}
عروض

"ملك اللصوص".. أوّل ثورة لتحرير العبيد ومملكة سوريّة بصقلية

عمر شبانة

9 يونيو 2022

 

 

يواصل الكاتب، الباحث والروائيّ الفلسطيني/ السّوري تيسير خلف، الحفر في جغرافيا وتاريخ الأديان والفلسفة السوريّة القديمة، ما قبل الإسلام، كاشفًا في روايته الجديدة "ملك اللصوص" (منشورات المتوسّط، 2022) عن المزيد من مجاهل هذا العالم، من آلهة وربّات وملوك وفلاسفة صنعوا تاريخًا في سورية وخارجها، كما هي الحال بخصوص الكاهن أونوس الذي ولد في أفاميا، في المملكة السورية، سنة 155، حيث وُلد الفيلسوف والفَلَكِيُّ والمؤرِّخ السوري الشهير بُوسِيْدُونِيُوس. وكان أونوس، واسمه يعني العون والمساعدة، كاهنًا عاصيًا كما قيل، لكن حياته شهدت أطوارًا وتحولات عظيمة، أهمّها أنّه قاد ثورة العبيد السوريّين ضد روما، وأصبح في آخر الأمر ملكًا على جزيرة صقلية، ما جعل الرومان يسمّونه للسخرية "إيونوس" (أي الشخص المسلّي).

كان تيسير خلف قد أصدر قبل سنوات رواية "مذبحة الفلاسفة" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2016، وصلت القائمة الطويلة لجائزة البوكر)، وهي رواية تاريخية تستعيد السنوات الأخيرة من حياة مدينة تدمر التي أصبحت في عصر ملكها أذينة عاصمة إمبراطورية المشرق. وتتحدث الرواية بلسان كاهن تَدمر الأكبر في عهد الملكة زنوبيا، وتضيء على جوانب غامضة من تاريخ تلك المدينة التي تحولت في عهد ملكتها زنوبيا إلى مشروع مدينة فاضلة لم تأذن الظروف لها أن تكتمل، إذ هاجمت قوات الإمبراطور الروماني أورليانوس بمساعدة قوات بعض القبائل العربية جيوش زنوبيا وأنهت حكمها في عام 275 م، واقتيدت الملكة ومجلس حكمائها (الفلاسفة) مخفورين إلى حمص حيث نُصبت محكمة هناك حكمت على الفلاسفة بالإعدام، وبالإقامة الجبرية على زنّوبيا في قصر تيبور قرب روما. 

محطّات وتفاصيل غرائبيّة

يحفر المؤلّف، إذًا، في جغرافيا وتاريخ الحضارة السّورية بمعالمها الدينية والفلسفية، بآلهتها ومعابدها وفلاسفتها ومؤرّخيها، وفي الرواية الجديدة "ملك اللصوص: لفائف إيونوس السوري". ويبدأ بالكشف عن شخصيّة أونوس، منذ ولادته طفلًا غريب الأطوار، فعند خروجه من رحم أمّه مارثا الساقية، ضغط على خنصر خيثا المولّدة. يتحوّل مغتربًا حيث سلّمته أمّه إلى صديقة لها (الأمّ شمشي) ليتربّى مع أبنائها، ثم يغدو منذورًا لمعبد الربّة أتْرَعْتا- شقيقة الإله حدد وزوجته. وحين يجري عرضه بين يدي كاهن معبد الربّة، يطلب إرساله إلى منبج لينشأ في حمى الربّة، فيتوجّه إلى منبج، ثمّ تبدأ التقلّبات تصبغ حياته، بدءًا من تحرّش رئيس الكهنة به، وعدم استجابته للمداعبات الجنسيّة، ثم لقب الكاهن العاصي الذي سيحمله لاحقًا، مرورًا بمرحلة بيعه للنخّاسين والعبوديّة التي يعيشها، وصولًا إلى قيادته لثورة العبيد، حتى يغدو ملكًا يحقق انتصارات على جيوش روما، ثم يتعرّض للهزيمة والسجن، وعودته إلى مدينته أفاميا.. وما تنطوي عليه حياته ومحطّاتها من تفاصيل غنيّة بمواقف غريبة.

وابتداءً يريد الروائيّ، عبر الكشف عن هويّة "بطله"، كشف زيف "رواية" روما وقادتها حول هذه الشخصية الاستثنائية في تاريخ سورية، فهو كما يخبرنا الرّاوي، الذي هو "البطل"، الحكيم صاحب اللفائف التي أعاد صياغتها الفيلسوف والفَلَكِيُّ والمؤرِّخ السوري الشهير بُوسِيْدُونِيُوس، والتي تحتوي على محطّات رحلته منذ طفولته حتى عودته مهزومًا من صقلية. فقبل أن يموت، سلّم للفيلسوف "سلَّة من لفائف البَرْدِيّ، لم يعرف أحد ماذا كُتب فيها، ولكنَّ بعض العارفين بخفايا الأمور يقولون إن تلك اللفائف هي أصل حكاية إيُوْنُوْسْ الأفاميّ، ملك اللصوص، الذي أقام مملكة مقدَّسة للعبيد السُّورِيِّيْن في جزيرة صِقِلِّيَة، وهي حكاية شهيرة كان بُوسِيْدُونِيُوس أوَّل مَنْ صاغها بأسلوبه البليغ، وعنه أخذها الجميع".

