}
عروض

"غانيات بيروت".. لينة كريدية توثّق آلام حفيدات "أليسار"

دارين حوماني

7 سبتمبر 2021


 

تؤكد لينة كريدية في روايتها "غانيات بيروت" (دار النهضة العربية، 2021) قول الروائية الفرنسية مارغريت دوراس "إننا لا نكتب شيئًا خارج الذات"، فالرواية، كما كاتبتها في الحقيقة، محمّلة ببيروت كلها، بنسائها ورجالها وشوارعها وأحداثها السياسية، تكتبها كريدية من خلال سلسلة من القصص، تبدو للوهلة الأولى منفرطة عن بعضها لنصل في النهاية إلى شجرة كبيرة واحدة اسمها بيروت.

"هيام 1952"، "ناديا 1953"، أنطوانيت 1910"، "نوال 1969"، "لودي 1934"، "ابتسام 1891"، "نازك 1920"- تعنون ابنة بيروت فصول روايتها بأسماء غانياتها وتواريخ ميلادهن، وتعرّف عنهن بأن منهنَّ بيروتيّات أصيلات، ومنهن اللاتي قَدِمن إلى العاصمة، والدوافع كثيرة، قصصهن كثيرة وشائكة، لتبقى بيروت وشوارعها وأزقتها الشاهد على كل ما مرّ، وما سوف يمرّ، سيدات المجتمع المخمليّ، الداعرات، العاملات والعالمات والخائنات والانتهازيّات والمومسات... جميعهن بطلاتُ الرواية، وساكناتٌ روح بيروت إلى الأبد.

هيام ابنة الخمسة عشر ربيعًا تتزوج من خالد الذي يكبرها بالسن لكنه سيغريها وأهلها بالسيارة الفخمة والبيت الواسع والمجوهرات. تتحول الحياة معه بعد إنجاب أربعة أولاد إلى قبر لا يخفف عنها إلا شقاوة ابنها الأصغر محي الدين ورفقة سامي صديق زوجها. أصبح خالد "نعشها الذي يمنع عنها الهواء وهي مجرد آلة للإنجاب ومستراحٌ لجسده". تقع هيام في حب سامي وذات يوم يختفي محي الدين ابن الست سنوات ليتبين أنه رأى أمه مع سامي في الفراش، تُطرد هيام من البيت وترحل إلى أميركا دون أن تهتم بمصير أولادها، لتتحول حياة محي الدين لاحقًا إلى جحيم غير قابل للمحو إلا من خلال طبيبه زياد. 

ناديا التي تحلم أن تكون النجمة الشاعرة، ويحيط بها عشرات الذكور من المثقفين والشعراء والنقاد والصحافيين، يعجبها هشام الصحافي المثقف، "النجم الخمسيني النسونجي بميدالية، متميز فوق العادة". وفي الوقت نفسه فإن حازم الذي يتمرن في مخيمات تدريب على السلاح يحب ناديا، لكن كلامه المتسلط الذي يخفي في طياته سطوة ذكورية مبالغة وعنادًا فضلًا عن فقره أبعداها عنه، فقد سددت فاتورة شقائها كاملة حين كانت مقيمة مع أهلها في القرية ثم في حي النبعة الشعبي. تستذكر ناديا يوميات تعيسة من حياتها في ذلك الحي، "ترى ناديا هذا الحيّ مقرفًا بساكنيه الرعاع. لا تفهم معنى أن تهتم النساء ببيوتهن من الداخل ويرمين أوساخهنّ خارجًا. على أنّ أرذل خصال هذه النسوة التلميحات الجنسية بهدف المفاخرة. في أغلب الصباحات، تغسل جارتهم في الحيّ منشفتين كبيرتين وتنشرهما، عدا اللتين تضعهما على رأسها، وما إن ترى إحدى الجارات حتى تتمايل بغنج وتضع يدها على خاصرتها فترمي الصباح على جارتها ثم تشكو تعبها مبتسمة متعللة بأن الشغل اليومي متعب، فتفهم جارتها أن زوجها فحل ويطلب النكاح كثيرًا. كيف لناديا أن تنتمي لهذا المجتمع؟!".

