}
عروض

"دراسات في أدب الزبيري".. في عوالم شاعر نرجسي

صدام الزيدي

1 يونيو 2022






يقدم الناقد والأكاديمي اليمني، عبد الحميد الحسامي، في كتاب صدر حديثًا عن دار النشر "عناوين بوكس" في القاهرة، دراسات في أدب الزبيري (الشاعر اليمني المعروف- أحد رموز ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962 اليمنية).

حمل الكتاب عنوان "المرايا والرؤى/ دراسات في أدب الزبيري" متوزعًا على 198 صفحة، يستهلها الناقد الحسامي بمقدمة يشير فيها إلى أن الكتاب يتضمن 3 دراسات؛ تتجه الأولى نحو دراسة النرجسية في شعر الزبيري، بينما تسعى الثانية إلى تناول التنوير في أدبه شعرًا ونثرًا، أما الثالثة فتحاول الكشف عن ملامح أثر شعر إقبال في شعر الزبيري.

ويلفت الناقد أن تسميته للدراسات بـ(المرايا والرؤى) لأنها تمثل صورة الشاعر في مرايا الذات: في إشارة إلى بحث النرجسية الذي جلى صورة الشاعر الزبيري في مرايا ذاته، كما أن هذه الدراسات تبلور رؤاه الشعرية والحياتية.

ويعلل الناقد اهتمامه بدراسة أدب الزبيري (الذي يعد من أبرز الشخصيات اليمنية التي استقطبت كتابات الدارسين سياسيًا وإبداعيًا) منطلقًا من ملاحظة أن كثيرًا من الدراسات التي تناولت شعر الزبيري انطلقت من خارج النص؛ أي أنها قد وقعت تحت تأثير مكانته الوطنية والنضالية والروحية؛ فنأت بنفسها عن استغوار النص.

حاولت الدراسة الاقتراب من العالم الداخلي لشخصية محمد محمود الزبيري، إسهامًا في قراءة جانب من جوانب تجربته الشعرية؛ لتكتمل الصورة عن شاعر له مكانته، بعيدًا عن الانفعال المستعجل الذي يستند إلى قناعات مسبقة، وبعيدًا أيضًا عن تتبع الملامح الوطنية، والنضالية، والثورية، كما فعلت دراسات سابقة لنقاد يمنيين وعرب كانت مقيدةً بشروط البعد السياسي. وتعزيزًا للنقد المنهجي الذي يتوسل بمعطيات مناهج النقد الحديثة ويستثمر معطياتها في كشف العلاقة بين النص الشعري ومنتِج النص من خلال استخدام بعض آليات المنهج النفسي؛ لاستكشاف ما ينطوي عليه النص من قيم جمالية، ومؤشرات نفسية، فقد بحثت الدراسة في أسباب بروز النرجسية في شعر الزبيري، وتجلياتها، محاولةً استقراء ملامح ذاتية المبدع التي تنطوي عليها النصوص، بوصف الإبداع بوحًا ذاتيًا للذات المبدعة، تنعكس فيه نفسيته وأعماقه الباطنة وأطوار حياته، لأن الشعر سجل أمين ووثيقة تاريخية تقدم تفاصيل الحركة النفسية للذات الشاعرة في علاقتها مع الموضوع الحياتي مدًا وجزرًا.





ظاهرة لافتة

ومن هنا، اتجه البحث إلى كشف الأنا أو ما يسمى بـ(النرجسية)، نظرًا لتكثف هذه الظاهرة في شعر الزبيري بشكل لافت، إذ تعد من أبرز الظواهر التي يلامسها القارئ من خلال قراءة النصوص، فضلًا عن إفصاح الشاعر نفسه عنها في شعره ونثره، وهو الذي افتتح ديوانه بالقول: "كنت مفتونًا بشعري إلى أبعد حدود الفتنة"، وهي مقولة اتخذ منها الناقد الحسامي مفتاحًا للولوج إلى العالم الشعري للزبيري؛ بغية تعيين وتشخيص أسباب تلك الفتنة وتجلياتها.

