}
عروض

"أسامينا".. العنوسة قضية إنسانية

عمر شبانة

25 مايو 2022




تعيش "بطلة" رواية "أسامينا"، للكاتبة العُمانيّة هدى حمد (دار الآداب- بيروت)، أقسى مشاعر الوحدة والقهر والاغتراب عن عالمها، طوال أربعين سنة هي عُمرها الذي بلغته حتى غدت "عانسًا"، في ظلّ علاقة متوتّرة مع الأمّ التي أنجبتها، مع شقيق توأم لها، وراحت تمارس ضدّها التمييز لصالح "الولد"، بدعوى أنّها السبب في هُزال شقيقها، فتحرمها من رضاعة ثديها، ومن أحضانها، بل تنظر إليها نظرات أقرب إلى الحقد، فينمو حقد متبادل بين الأمّ وابنتها، ما يقود "البنت" إلى محاولات انتحار بتناول كميات من الأدوية حينًا، وبإلقاء نفسها في البئر القديمة حينًا آخر.

ومنذ سنّ الرّابعة، تحمل الطفلة "البنت"، عذابات سوف تشتدّ، ومعاناة تتصاعد مع سؤال ما إذا كانت أمّها تتّهمها بموت شقيقها التّوأم، أثناء لعبها معه في حوض المياه التي تتدفّق من البئر، ومع هذه المعاناة ستحمل الحقد تجاه والدتها أوّلًا، وتجاه العالم من حولها، وكلّ ما يحيط بها، ومَن يجاورها. فحكايتها/ مأساتُها تبدأ، إذًا، بولادتها شقيقةً لذكَر هزيل البنية، بينما هي قويّة، وتمتدّ الحكاية وفصولها "السريّة" عبر تلك المقارنة بين "البنت" و"الولد"، في عمليّة تمييز لصالحه، ما يؤجّج لدى الطفلة، ثم العانس، مشاعر خاصة، غير طبيعيّة، تجاه والدتها والعالم.

شخوص الرواية، بمن فيهم "البطلة"، بلا أسماء، فالأسماء قاتلة، و"الموت يعرف الناس بأسمائهم"؛ الصّفات وحدها تكفي. فالأسماء- بحسب معتقدات شعبية/ خرافيّة شائعة- تجلب الموت كما تخبرنا إحدى الشخصيّات الرئيسة في الرواية. ومن يحمل اسمًا سيموت. ومن يريد أبواه له العيش فلن يمنحاه اسمًا، سيبقى يحمل صفة معيّنة، الولد أو البنت، العمّة صاحبة الفصّ في العين، والجارة صاحبة القطط، والخالة صاحبة كذا، وسوى ذلك لا شيء.

هذا طبعًا باستثناء الأمّ التي حملت اسمَ "سُعاد" بسبب غيرتها من سعاد حسني التي كان الزّوج يعشقها ويتابعها في أفلامها. وعدا ذلك، فالجميع يعيشون بلا أسماء، وعندما يموت الشخص، فسوف يضطرّ أهله لمنحه اسمًا، حتى يُنادَى به يوم القيامة، وهو غالبًا عبد الله، لأنّ الجميع عبيد الله. هل هذا يمكّننا من فهم تسمية الرواية "أسامينا"؟ إنه محور من محاور رواية الكاتبة العُمانيّة المعروفة هدى حمد (ولدت عام 1981، ولها عدد من الروايات والمجاميع القصصية).

الرواية تنتمي إلى نمط الروايات "القصيرة" (نوفيلّلا)، وأقول قصيرة لا لجهة عدد صفحاتها المائة وست وثلاثين صفحة فقط، بل لجهة دورانها حول شخصيّة البطلة وحدها، ومشاعرها وأحاسيسها أساسًا، بقليل من الحوادث والوقائع والتحوّلات، لكن المحور الأساس هو هواجس "البطلة"، وهي "العانس" الأربعينيّة، حول مشاعر وتفكير والدتها تجاهها، منذ مقتل شقيقها التّوأم، الذي ظلت تحمل تجاهه، وتجاه والدتها أساسًا، الهواجس والأحاسيس والأسئلة حتى سنّ الأربعين، وتظلّ تشعر أنّ أمّها تكرهها، وتتّهمها بأنها هي من قتلت شقيقها.

تتّخذ الكاتبة من ذلك كلّه محاور تدور حولها مشاعر وأحاسيس "بطلة" الرواية، حيث تظلّ تعيش إحساسَ كون والدتها تشيح بوجهها عنها، رغم أنّهما تعيشان وحيدتين، فإنّها (العانس) تعيش ظروفًا شديدة القسوة، تجاه والدتها، وكذلك تجاه فقدان والدها وشقيقتين لها في حادث تحطُّم سيّارة الوالد خلال اصطدامها بشاحنة ضخمة. ولكن مشاعر هذه "البطلة/ العانس" تتخطّى الظروف العائليّة، وتصنع لنفسها حياة خاصّة بها، حياة تحتشد فيها الأوهام وتختلط بالحقائق/ الوقائع، في أجواءَ شديدة السّوداوية والقتامة القائمة على التخييل والإيهام، لتصنع أجواء روائية يغلب عليها الحلم والتأمّلات والجنون.





مَن قتل الطفل؟

ففي جحيم من الهلوسات والهذيانات والتخيّلات والكوابيس تعيش الآنسة العانس، محترقة بسؤال: هل أنا من قتلتُ شقيقي التّوأم كما تدّعي أمّي؟ كانا طفلين في الرابعة من العمر حين أخذتهما الأمّ إلى حوض الماء المتدفّق من بئر القرية، وتركتهما يلهوان بالماء، فيما هي تحوك "الكمّة" (الطاقية المزخرفة التي يرتديها الرجل العُمانيّ على رأسه) لزوجها "الذي تعبده"، والذي سيعود قريبًا من رحلته، وكان "الولد" ضعيف البنية فانزلقت قدماه بالفطريات، وابتلعته المياه (تصوير مذهل لحالة الغرق).  