أنطوانيت النجار التي لم تكن تفكر للحظةً واحدةً أن جسدها سيتعفن مجزّأً من دون دفن، تلتزم دارَ بغاء "ماخور". كانت تفضل أن تكون فتاة مقاه، لكن الأمان له أثمان باهظة، وجينكو هو حارسها الشرس العنيف والمسيطر الباعث على الاطمئنان، "في بادئ الأمر اغتصبها مرارًا وتكرارًا مع عنف مقصود جسدي ولفظي حتى استكانت له، ثم تحسنت العلاقة ليصبح وجوده في حياتها كالهواء والماء". ستقع أنطوانيت بين يديّ فيكتور، الذي بعد أن أتم فعلته معها حية، لم يتوقف، فاغتصبها ميتة، وقطّعها محتفظًا برأسها "وركنه في أقصى خزانة المؤونة في البيت المستأجر".



نوال المصابة بالذهان تتكلم في منزلها مع "أليسار"، لا فرق بين أليسار وبيروت، فحروب بيروت هي سبب تعاسة نوال ومرضها المزمن. تريد نوال أن تتخلص من أليسار تمامًا، "تلك المجنونة التي تدّعي أنها عائدة من الزمن الفينيقي"، فتضع الزئبق في فمها خلال نومها وتقطّع جسدها ثم تدفن أشلاء جريمتها "الوهمية" في حوض داخل البيت أعدّته نوال خصيصًا من نبات صبار اسمه بالبيروتية "لسان الحماه" للأحواض المستطيلة، "فالشوكة الحادة في أعلى ساقها الممشوقة تنذر المقترب بضرورة الابتعاد، أما شجرتا الكوتشوك فتستطيعان خلال وقت قياسي احتلال كامل مساحة الحوض ويضمن سماد روث الماعز إبعاد أي متطفل".

حبيب الخمسيني الذي ولد لعائلة أرثوذكسية بيروتية أرستقراطية يقع في غرام لودي ابنة السادسة عشرة، تناديه "عمو حبيب"، يغدق عليها الهدايا الباريسية بعد كل سفر. لودي ستتزوج من جورج وبعد وفاته، ثم ستقع في حب حبيب، لكن سعادته لن تكتمل، فيلقى حتفه ليلة زفافهما، لتمضي لودي بقية حياتها وحيدة. الشيء الوحيد الثابت عند حبيب كانت محبته لصديقه وتوأم روحه داوود، "داوود لبق مع المومسات، عنده دائمًا رغبة بتخفيف مواجعهن وانكساراتهن النفسية، متيقّنٌ أن في حياة كل واحدة منهن مأساة دفعتها إلى الهرب من الواقع إلى هذا القدر البشع، وقد رأى بأم عينه نهاياتهن المأساوية، ذليلات ومنبوذات من المجتمع، لا من يشفق عليهن من الأقربين أو المنتفعين من سحب مدخراتهن طوال سنوات باسم العائلة، فكم من جميلة أصابها مرض معدٍ جنسيًا ولم تشف منه، فطُرِدَت من الماخور لتواجه مجتمعًا لا يرحم". داوود هو ابن الأخ الأصغر لابتسام التي تزوجت وهي في الرابعة عشرة من عمرها من أحد أغنى أغنياء بيروت وستنجب نازك المتمردة.
 

عتبات الألم وسردية مدينة موجعة

ثمة عتبات كثيرة للألم في رواية لينة كريدية، فكل امرأة لها سرديّتها الموجعة، تتوقف قصة كل غانية عند كل فصل من الفصول الستة عشر لتكملها صاحبة "نساء يوسف" في فصل لاحق، ليتبين لنا فيما بعد أن شخوص الرواية مترابطة في مكان ما، فناديا التي تهجر أهلها وقريتها وحي النبعة لتستأجر مع رفيقتها شقة في الأشرفية لن تكون سوى شقة فيكتور حيث احتفظ برأس أنطوانيت، ولودي عجوزًا ستكون جارة ناديا وغادة، غادة التي ألقت بنفسها من شقتها بعد أن رأت خيانة أمها لها مع زوجها. والدكتور زياد الذي أحب نوال قبل أن يعرف بمرضها، يتابع حالة محي الدين الذي تحول إلى المخدرات بعد أن رحلت أمه هيام، كما أنه لن ينسى مريضته لودي الموشومة باسم "حبيب" على رسغها الأيسر.