أما جنوح عنوان الدراسة لاختيار النرجسية مرتكزًا أساسيًا، فيرجعه الناقد إلى ما يشير إليه بـ: "استقرار المصطلح في حقل البحث النفسي والنقدي إلى حدٍ ما"، على أن الدراسة حدَّدَت عيِّنَتها بشعر الزبيري المدون في دواوينه: (ثورة الشعر؛ صلاة في الجحيم؛ نقطة في الظلام)، إضافة إلى قصائده المعنونة بـ(الوثنيات) التي أوردها -لأول مرة- الباحث اليمني رياض القرشي في كتاب نقدي له تناول  شعر الزبيري.

وينوه الحسامي أن اقتصار الدراسة على الشعر (أي شعر الزبيري) واتخاذه ميدانًا للاشتغال البحثي، لأن ذلك يحمل دلالة توجه البحث لاستنباط القيم المتعلقة بالظاهرة من الشعر فقط؛ بوصفه دالًا وثيق الارتباط بمنبع الشاعرية، منطويًا على العوالم الداخلية للمبدع؛ إذ إن الشعر صلةً كبرى بيننا وبين الشاعر، ومع ذلك فإن الدراسة استأنست أيضًا بالنص النثري لتمكينها من الاستضاءة عند الاقتضاء.

أما أسباب نشوء وتشكل "ظاهرة النرجسية" لدى الزبيري، فيجد الباحث أنها تتجسد في أربعة أسباب هي: التكوين الصوفي لدى الشاعر؛ الإحباط؛ الدور الوطني والسياسي؛ عبقرية الإبداع. وفي كشفه عن تجليات تلك الظاهرة، يجد أنها تمثلت في: تضخيم الآخر/ تضخيم الأنا؛ تصغير الآخر/ تضخيم الأنا؛ تقمص النبوة؛ حضور ضمير الأنا؛ أسطرة الشعر.

وينوه الناقد أيضًا أن دراسته تعد إضافة جديدة للدراسات التي تناولت شعر الزبيري، بل تقدم جديدًا في مضمار الدراسات النقدية التي استخدمت المنهج النفسي في دراسة الأدب اليمني، عمومًا. ويلفت الانتباه أيضًا إلى أن توقفه في دراسة مطولة تبحث في ظاهرة النرجسية لدى الشاعر الزبيري، ينطلق في سياق مهمة بحثية جديدة أكثر توغلًا وكشفًا، تختلف عن عديد الدراسات التي أنجزت حول الزبيري شاعرًا ومناضلًا. ففي حين أن عدد من الدراسات نأت بنفسها عن استغوار النص واكتفت بالانفعال المستعجل المستند إلى قناعات مسبقة، فضلًا عن الانشغال بتتبع الملامح الوطنية والثورية في شعر الزبيري، مما جعلها تدلف إلى فضاء النص مقيدة بشروط البعد السياسي.. وربما أن دراسة الناقد اليمني رياض القرشي "شعر الزبيري بين النقد وأوهام التكريم" وأخرى لمواطنه الشاعر والناقد عبد الله البردوني "من أول قصيدة إلى آخر طلقة"، وكذلك دراستي الناقد العراقي علي حداد، في كتابه "عشبة آزال" (تماثل التجربة الإنسانية بين المتنبي والزبيري)، و(استدعاء تجربة المتنبي الشعرية عند الزبيري) من أهم الدراسات التي تناولت الزبيري، إذ حاولت نبش كثير من القضايا بحرية في البحث وجرأة في التناول.

وفيما أوضح الحسامي أن مقولة الزبيري التي يتحدث فيها عن افتتانه بشعره، وتكثف ظاهرة النرجسية في شعره بشكل لافت، كل هذا جعله يقف أمام (نرسيس) آخر مفتون بذاته/ بإبداعه، يشير في السياق نفسه، إلى أن كثيرًا من الدارسين توقفوا أمام هذه الظاهرة لدى الزبيري، فلامسوها ملامسة خفيفة، وبالتالي أطلقوا عليها جملة من الاصطلاحات، ومن أولئك الدارسين: عبد الله سلام ناجي، الذي سمّاها "تضخم الذات" أو "الأنا" وعزاها إلى "الرؤية الحالمة المعجبة بذاتها.."، وثابت بداري في دراسته عن أثر السياسة في شعر الزبيري، وقد سمّى تلك الظاهرة "الاعتزاز بالذات" بل "فرط الاعتداد بالذات"، وثمة رياض القِرشي، الذي كانت وقفته أطول من غيره، إذ أطلق عليها الأوصاف الآتية: "المبالغة؛ الاعتداد بالذات؛ الفخر؛ الزهو"، وثمة أيضًا، علي حداد، إذ سمّاها "الانشداد إلى الذات"؛ "فاعلية الذات العالية"؛ "النزعة الفردية"؛ "الإحساس بالتفرد"؛ "الافتخار"، وكاد يطلق عليها مصطلح "النرجسية" في معرض مقارنته بين الزبيري والمتنبي، إذ وصم المتنبي بالنرجسية.