في أثناء جولاته قرب نهر أُوْرُوْنْتِسْ (العاصي)، حيث يمضي جُلَّ وقته قرب شجرة دَرْدَار مُعمَّرة، يشاهد راعية ماعز شديدة الجمال، وسوف يلتقيها ثانية حين يكونان في مرحلة العبودية، ومرة ثالثة ودائمة حين يحرّر العبيد ويصبح ملكًا، ويتّخذها زوجة- ملكة، وهي من ستساعده في الكثير من المواقف الحرجة، وتوجّهه نحو الصّواب، فضلًا عن التوجيه الدائم من الربّة أتْرَعْتا، ومساندة من رفاق له أسهموا في قيادة عملية التحرّر والقضاء على النخّاسين والأثرياء المستغِلّين والمتاجرين بالفقراء.

 



روما وتجارة العبيد

مسألة ثانية يكشف عنها مؤلّف هذه الرواية، هي مدى انعدام القيم الإنسانية لدى أثرياء روما، وغياب الأخلاق عن قوانين روما نفسها، وكذلك النظرة إلى العلاقة بين الرجل والمرأة. ونعرض هنا لبعض أهمّ هذه التفاصيل، فمن جهة هذه العلاقة الأخيرة، يرسم المؤلّف مشهد احتفال الملك والملكة ورفاقهم بما تحّق من "تحرّر"، فيظهر الملك محتضنًا الملكة ويقبّلها أمام الحشود في صورة استعراضيّة، فيعلّق الرّاوي هنا بأنّ مثل هذا المشهد لا يحدث في روما التي لا يحترم الرجلُ فيها المرأة، ما يعني تخلّفًا في النظر إلى هذه العلاقة الإنسانيّة السّامية.

ومن جهة القيم الإنسانية عمومًا، وقيمة "العبد" بوصفه إنسانًا خصوصًا، يذهب المؤلّف عميقًا في تصوير الأثرياء في أشد الصور قسوة مع عبيدهم، قسوة "مجّانيّة" في كلّ حال، حيث يستمرئون إهانة العبد وإلحاق أشد أشكال الأذى به، ولو على سبيل إرضاء غريزة التحكّم وشهوة الإذلال، خصوصًا حين يلتقي هؤلاء القُساة في سهراتهم، ويمارس صاحب الدعوة تلك الغريزة الدنيئة أمام أصدقائه. فـ"السيّد" هنا هو "مالك" للعبد، بكلّ معنى الملكيّة لأيّ "شيء" يشتريه، والأمر كلّه له ما دام دفع ثمن هذا العبد/ العبدة، ومن حقّه الاستمتاع بملكيّته، وهذا بحسب قانون روما، وليس خارجًا على قانونها في الملكيّة.

لذا، فعندما نجحت ثورة العبيد بقيادة إيوس ورفاقه، وأقيمت محاكمات علنية لـ"الأسياد"، وكانت التهم الموجّهة لهم مدى قسوتهم في تعذيب عبيدهم، حتى الموت أحيانًا، كانت دفاعات هؤلاء الأسياد بأنّهم يتصرّفون ضمن القانون، وليسوا خارج القانون، فكان الردّ من "الثوّار" وضع قانون الربّة والسماء لمنع العبودية نهائيًّا، ولكنّهم ارتكبوا أخطاء في المحاكمات إذ كانت سريعة، بل متسرّعة، وكذلك كان قتل "الأسياد" المجرمين يتمّ في ساحة المحاكمة مباشرة، والبعض منهم تمّ قتله وقطع رأسه على نحو متسرّع وانفعاليّ أيضًا، ما أثار حفيظة بعض "الرفاق المحرَّرين" و"المحرِّرين"، وانشقاقهم عن "الثورة" و"الثوّار".. بذريعة أنّ "الثّائر" من أجل الحريّة ينبغي له الالتزام بالأخلاق وبقانون واضح.

هذه تفاصيل أساسيّة توغل الرواية في معالجتها، حيث يتّضح موقف المؤلّف الأخلاقي من كلّ ما جرى ويجري بعد عمليّة التحرير للعبيد، وربّما كان المؤلّف يحاكم وقائع تجري في زمننا الرّاهن من خلال تلك المحاكمات التاريخيّة، الأمر الذي يمكن فهمه من وقائع كثيرة، خصوصًا ما يتعلّق بموقف الملك المتردّد بين المطالبين بالمحاكمات "العادلة" لكلّ من ارتكب جريمة ضد مواطنين لم يشاركوا في الاضطهاد والاستعباد، وبين من ظلّوا ينادون بتأجيل مثل هذه المحاكمات إلى ما بعد استكمال "التحرير" وبناء الدولة الجديدة وحمايتها من "أعداء الثورة".

ومع كلّ ما قام به الملك والمقرّبون منه من محاولات تبرير الأخطاء، يبدو أنّ الأجزاء الأخيرة من الرواية هي محاكمة للعهد الجديد، فبعد الترحيب العظيم الذي تلقّى به الشعب "ثورة العبيد" ومن قاموا بها، وقيام دولة جديدة تنادي بالحرية والعدالة والخبز للجميع، واستمرار الدولة لسنوات، ومواجهة جيوش روما والانتصار عليها في غير واقعة، وأكثر من جبهة، تبدأ مظاهر التعب و"الشيخوخة" الروحية في الظهور على ملامح الجميع، وخصوصًا الملك الحائر الذاهل حتّى عن نفسه وعن الربّة التي كانت تمنحه النّبوءات والانتصارات، كما يعتقد. وقد رأى تراجع التأييد الشعبيّ بسبب تراجع الظروف المعيشيّة، وباتت الغلال تنضب من الأهراءات، إلى حدّ التفكير بمساومة العدوّ، وحتّى مستوى أداء القادة العسكريّين صار في تراجع، الأمر الذي أدّى إلى الهزيمة أمام موجات هجوم جيوش روما.

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.