رغم كلّ شيء، تستمرّ "العانس" في رعاية والدتها، المكتئبة والعاجزة، تهتمّ بتفاصيل يوميّاتها كلّها، الأمّ الذئبة التي تقضم يد ابنتها.. في الوقت الذي لا تنسى أن تصنع لنفسها حياة خاصة. فهي تتلقّى دورات في تعليم الرقص، وتعمل في نادٍ خاصّ بـ"الإيروبيك"، لكنّها تبدو شديدة الهشاشة أمام بعض التلميذات معها، فتضع حاجزًا بينها وبينهنّ لا يقلّ عن متر تقول عنه وعن الفتيات إنّهنّ "لا يعرفن شيئًا بشأن هذا المتر الذي ينهضُ بيننا، المتر الذي يُوفِّر لي حالة الأمان والقدرة على الاستمرار معهنّ". وتصفهنّ بـ"النساء/ الثيران". وأنهنّ جئن ليتعلّمن الرقص لأجل أزواجهنّ ومتعتهم لا متعتهنّ، مقتنعات بالنصيحة اللزجة "مَن تُرِدْ تعليق زوجها للأبد فلترقص له". وهي تردّد "الموسيقا تسمح لي بالبقاء طوال الوقت داخل كبسولتي".. أو "لا أتصوّر نفسي متزوّجة. المتزوّجات هنّ الأكثر تعاسة".


الرجل المتخيّل

ومن أجواء "حياتها" الخاصّة، تصطنع مناخات في شرفتها، تتواصل من خلالها، ومن طرف واحد، مع مَن تسمّيه "الرجل صاحب الشَّعر الأحمر"، وتراقبه بخيالها في شرفة في البناية المقابلة، وتشعر أنّ "حاجتها إليه مثل حاجة أمّها لها.."، وتُبدي اهتمامًا بتفاصيل شقّته وأزهاره في الأصيص، ومَن يزوره من رجال ونساء.. وتودّ لو تكون هي في شقته معه ومع أصدقائه لتقول له "الماضي الذي يعود على هذه الهيئة المحسوسة، ولذا لا بدّ أن يكون هو الحاضر عينه.. أرغب بشدّة في التحدّث إليك".

وبسبب العلاقة الملتبسة والمنطفئة مع أمّها.. وكأنّها تذكّرها بعار قديم، فهي ترتبط، من بُعد، بالرجل صاحب الشَّعر الأحمر، فحين ترى، في خيالها، الكثير من الناس معه، تراه يقوم بالتصوير، وتعتقد أنه يقوم بتصوير فيلم، ثمّ تراه، في لحظة، يقترب منها، ويكاد يلمس خدّها، وتراقب أصابعه لترى إن كان يلبس خاتمًا؟ وتشكو إلى نفسها لماذا "لم يرغب بي أحد يومًا ما.. إلا في خيالي وحسب؟".

وتتابع وهي تشاهد رجل الشَّعر الأحمر ينظر إليها وتحلم أن تكون "مرغوبة من رجل حقيقي"، وتخاطبه "أرغب بشدّة أن أصدّق أني مرغوبة من قبلك"! لكنّها تستنكف لأنها لن تذهب إليه "لا أرغب لهذه المطاردة السرية أن تنتهي". وحين تقرّر زيارته، وتطرق الباب الذي تعتقد أنّه باب شقّته، تفتح لها البابَ امرأة تبدو متوحّشة، فتدخل هي لتبحث عنه في الشرفة، فلا تجد شيئًا ممّا كانت "تتخيّله".

وفي جانب آخر من وِحدتها، تجلب إليها في سريرها، شقيقها التّوأم المتوفّى وأصدقاء له، يلهون معها ويجلبون لها الفرح وهم يُثنون على جمالها، ويدعونها "المرغوبة"، تعويضًا عمّا تفتقده من عوالم الرجال والعلاقات الحميمة التي لا تعرف عنها شيئًا. بل إنها، في واحدة من أقسى حالات وحدتها الشرسة، تستحضر طفلين توأمين مولودَين حديثًا ليقيما معها في سريرها البارد، وتراهما يرضعان ثدييها، وحليبها يتدفق إليهما معًا، قبل اختناق أحدهما بالحليب.

إنّها رواية لشخصيةٍ مأزومة ومهزومة، شخصية تحتشد بالقلق والخيالات والأوهام والتساؤلات، بقدر ما تحمل من عذابات "عانس"، يمكن اعتبارها عذابات فردية، وقضية امرأة وحسب في مجتمع لا يتفهّم هذه الفئة من النساء، فهي تحاول البحث عن "خلاص" في المساحة التي صنعتها لتتحرّك فيها. لكنها في الحقيقة والعمق قضية اجتماعية وإنسانيّة في خلاصتها، فالحرمان من حليب الأمّ وحنانها، وفوق ذلك الاضطهاد على يد هذه الأمّ، هما تعبير عن مأساة تصنع التشوّهات التي ظلّت تعاني منها هذه الإنسانة، طفلةً وشابّة وامرأة في الأربعين من عمرها. ولا شيء يمكن أن يعوّضها عن "الفردوس المفقود"، مهما ابتكرت من وسائل التعويض البديلة، ومهما بلغت بها أحلامها، من أجل قُبلة من رجل/ إنسان حقيقيّ.

   

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.