاءاتها تنتمي إلى ثقافة متراكمة تاريخيًّا صهرت أتباع الديانات والطوائف والمذاهب في بوتقتها، حياة تفوق بسورياليتها أي محاولة يقدمها الفن، وتمور بديستوبيا أكثر من كل ما كتب من أدب عن هذا الواقع، ومع هذا، تستمر الحياة، ولا بدّ للأدب من أن يصدم الوعي باستمرار، كي نرى أنفسنا في مرآة الواقع، كي تكون الحياة تجربة جديرة بقلب الطاولة لنحظى بما يليق بنا كمخلوقات برتبة إنسان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.