}
عروض

سيرة ذاتية في رواية.. نيلي بلاي فتاة أميركية حرة

رشا عمران

20 يناير 2022



في كل صفحات ويكيبيديا العربية على الأقل، وأظن أن معظمها مترجم عن لغات أخرى، يتم الحديث عن الأميركية نيلي بلاي بوصفها أول صحافية استقصائية أميركية، وبوصف ما قامت به في هذا المجال كان فريدًا بالنسبة إلى أميركا والعالم، فهي امرأة صغيرة في السن ومع ذلك استطاعت أن تكتب في أهم الصحف الأميركية وقتها، تلك التي كانت محتكرة بأكملها من قبل الرجل، حتى كتابة العمود الصحافي. لم يكن في حكم الوارد أن تقتحم امرأة ما هذا المجال، أو ربما أي مجال عام، باستثناء الأعمال المختصة بالطبقات الفقيرة، حيث الاضطهاد يمارس ضد الجميع، ولكنه كان ضد المرأة أكثر عنصرية. نحكي عن نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت أميركا وقتها تتجه نحو التحول من دولة زراعية إلى دولة صناعية رائدة، مع كل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي عادة ما ترافق تحولًا جذريًا كهذا. وإذا ما تم النظر إلى ما فعلته نيلي بلاي في تحقيقاتها الصحافية، وفي سيرة حياتها كلها وقتها، فسوف يبدو ذلك على سبيل المعجزة لشدة استثنائيته وفرادته في ذلك الزمن. لكن لا يتم ذكرها بوصفها رائدة من رائدات النضال من أجل تحرر النساء ونيلهن حقوقًا مشروعة تساويهن بالرجل وتعطي لهن القيمة الاجتماعية والاقتصادية التي يستحقنها.

هي إليزابيث كوكران. هذا هو الاسم الذي ولدت فيه عام 1864 لعائلة كبيرة جدًا، تزوج والدها من والدتها بعد وفاة زوجته الأولى تاركة خلفها عشرة أبناء، وأنجب من زوجته الجديدة خمسة آخرين منهم إليزابيث، وحين مات وكانت اليزابيث لم تبلغ الثامنة من عمرها، تغيرت حياتها كليًا، إذ إن أملاك والدها قسمت بين أفراد العائلة الكبيرة، مما جعل حصتها لا تكفيها لتكمل تعليمها في مدرسة محترمة، كانت تلك أولى صدمات حياتها في كيفية ارتباط حياة الأنثى بالرجل. الصدمة الثانية والأعنف كانت حينما تزوجت والدتها بعد عدة سنوات من رجل آخر، كان يفترض أن يرعى شؤون العائلة، لكنه بدلًا من ذلك كان سكيرًا وعنيفًا ما حوّل حياتهم إلى جحيم، لكنه الجحيم الذي جعل إليزابيث تتخذ قرارًا جريئًا جدًا: رفض الزواج ومحاولة البحث عن طريقة تمكنها من الاعتماد على نفسها طيلة حياتها دون الاستعانة برجل، هذا القرار جعلها في نظر المجتمع أشبه بالمجنونة، ذلك أن الزواج في سن السادسة عشرة هو المسار الوحيد الذي يجب أن تسلكه نساء تلك المرحلة الزمنية، خروج إحداهن عن القاعدة سيعني النظر إليها كمجنونة، غير أن ما فعلته إليزابيث التي عوضت حرمانها من التعليم بالقراءة ومحاولات كتابة أفكارها وإصرارها على إيجاد طريقة تعيل بها نفسها، كان مثيرًا للانتباه في سنها الصغيرة تلك. هذا الإصرار هو ما جعلها تصل إلى ما وصلت إليه من شهرة ونجاح واختبارات مذهلة في الحياة، وهو ما جعلها أيضًا إحدى رائدات النسوية في العالم حتى لو لم تكن تتعمد هذا، وحتى لو لم تذكرها المراجع التاريخية المختصة بوصفها رائدة من رائدات النسوية وإحدى أهم المناضلات في حركة التحرر النسوي التي كانت أولى أهدافها مساواة المرأة بالرجل في العمل وفي الحقوق وفي الحياة.





"فتاة أميركية حرة"، كانت هي الصفة التي اعتمدتها لنفسها كي تذكر نفسها بما هي عليه دائمًا، أما نيلي بلاي فهو اسم اعتمدته في أول عملها الصحافي في مقال طالبت فيه بتغيير قوانين الطلاق كي تجنب عائلتها تنمر المجتمع، ليتحول بعدها إلى اسم أول صحافية استقصائية في تاريخ أميركا، وصاحبة التحقيق الصحافي الأشهر حول الانتهاكات المهولة التي تتعرض لها النساء في إحدى المصحات النفسية المشهورة. ولكتابة هذا التقرير تقمصت دور مريضة نفسية (مجنونة) ودخلت المصحة لمدة عشرة أيام وكشفت الواقع المزري فيها، ثم لاحقًا اتفقت مع جريدة "بوليتزر" على أن تقوم برحلة حول العالم في ثمانين يومًا وترسل للجريدة تقارير يومية عن مشاهداتها، كانت أول امرأة في التاريخ تفعل هذا، شابة أميركية وحيدة تسافر حول العالم متنقلة بأقل الحقائب والملابس الممكنة.

تزوجت إيزابيل كوكران في سن الثلاثين من رجل صناعي يكبرها بأربعين عامًا تقريبًا، وسرعان ما تحولت إلى مديرة لمصانعه التعدينية، وخلال إدارتها طبقت على عمالها وموظفيها كل النظريات التي تعرفها عن العدالة وحقوق العمال (ذكورًا ونساء)، وكانت أيضًا أول مديرة من نوعها في هذا المجال، رغم أنها تخلت عن حذرها في علاقتها بالرجال أخيرًا مما عرضها للإفلاس والمحاكم إلا أن ذلك لم يجعلها تفقد معدنها الطيب والمحب.

كتب عن نيلي بلاي الكثير من المقالات والكتب خلال القرن الماضي، وكانت سيرة حياتها ملهمة لعدد كبير من المهتمين بالتاريخ الأميركي النسوي، وكل ما كتب كان في إطار سيرة حياة متميزة، إلا أن ما فعله الصحافي الإيطالي نيكولا أتاديو كان مختلفًا، إذ حوّل سيرة نيلي بيلي الذاتية إلى عمل روائي فني بديع ومدهش، متقصيًا كل ما كتب عنها في كل مكان في العالم، وباحثًا عن أدق تفاصيل حياتها، وضمّه كله في كتاب روائي حمل عنوان "حيث تولد الريح" وصدر عن دار بومينياني عام 2018، واستطاع فيه المؤلف (حيث تولد الريح هو أول كتاب له)، أن يكتب حوارات ومونولوجات على لسان نيلي بلاي يكشف من خلالها معاناتها منذ طفولتها ورحيل والدها المبكر والظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي عاشتها ودفعتها لاتخاذ قرارت مصيرية وجذرية في سن مبكرة جدًا وغيرت حياتها إلى الأبد، وكل ذلك دون أن يدخل أسلوبه في التقريرية الصحافية، بل بدا أنه متحكم بأسلوب روائي متمرس وبلغة سلسة ومرنة وعميقة في الوقت نفسه.
وصدر الكتاب في ترجمة عربية عام 2021 عن منشورات "المتوسط" في إيطاليا بترجمة جميلة جدًا لأماني فوزي حبشي، وهو ما أظنه يشكل إضافة مهمة لكتب السيرة الذاتية المترجمة إلى اللغة العربية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.