}
عروض

"نيلة زرقا".. حكاية غير مُعدّة للبوح بها

 






الدولة البوليسية

العمل الروائي الجديد "نيلة زرقا"، الصادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر- إسطنبول 2022، للناقد السينمائي والروائي الفلسطيني فجر يعقوب، والذي يجيء بعد أربع روايات ["نقض وضوء الثعلب (2013)"، "شامة على رقبة الطائر (2016)"، "نوتة الظلام (2019)"، "ساعات الكسل/ يوميات اللجوء (2020، جائزة كتارا لعام 2021)"] مكوَّن من ستة عشر فصلًا، كل فصلٍ يُفتتح برأي لفيلسوف أو روائي أو مفكِّر عن الرعب والموت الذي ألحقه فيروس كورونا بالحياة. هي رواية يمارس فيها المؤلف طقوس الاعتراف السياسي بما جرى له وعليه من خلال شخصياتها التي لا يقلُّ خطر بعضها عن خطر كورونا، حين عُيِّن الدكتور أشرف الخازن، الناقد الأدبي صاحب المؤلفات العشرين، في منصب مدير عام لمصنع علب كرتون البيض، بأمر من (الأدميرال) بما لا يتطابق وشهاداته العلمية في الأدب والنقد، بينما حواس الرضابي، المثقف نجم الصالونات الأدبية التي أُغلقت وجرى حظرها، يُعاقب بالعمل حارسًا ليليًا في مصنع كرتون علب البيض ذاته، وها هو في مقصورته (الكولبة) يتذكر "هيفين" الصبية الكردية التي جاءت من شمال شرق الأرماضة، وتسَّببت بحرب بين مسؤولين اثنين في الحزب الذي ينتمي إليه، بيد أنها أغرمت به بسبب طريقته في التدخين، أو على الأصح بسبب جنونه في تحريك سجائره بين أصابعه أو في زاوية من زوايا فمه، وتركت المسؤولين الحزبيين يتقاتلان بضراوة على من سيفوز بها أولًا، وراحت تشتغل مضيفة طيران. هذا المثقف مثل غيره من أبناء بلده المُعاقبين والحالمين بالعيش بحرية وكرامة، كان رهن الاعتقال أو الإقامة الجبرية عشر سنين بسبب هفوة في اللحن الحزبي، كما أطلق عليها، في مصنع الكرتون الحكومي، ورفع فيه تقريرًا منْ أصبح مديره لاحقًا- أي تسبب في اعتقاله. 


كتابة ملَّوثة بالدم

فجر يعقوب يسخر من تفاهة التهمة الموجَّهة للرضابي كما يشير إلى مدى إحكام الدولة البوليسية قبضتها على حياة المواطنين. مع ذلك فحواس الرضابي يبقى يسخر ويعترض، ولكن في سرِّه وإن جهر بآرائه في تدويناته التي لا يسمح لأحد أن يقرأها حتى هيام ابنة "البطرونة" التي تحبه وكانت تزوره في الكولبة، والتي لم يكن أحد يعرف أنَّها ابنة هذه الشقية التي تشتغل مومسًا مع ابنتيها وكان "فريزر" ينام مطمئنًا على صدرها، وكذلك ابنتيه وزوجته عطاف. ليس خوفًا ولكن وهو العارف لم يخطط لرواية ما حدث في المصنع قبل أن يهجره الناس، ويصبح نظيفًا إلا من ذكريات الرعب، التي عاشها كثيرون بين جدرانه، فهي حكاية غير معَّدة للبوح بها، في مقابل سعيه الحثيث لهدفه الاستثنائي. لم يغب عن باله أبدًا أنَّ الذكريات التي تَّوجه إليها كانت بحاجة لكتابة ملَّوثة بالدم والقيح، وهو لم يكن مستعدًا لها، وسيصبح نزول المدير أشرف الخازن الذي عيِّن حديثًا للقبو عادة شبه يومية، ليبحث في دفاتر الحسابات الضخمة المتوفرة في الأرشيف عن أسباب كساد مبيعات المصنع، وخسارته ثناءات الحكومة في كل مرة تتم فيها مراجعة بياناته، عن طريق لجان البيع والشراء المتخصِّصة، التي كانت تتشكَّل وتنمو يوميًا بطرق مشبوهة واحدة تلو الأخرى  من خبراء، وموظفين دجَّالين، ومزوِّري أختام يعيشون معًا في مصنع الكرتون الحكومي رقم 5. فالدكتور المدير سيتفنَّن في قهر وتطويع العمال والموظفين وتحويلهم إلى دمى بما يتماشى ورغبة المعلم الأدميرال، الذي يبدو أنه قد كافأه بهذا المنصب لاختراعه وإطلاقه الجملة الشهيرة "إلى الأبد".