رواية "غانيات بيروت" رواية توثيقية تعرّف قارئها على تقاليد عائلات بيروت، "كأكثرية البيارتة الأصليين يحلم خالد بمعايير جمال خاصة بالبيارتة من عيون خنساء واسعة، وبياض "كحبة الصنوبر المنقوع"، وأصابع رشيقة مهقاء ناعمة، "خيار مقشر"، وشعر أشقر طويل يدغدغ أخسّ فانتزماته". ولا تنسى كريدية أن تمرر توصيفًا دقيقًا لأزقة بيروت القديمة وبيوتها التي تختفي تباعًا أولًا مع بداية الحرب الأهلية ثم مع تشكيل شركة "سوليدير" ثم مع شراهة أصحاب رؤوس الأموال لتدمير ما تبقى من وجه بيروت التراثي، "في الزقاق الضيق الذي لا يتسع لغير المارة في منطقة المصيطبة العجوز، يذرع خالد الجوار، يتنشّق روائح الأشجار المزروعة قرب البوابات الحديدية المتهالكة والبيوت الصغيرة التي تحميها، فهنا شجرة الفتنة، وتُجاورها الجهنمية. في المنزل المقابل، شجرة "الأكي دنيا" وشجرة الكاميليا السامقة، وفي آخر الزقاق شجرة الياسمين متسلقةً ومنتشرة كدخان "أركيلة"".



أما التأريخ الأهم في رواية لينة كريدية فهو وقوفها عند محطات أساسية من تاريخ لبنان السياسي من داخل قصص غانياتها، تعيدنا لينة كريدية إلى مقولة شارلي شابلن "في الأعمال الفنية من حقائق التاريخ أكثر مما في كتب التاريخ منها"، فنوال حين رأت أبويها آخر مرة لم تكن قد تجاوزت الست سنوات. "كانَ يوم أحدٍ 6/12/1975 أو ما سمّيَ لاحقًا بـ"السبت الأسود". كان والدها مرتبطًا بموعد ضروري مع شريكه قرب مرفأ بيروت وارتأت والدتها أن تؤنس زوجها، وتذهب معه. في هذا الوقت لم تكن أخبار مقتل أربعة مناصرين لحزب الكتائب قد انتشرت، لكنْ ما إن وصلا إلى منطقة المرفأ حتى كان الخبر قد انتشر كالنار في الهشيم، وقرر الكتائبيّون الانتقام. بالرغم من استرحام شريكه المسلحين الملثمين إلا أنهم أصروا على أخذ الوالدين للتحقيق. كان سبتا أسودَ بالفعل. لم يُعثر لهما على جثة أو أثر. لم ترد نوال أن تصدق أنها لن ترى والديها أبدًا، كما رفضت فكرة منعها من اللعب في الحديقة جراء رصاص القنص أو القذائف المفاجئة".