وتستعرض الدراسة وفرة من الشواهد التي تعزز انعكاس إحساس الشاعر بعبقرية الإبداع، على المساحة النصية في قصائده، ما يعد تصريحًا منه بنرجسيته، كقوله: (لقد جئت بالشعر الذي أنا شاعره/ وأوله في العالمين وآخره). وقوله أيضًا: (أنا صوتها العالي فلو ضيعتني ضيعتها). وقوله: (كنت أعجوبة دهري في غدوي ورواحي). وفي الدائرة الكونية، نجد أن الشعر في نظر الزبيري محكمة وقاض لمحاكمة طغاة الأرض قاطبةً، حيث يقول: (عندي لشر طغاة الأرض محكمة/ شعري بها شر قاض في تقاضيه).





التأثر بإقبال

في سياق تتبعها لأثر شعر محمد إقبال في شعر الزبيري، تستنتج الدراسة أن لجوء الشاعر محمد محمود الزبيري إلى الباكستان، شكل انعطافًا مهمًا في مسيرته، حيث هيأت له يومياته هناك، تخصيب ثقافته بمخصبات جديدة، وتمثُّل العطاء الفكري والفني في الواقع الجديد، ومن ذلك الاطلاع على نتاج محمد إقبال، الذي يمثل نظيرًا تشابه معه الزبيري في كثير من السمات، إذ استحوذت العبقرية الابداعية للشاعر إقبال، على كثير من المبدعين ومنهم الزبيري، الذي وقع تحت السطوة الإبداعية فقام بترجمة عدد من قصائد إقبال من الأردية إلى العربية، وتلك الترجمة كانت نافذة تمكن الزبيري من خلالها من السياحة في عالم إقبال متأثرًا برؤاه.

وقد تجلى تأثير شعر إقبال في شعر الزبيري من خلال جانبين: الرؤية، والبناء الفني. ففي زاوية "الرؤية"، تجسد هذا التأثر من خلال عدد من العناصر، أهمها "رؤية الإنسان": إذ عكست قصائد الزبيري ومقطوعاته في المرحلة الباكستانية طبيعة الرؤية الإقبالية للإنسان، ومن ذلك مواصفاته لـ(الإنسان الإلهي)، أو (الفتى الإلهي)، كما تجسد أيضًا في رؤيته العالمية رسالة الإسلام، ونقده للحضارة الغربية، مقابل اعتزازه بالحضارة الإسلامية. وكان ذلك عاملًا مهمًا في تحول الصبغة الموضوعية لشعر الزبيري نحو الأفق الإسلامي، وكذلك نظرته للكفاح وضرورته لتحقيق الحياة الكريمة.

أما التأثير في الرؤية الفنية، فقد انعكس في تحول رؤية الزبيري للإبداع، وبالتالي تجسيده لرؤية إقبال في هذا الصدد، وانبثاقه عنها، فاتجهت الحساسية الشعرية إلى الطبيعة والمرأة والأعماق الداخلية للذات. وثمة التأثير المباشر في البنية الشعرية، التي كانت ترجمة تلقائية للتأثر في الرؤية، وقد تمظهر ذلك في البناء الهيكلي للنص، الذي أخذ ينزع نحو الاقتصاد والاكتفاء بالمقطوعة، واستبدال المقطوعة بالقصيدة التي هيمنت على نتاجه في المراحل السابقة.

ووجدت الدراسة أن نصوص الزبيري لم تكن بعيدة عن التأثر بطريقة إقبال في بناء الصورة من حيث المنزع الفلسفي، وتوظيف المعادل الموضوعي، واستدعاء الرمز التاريخي. وثمة تحول في بنية النظام الإيقاعي الذي أخذ يتجه نحو تعدد القوافي بدلًا من وحدتها، كما أن التأثر بإقبال قد تسلل إلى بناء المعجم اللغوي لدى الزبيري، وكان معجم الروح دالًا معجميًا يعزز مدى هذا التأثر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.