 


تحدّي الفناء والأبدية

يعقوب يكشف في "نيلة زرقا" التي تمَّ دهن نوافذ وأبواب المصنع بها، وركَّب الخازن مكبرات صوت يبث منها هدير أصوات الطائرات الحربية وقصفها للبلد بما يخيف العمال ويتركهم في حالة خوف وذعر- حالة حرب، يكشف عن خلط وخداع أشرف الخازن لمن يتعامل معهم مذ كان ضابطًا مجندًا وصراعه مع المساعد أول فريزر رئيس المطبخ- نسبة إلى الملاكم جو فريزر الملاكم الأميركي الذي لعب مع محمد علي كلاي، والذي كان  يشبهه- وهو يكتب التقارير بإخلاص واستبسال لسيده الأدميرال، وحتى بعد تسميته مديرًا عامًا لمصنع الكرتون، وصار يقرر مَنْ يقتل ومن يبقى حيًا، صار محكمةً الكلُّ أمامها مجرمون. إنها رواية تفتح ملفات الرعب الخارق لدولة بوليسية تارة واضحة، وطورًا، أطوارًا، غامضة مبهمة يحكمها مسؤولون يبدون مثل أطفال غاب بينما هم فراخ ذئاب. د. أشرف الخازن مثل ذئب يقاتل قتالًا شرسًا من أجل مجد وأبدية الأدميرال الذي يتعامل معه كإله بشري، ولكن دموي. فالمصنع الكرتوني يحوله الخازن إلى (مَخْبَر) لترويض النمور وتحويلها إلى قطط- عذرًا من زكريا تامر، مصنع لا أحد يعرف كم من الجرائم اللاإنسانية تُرتكب فيه، مع ذلك فالخازن كتبَ في مدونته: حَّواس الرضابي حالة متفرِّعة عن اليأس الإنساني، ومن واجبنا، كرعاة وقديسين في هذا الوقت العصيب، أن نخفِّف من حدة يأسه، لأن سكوتنا، بسبب من شدَّة عاطفتنا، قد يكلفنا الكثير في المستقبل، فهو على عداوة مع حواس الرضابي مذ كانا يخدمان الجندية معًا، وهو لن يفوت فكرة عبثية طارئة عَّنت على باله، فنهض عن كرسيه، وقرر أن يزور الرضابي في "الكولبة"، ليرفِّه عنه قليلًا، ويعرض عليه صفقة قد تعفيه من التخلص منه في المصنع، وتتم العملية في مكان آخر.

كان الرضابي الذي صار يشعر في الآونة الأخيرة بوخز حاد في ضميره، وأيقظ بداخله نداءات ميتة، من صور كثيرة، عبرت في ذهنه بسرعة عشرين ألف صورة في الدقيقة الواحدة، وصار يمكن تخيل نوع الضغط الذي يعيشه دماغ هذا الرجل المتيقظ، وإمكانية انفجاره، وتشظيه في أي لحظة من لحظات الخبل، الذي يمارسه المدير العام في مصنع الكرتون الحكومي، وهو كان على ثقة، أن هذا الضغط المتولِّد عن آفة الكذب التي لا تنضب، وهذه الأصوات التي تحيط بالمصنع سوف تخلق مع الوقت أناسًا دون ضمير، يشبهونه في كل شيء. وكان يعي أن تخليص هذه الفئران من شعورها بأنها تمتلك ذراتٍ بسيطة من ضمير هارب، سوف يغيِّر من طبيعتها، وقد تتحول مع الوقت إلى فئران مفترسة.

تحويل الناس وتغيير طبيعتهم الإنسانية من فرسان إلى مفترسين، هذا ما تعمل عليه إدارة الأدميرال بمساعي مثل هؤلاء المسؤولين الفاسدين، وتصييرهم قطعان غنم وأسراب غربان.

رواية "نيلة زرقا" هي فحص ضميرٍ لمرحلة، وكاتبها فجر يعقوب يحترس بالفكر النقدي، وهو يضحي بتلك الشخصيات؛ الشخصية المركزية حواس الرضابي، شخصية موتها كان اغتيالًا خطط له أشرف الخازن، لكنه موتٌ فيه تحدٍّ للفناء والأبدية في عصر الدولة الأمنية وكرتونها المقدَّس.

يسرد يعقوب حكايات عن مصائر بَشرٍ تتداخل وتتجاور، لا تتباعد، وقد مزَّق عنها أثواب حيائها التي تستر فيها عريها السياسي والأخلاقي، في دولة افتراضية، دولة تقهر ناسها.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.