وناديا يدفعها حازم إلى أن تكون في قلب المظاهرات، فهو يرى أن الدور العملي الذي يغيّر مجرى الأمور فعليًا هو الشارع والشباب والمظاهرات، وأن الحركة النابضة للدفع والتغيير هي الجيل الجديد، أما المثقفون بالنسبة لحازم فعملهم يكمن في الكتابة والتنظير، لذلك كان دائمًا يدفع ناديا لجلسات مناقشة فساد السلطة وسرقة الدولة الأموال العامة والتحدث عن العفن الذي ضرب جهاز الدولة من الرشاوى وتفضيل المصالح الشخصية؛ "هو معذب بين يساريته وعروبته المتزمتة، وبين ما يحصل من انتهاكات إسرائيلية كالكومندوس في 11 نيسان/أبريل 1973، الذي استطاع القضاء على قيادات مهمة من منظمة التحرير. وما زاده قهرًا أن هناك قيادات لبنانية كان لها ضلع في العملية الإسرائيلية، ومخابرات الكرة الأرضية كلها في لبنان، دسائس الدول الكبرى والمؤامرات التي تُحاك. كانت سنتا 1973 و1974 بركانًا خامدًا. فحملات التبرع للتسليح في أوجها والأردن تعد الشباب عسكريًا، واتسعت دائرة الموضوع لتشمل ألمانيا وإسرائيل من ضمن البلاد التي دربت مقاتلي الكتائب والنمور والأحرار. كان هذا رد فعل على معركة الجيش مع المقاومة حيث لم يستطع الجيش اللبناني القضاء على الوجود المسلح الفلسطيني عام 1973". وهشام سيطلب يد ناديا للزواج في الوقت الذي كانت بيروت تغلي، والأوضاع السياسية تقترب من حافة الانفجار في 26 شباط/ فبراير 1975 "حين أصاب رشق من الرصاص مجهول المصدر الزعيم الصيداوي المحبوب معروف سعد، وهو يترأس مظاهرة مع صيادي مرفأ صيدا منددين بشركة بروتين، وهي شركة يمتلكها أشخاص نافذون في الدولة اللبنانية، ومتعاقدة لاستثمار الصيد على امتداد الشاطئ اللبناني. تم نقل معروف سعد إلى المستشفى بحال خطرة، واشتعل الشارع اللبناني غضبًا في الصباح".

وحبيب لا تغيب لودي عن خياله وسط الأحوال السياسية والأمنية المتوترة بعد اغتيال اللواء السوري المقيم في لبنان سامي الحناوي صباحَ يوم أحد بيروتي من خريف عام 1950. وفي الوقت الذي كان يحدق بشغف بلودي وهي خارجة من مدرستها كان يتبادل هم الفلسطينيين الأرثوذكس الهاربين إلى لبنان بعد نكبة فلسطين مع المطران الأول، "تشغل تفكيره أشياء أكبر من المواد الغذائية والبطانيات وأماكن المبيت المؤقت. التجنيس هو ما يؤرقه حقًا. حبيب أكد له أن أحدًا لن يدّخرَ جهدًا في سبيل هذا الموضوع، لكن عليهم قبل ذلك انتظار قانون العودة، فيهود اليمن وحدهم ثمانية وأربعون ألفًا وهم بحاجة أن ينتقلوا إلى الأراضي المحتلة، كما أن العراق سمح لهم بهجرة مشروطة بنزع الجنسية.. تشوّشّت أفكار حبيب جراء نقاشه مع المطران إيليا صليبي بخصوص الفلسطينيين الأرثوذكس؛ هل من الأفضل صهرهم ضمن المجتمع اللبناني عبر تجنيسهم ومن ثم يختارون ملاذهم: البقاء في لبنان أو العودة أو الهجرة إلى أميركا أو إحدى دول أوروبا، أم إن أرض فلسطين للفلسطينيين وعليهم الجهاد من أجل حقهم والعودة إلى ديارهم المقدسة؟ وبالتالي فإن عدم تجنيسهم يؤدي إلى حثهم على الرجوع".

تحتوي لينة كريدية في روايتها شخصيات معذبة وحقائق وأحداثًا في تبادل مفتوح على سجلات هذه المدينة المرقعة بالألم، نحن أمام عدد من الروايات داخل رواية واحدة تتنقل بينها كريدية وتنقلنا من مكان لآخر بلغة واضحة وبسيطة إلى قلب المتلقي، لكن متسرعة أحيانًا، وهذا لم يؤثر على قدرة الروائية على إيصال البعد السيكولوجي لكل شخصية إلينا، ما يوقعنا في حب هذه الرواية، وفي حب بيروت مُجدّدًا.  


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.